ما بعد حرب غزة: الموقف المصري بين رفض التهجير واحتكار مشاريع الإعمار

حجم الركام في "غزة" تجاوز 42 مليون طن، وهو ما يعادل 14 ضعف الكمية، التي خلفتها الحروب السابقة على القطاع، حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كما أن إزالة هذه الأنقاض وحدها قد تستغرق 14 عاماً، بتكلفة تقدر بـ 1.2 مليار دولار. وفي ظل هذا الدمار الهائل، يواجه أكثر من 1.8 مليون فلسطيني في "غزة" أزمة سكنية حادة، ومن المتوقع أن تستمر عملية إعادة بناء المنازل المدمرة حتى عام 2040 على الأقل.
2025-02-16

فؤاد درويش

باحث حقوقي من مصر مقيم في بريطانيا


شارك
قوافل إغاثة تتجه إلى غزّة عبر معبر رفح، مصر.

يصدح في العلن الرفض المصري الصريح لمخططات اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم. وعلى الرغم من تأكيد الرئيس السيسي أن مصر لن تشارك في تهجير أهل غزة باعتباره "ظلماً لا يمكن القبول به"، إلا أن تصريحات مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين تعكس إصراراً على تنفيذ هذا المخطط. فقد طالب مبعوث "ترامب" لشؤون الرهائن، "آدم بوهلر"، مصر والأردن بتقديم "بدائل" للتهجير بعد رفضهما استقبال الفلسطينيين، فيما كشفت مصادر إسرائيلية عن دعم جيش الاحتلال لهذه الفكرة، باعتبارها حلاً يخدم "الأمن الإسرائيلي".

وكان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قد كشف عن مقترح لإعادة توطين سكان القطاع في دول الجوار، ضمن ما أسماه "تطهير غزة". لكن المشكلة تكمن في غياب تحركات فعلية لمنع تنفيذ المخطط على الأرض. فمع توقف الحرب، وبدء الحديث عن إعادة إعمار غزة، تتجه الأنظار إلى الشركات المصرية، التي أعلنت عن استعدادها للمشاركة في العملية.

تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن حجم الركام في غزة تجاوز 42 مليون طن، وهو ما يعادل 14 ضعف الكمية التي خلفتها الحروب السابقة على القطاع حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كما أن إزالة هذه الأنقاض وحدها قد تستغرق 14 عاماً بتكلفة تقدر بـ 1.2 مليار دولار. وفي ظل هذا الدمار الهائل، يواجه أكثر من 1.8 مليون فلسطيني في غزة أزمة سكنية حادة، ومن المتوقع أن تستمر عملية إعادة بناء المنازل المدمرة حتى عام 2040 على الأقل.

شبهة التربح من المعاناة

في شوارع "غزة" التي تحمل ندوب الحرب، وبين أطلال المنازل التي كانت يوماً ما عامرة بالحياة، يتطلع الغزيون إلى إعادة الإعمار كطوق نجاة. لكن مشاريع الإعمار صارت حبيسة الصفقات والكواليس المغلقة، كما تحولت إلى مسرح تتداخل فيه المصالح السياسية مع الأطماع الاقتصادية.

تنتظر غزة تدفق أموال المانحين الدوليين لبدء عمليات إعادة البناء. وفي الوقت نفسه، تحيط الشكوك بمآل هذه الأموال، في ظل الحديث عن توجيهها لصالح شركات محددة مقرّبة من السلطة المصرية. وكانت القاهرة أعلنت عن استعدادها لاستضافة مؤتمر دولي لإعادة الإعمار في القطاع، فيما حث وزير الخارجية المصري الأمم المتحدة على ضرورة متابعة تنفيذ التعهدات المالية للجهات المانحة التي تم الإعلان عنها خلال "مؤتمر القاهرة الوزاري"، الذي عُقد في كانون الأول/ ديسمبر 2024 لتعزيز الاستجابة الإنسانية لغزة.

كانت للقاهرة التجربة الأحدث والأكثر حضوراً في ملف إعادة إعمار غزة بعد حرب العام 2021.

فـ"إبراهيم العرجاني" يُعدّ اسماً بارزاً في ملف غزة، إذ ارتبط بالتحكم في معبر "رفح" خلال فترة الحرب الأخيرة، وفرض رسوماً على مرور الأفراد والبضائع. إحدى الأدوات التي استُخدمت لفرض قيود اقتصادية مشددة على الفلسطينيين في غزة، كانت شركة "هلا" التابعة لـ"العرجاني". وقد كشفت تقارير عن فرض رسوم باهظة على المغادرين عبر معبر "رفح"، بلغت 5 آلاف دولار لكل فرد، و10 آلاف دولار على كل شاحنة محملة بالبضائع. ومع بداية الحديث عن إعادة الإعمار، عادت مجموعته الاقتصادية إلى الواجهة، إذ حصلت شركاته على عقود توريد معدات وكرفانات بأسعار تفوق بأضعاف قيمتها الحقيقية.

بعد حرب 2021 الإسرائيلية على غزّة، برزت شركات مصرية عدة، على رأسها "أبناء سيناء" التابعة لمجموعة "العرجاني"، التي تولت ملف إعادة الإعمار، كما سبق لها المشاركة في مشاريع مماثلة بعد حرب 2014. لكن الشركة تواجه اتهامات باستغلال الأزمة لتحقيق مكاسب مالية، على حساب معاناة الفلسطينيين. وقد تم الكشف مؤخراً عن قيام شركة "أبناء سيناء" بمنع استيراد الكرفانات من خارج مصر، وحصر التوريد على الشركات المصرية فقط، مما أدى إلى ارتفاع سعر الكرفان الواحد من 2000 دولار إلى 10.500 دولار، أي أكثر من خمسة أضعاف السعر الأصلي.

في شوارع "غزة" التي تحمل ندوب الحرب، وبين أطلال المنازل التي كانت يوماً ما عامرة بالحياة، يتطلع الغزيون إلى إعادة الإعمار كطوق نجاة. لكن مشاريع الإعمار صارت حبيسة الصفقات والكواليس المغلقة، كما تحولت إلى مسرح تتداخل فيه المصالح السياسية مع الأطماع الاقتصادية.

تنتظر غزة تدفق أموال المانحين الدوليين لبدء عمليات إعادة البناء. وفي الوقت نفسه، تحيط الشكوك بمآل هذه الأموال، في ظل الحديث عن توجيهها إلى صالح شركات محددة مقرّبة من السلطة المصرية. 

بحسب التقديرات، فإن إعادة إعمار غزة بعد الحرب الأخيرة ستكون الأضخم في تاريخها، متجاوزة بكثير ما شهدته الحروب السابقة. فقد قدّرت وكالة "بلومبيرغ" في آب/ أغسطس 2024 تكلفة الإعمار بحوالي 80 مليار دولار، بينما أشار "الرئيس السيسي" إلى أن الرقم قد يصل إلى حوالي 90 مليار دولار.

توسعات مشبوهة

النفوذ الاقتصادي لـ"العرجاني" لم يتوقف عند غزة، فقد امتد من "سيناء"، إلى "ليبيا". في تموز/ يوليو 2024، وقعت شركاته عقود إعادة إعمار ضخمة بمدن ليبية، لا سيما "درنة" ومدن "الجبل الأخضر"، بالتعاون مع نجل القائد العسكري الليبي "خليفة حفتر". وتضمنت هذه العقود مشاريع للبنية التحتية والطرق والجسور.

تأتي هذه العقود التي أعلن عنها "صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا" على صفحته الرسمية، في أعقاب الكارثة التي ضربت مدينة "درنة" في أيلول/ سبتمبر 2023، حيث تسببت فيضانات مدمرة في مقتل آلاف السكان، أو فقدانهم، إلى جانب تدمير أكثر من 25 في المئة من المدينة.

ولم تكن هذه الخطوة هي أولى تحركات "العرجاني" الاقتصادية في ليبيا، بل سبق ذلك دخوله إلى الساحة الليبية عبر علاقات وثيقة مع "حكومة الوحدة الوطنية"، ورئيسها "عبد الحميد الدبيبة". بدأ حضور "العرجاني" رسمياً في 18 أيار/ مايو 2023، عندما عقد "الدبيبة" اجتماعاً مع وفد مصري رفيع المستوى، ضم مسؤولين من جهاز المخابرات المصرية ورجال أعمال، كان من أبرزهم "العرجاني". وقد كشفت تلك الزيارة عن مقاربة مصرية جديدة في ليبيا، ترتكز على بعدين رئيسيين: أمني واقتصادي، حيث كان واضحاً أن القاهرة ترغب في مد أذرعها الاقتصادية في الغرب الليبي، مستخدمة شركات "العرجاني" كأداة رئيسية.

في 31 كانون الثاني/ يناير 2025، توافدت الحافلات إلى "معبر رفح" منذ ساعات الفجر الأولى، تقل مئات الأشخاص الذين تم انتقاؤهم بعناية. وجوهٌ متحمسة، هتافات مدروسة، لافتات مُعدّة مسبقاً، وأعلام تُرفع في اللحظة المناسبة. "لا للتهجير"، يهتف الجمع بصوت واحد، تتردد أصداؤه في الصحراء الشاسعة. المشهد يبدو احتجاجياً خالصاً، لكنه في الحقيقة كان جزءاً من سيناريو محْكم.

هناك من حاول أن يرفع صوته دعماً للشعب الفلسطيني، ليجد نفسه في غياهب السجون. منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، جرى القبض على حوالي 186 شخصاً على خلفية دعم فلسطين، بينهم 114 شخصاً لا يزالون قيد الحبس الاحتياطي في إجمالي 20 قضية، وفقاً للأرقام الصادرة عن "المفوضية المصرية للحقوق والحريات". 

بعد هذا الاجتماع، تعززت علاقة "العرجاني" بـ"الدبيبة"، ليبدأ في آب/ أغسطس 2023 تنفيذ مشاريع داخل غرب ليبيا. وفي ذلك الوقت، كشفت مصادر ليبية عن أن قيمة التعاقدات بين حكومة "الدبيبة" والشركات المصرية، بما في ذلك شركات "العرجاني"، بلغت 19 مليار دينار ليبي.

مشروع التهجير.. كيف يدير النظام الأزمة؟

منذ اللحظة الأولى التي طُرح فيها مخطط تهجير الفلسطينيين من غزة، كان هناك رفض مصري واسع. ومع ذلك، لم يكن هذا الرفض من جانب الرئيس "السيسي" حاسماً منذ البداية، فقد بدا في تصريحاته الأولى أن هناك تراخياً ملحوظاً، إذ لم يرفض الفكرة كلياً، بل رفض فقط أن يكون الانتقال إلى مصر، مقترِحاً "صحراء النقب" كبديل، خلال مؤتمره الصحافي مع المستشار الألماني "أولاف شولتس" في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. مؤكداً حينها أنه بإمكان إسرائيل نقل المواطنين الفلسطينيين من غزة إلى "صحراء النقب" إذا كانت متمسكة بفكرة تهجيرهم حتى الانتهاء من عملياتها العسكرية على القطاع. ومع استمرار الضغوط الأمريكية، وتجدد تصريحات الرئيس "دونالد ترامب " مؤخراً حول ضرورة أن تستقبل مصر والأردن الفلسطينيين المهجَّرين، وجد النظام المصري نفسه أمام تحدٍ حقيقي. ففي 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شجع النظام خروج تظاهرات، لكنها سرعان ما خرجت عن نطاق السيطرة، إذ تدفق الشباب إلى ميدان التحرير، مطلقين هتافات لم تقتصر على رفض التهجير، بل امتدت إلى انتقاد السلطة المصرية نفسها. كان هذا التطور جرس إنذار، دفع النظام إلى إعادة ضبط استراتيجيته، فتقرر نقل المشهد في هذه المرة إلى "معبر رفح"، على بعد أكثر من 300 كيلو متراً من العاصمة المصرية "القاهرة".

تظاهرات بأوامر من الدولة

في 31 كانون الثاني/ يناير 2025، توافدت الحافلات إلى "معبر رفح" منذ ساعات الفجر الأولى، تقل مئات الأشخاص الذين تم انتقاؤهم بعناية. وجوهٌ متحمسة، هتافات مدروسة، لافتات مُعدّة مسبقاً، وأعلام تُرفع في اللحظة المناسبة. "لا للتهجير"، يهتف الجمع بصوت واحد، تتردد أصداؤه في الصحراء الشاسعة. المشهد يبدو احتجاجياً خالصاً، لكنه في الحقيقة كان جزءاً من سيناريو محْكم.

قبلها بأيام، خرج الرئيس "السيسي" ليؤكد رفضه القاطع لمخططات تهجير الفلسطينيين إلى "سيناء"، متحدثاً باسم المصريين، قائلاً: إنهم لن يسمحوا بذلك. ولم تمضِ ساعات حتى بدأت الأجهزة الأمنية بحشد المظاهرات، ليس في "ميدان التحرير" أو شوارع "القاهرة"، بل في الأماكن التي تضمن فيها السلطة ألّا يتخلل الاحتجاج هتافات تتجاوز السقف المرسوم.

النفوذ الاقتصادي لـ"العرجاني" لم يتوقف عند غزة، فقد امتد من "سيناء"، إلى "ليبيا". في تموز/ يوليو 2024، وقعت شركاته عقود إعادة إعمار ضخمة بمدن ليبية، لا سيما "درنة" ومدن "الجبل الأخضر"، بالتعاون مع نجل القائد العسكري الليبي "خليفة حفتر". وتضمنت هذه العقود مشاريع للبنية التحتية والطرق والجسور.

كانت الرحلة إلى "رفح" مجانية، شاملة وجبة غداء وأعلاماً مصرية وفلسطينية وصوراً لرئيس الجمهورية، وربما مقابلاً مالياً للبعض، كما تردد في كواليس التنظيم. الأحزاب الموالية للنظام تسابقت إلى حشد أكبر عدد، ومنها "مستقبل وطن"، "حماة وطن"، وحتى أنصار "إبراهيم العرجاني".

مقالات ذات صلة

لكن بعيداً عن هذا المشهد، هناك أصوات أخرى لم يُسمح لها بالخروج إلى العلن. فهناك من حاول أن يرفع صوته دعماً للشعب الفلسطيني، ليجد نفسه في غياهب السجون. منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، جرى القبض على حوالي 186 شخصاً على خلفية دعم فلسطين، بينهم 114 شخصاً لا يزالون قيد الحبس الاحتياطي في إجمالي 20 قضية، وفقاً للأرقام الصادرة عن "المفوضية المصرية للحقوق والحريات". لم يكن ذنبهم سوى أنهم صدّقوا أن بإمكانهم الاحتجاج بحرّية، من دون أن يتم اختيار اللافتات والشعارات لهم مسبقاً.

وبينما تُنظَّم التظاهرات تحت إشراف الجيش والشرطة، قوبلت طلبات المعارضة لتنظيم احتجاج سلمي ضد التهجير بالرفض. فالسلطات المصرية رفضت الطلب الذي تقدمت به "الحركة المدنية الديمقراطية" لتنظيم احتجاج أمام السفارة الأمريكية في "القاهرة"، وقد صدر قرار من قاضي الأمور المستعجلة بمحكمة جنوب القاهرة بإلغاء التظاهرة، مستنداً إلى مذكرة من مدير أمن القاهرة، زعمت أن الاحتجاج قد يتسبب في "تهديد الأمن والسلم" بسبب مشاركة "عناصر أثارية"، وهو التبرير نفسه الذي تستخدمه وزارة الداخلية عادة في رفض أي تحرك شعبي مستقل خارج الأطر التي تتحكم بها السلطة.

..
هكذا هو المشهد، بينما يسعى كل من الغزيين و المصريين إلى فهم ما يمكن أن يحمله شعار "لا للتهجير" من ترجمات مختلفة، تكشف عنها الأيام القادمة.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

الإجراءات الجنائية في مصر.. شرعنة انتهاك الحريات العامة

فؤاد درويش 2024-12-05

تسوِّق السلطات هذا المشروع على أنه خطوة إصلاحية لمعالجة الثغرات القائمة في نظام العدالة الجنائية. إلا أن مراقبي حقوق الإنسان يرون فيه تهديداً مباشراً للحريات العامة، وتكريساً لممارسات الاعتقال التعسفي....