السودان: كيف انقلبت موازين المعركة بين الجيش و"الدعم السريع"

كانت الخطة ابتداء، أن تنفرد "قوات الدعم السريع" بحكم "دارفور"، التي تساقطت مدنها في أيديهم كما حبات العقد، الى أن بلغ التهديد مدينة "الفاشر"، فدخلت الحركات المسلحة طرفاً رئيسياً في الحرب، بعد إعلانها فك الحياد ومواجهة تلك القوات. وفعلياً قاومت "الفاشر" هذه الخطة ولا تزال. ويبدو الآن، وبعد هزائم "قوات الدعم السريع" في "الخرطوم" و"الجزيرة" وانسحابها منهما، أن هناك محاولة لاعادة احياء تلك الخطة مجدداً.
2025-02-06

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
التحام القطعات العسكرية في "الخرطوم بحري"

على النسق الدراماتيكي نفسه الذي سيطرت به "قوات الدعم السريع" على الخرطوم، و"دارفور" و"الجزيرة"، بدأت تتساقط المدن والمواقع من هذه القوات تباعاً، إذ صعّد الجيش والمجموعات المتحالفة معه وتيرة الحصار والهجوم عليها، مما مكّنه من استعادة مناطق واسعة تباعاً، ودون مقاومة تُذكر.

بعد أسابيع متصلة من الزحف، تمكنت وحدات من الجيش السوداني القادمة من شمال مدينة "الخرطوم بحري" - إحدى مدن العاصمة الثلاث - من الالتحام مع سلاح الإشارة جنوبي المدينة، وهو متاخم للقيادة العامة للجيش، الواقعة وسط مدينة "الخرطوم". والسمة البارزة في هذه العمليات العسكرية المهمة هي الانسحابات المزلْزِلة ل"قوات الدعم السريع" من مركز البلاد الذي سيطرت عليه منذ الأيام الأولى من الحرب، وأحكمت قبضتها عليه.

وبالتحام هذه الجيوش وفك الحصار عن قيادة الجيش بعد ما يقرب من عامين، أصبحت السيطرة على مدينة "الخرطوم" في حكم المؤكد. وبذا تصبح وحدات الجيش الرئيسية في مدن العاصمة الثلاث متصلة ببعضها البعض، ابتداء من قاعدة "وادي سيدنا" العسكرية شمال "أم درمان" مروراً بسلاح الإشارة جنوب "الخرطوم بحري" وصولاً الى قيادة الجيش وسط "الخرطوم". وهذا الشريط المحصّن الذي يمتد على طول أكثر من 40 كلم، يُمكّن الجيش من اجتياح وسط الخرطوم بشكل آمن وثابت وصولاً الى سلاح المدرعات بجنوب "الخرطوم"، وهو واحد من أهم أسلحة الجيش.

وفي ولاية "الجزيرة" جنوب "الخرطوم"، تمكّن الجيش والقوات المساندة له من تحقيق تقدّم كبير بالسيطرة على عدد من مدن الولاية خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك بعد استعادة السيطرة على مركز الولاية، مدينة "مدني"، منتصف الشهر المنصرم. وبذا أصبحت قطعات الجيش في "الجزيرة" في وضع الزحف شمالاً نحو "الخرطوم"، التي ستشهد فيما يبدو حصاراً شديداً على قوات الدعم السريع إن لم تُكْمل انسحاباتها.

ما الذي تغيّر على الأرض؟

أشرتُ في مقال سابق، أن الجيش بدأ الإعداد للحرب بعد إطلاق الرصاصة الأولى، تاركاً المواطن يتحمل الفاتورة الباهظة لهذه الحرب، ويا لها من فاتورة! وبعد إطلاق أول عملية برية في أيلول/ سبتمبر 2024، استلم الجيش زمام المبادرة بتحوله من الدفاع إلى الهجوم، بعد عام ونصف على بدئها، وتمكّن من امتصاص صدمة الهزائم المتلاحقة، وسقوط حامياته العسكرية على يد "قوات الدعم السريع".

التحول من ردة الفعل إلى الفعل أكسب جنود الجيش الروح المعنوية الدافعة لتحقيق مكاسب متواصلة، وهي الروح المعنوية ذاتها التي حافظت عليها "قوات الدعم السريع" طيلة العام ونصف السابقين، متمددة تحت نشوة النصر. لكنها بدأت تفقدها بشكل مدوّي منذ بدء هذه العملية البرية، واستعادة الجيش السيطرة على "جبل موية"، المنطقة الاستراتيجية الرابطة بين ثلاث ولايات. كانت تلك هي بداية فقدان السيطرة على وسط البلاد، وتوالي الضربات الشديدة على "قوات الدعم السريع"، وقبلها كان مقتل قائد هذه القوات في ولاية "سنار" جنوب شرق البلاد، والذي بمقتله بدأ تقهقر "قوات الدعم السريع".

منذ أيام، التحمت معاً وحدات الجيش الرئيسية في مدن العاصمة الثلاث ، ابتداء من قاعدة "وادي سيدنا" العسكرية شمال "أم درمان"، مروراً بسلاح الإشارة جنوب "الخرطوم بحري"، وصولاً الى قيادة الجيش وسط "الخرطوم". وهذا الشريط المحصّن يُمكِّن الجيش من اجتياح وسط الخرطوم بشكل آمن وثابت، وصولاً الى سلاح المدرعات في جنوب "الخرطوم"، وهو واحد من أهم أسلحة الجيش.

وفي إطار تعويض الخسائر، ظلت تلك القوات تحاول باستمرار اجتياح مدينة "الفاشر" في شمال "دارفور"، آخر معاقل الجيش في الإقليم، والمعقل الرئيسي للقوة المشتركة لحركات "دارفور" المسلحة. وفي سبيل ذلك، نفذت هذه القوات هجمات ترقى الى أن تكون انتحارية، حيث فقدت عدداً كبيراً من القيادات الميدانية المهمة عسكرياً وقبلياً، علاوة على خسائر غير مسبوقة في المقاتلين، مما اضطرها الى سحب مقاتلين من وسط البلاد إلى "الفاشر". وقد نفذت "قوات الدعم السريع" أكثر من 180 هجوماً على "الفاشر" منذ أيار/ مايو 2024. هذه الخسائر المتلاحقة في شمال "دارفور" والصحراء أضعفت بشكل رئيسي هذه القوات وحدّت من تقدمها عسكرياً، وكان لها بالغ الأثر في تردِّي الروح المعنوية للمقاتلين.

مَثّل انسلاخ قائد "الدعم السريع" في "الجزيرة"، "أبو عاقلة كيكل"، وانضمامه الى الجيش، نقطة تحوّل في "الدعم السريع". الخسائر الفادحة وسط المواطنين، نتيجة الهجمات الانتقامية لقوات "الدعم السريع" جراء هذا الانشقاق، تحوّلت الى دافع مضاعَف لتحقيق هزيمة ضدها. وفعلياً، تمكنت قوات "درع السودان" التي يتزعمها "كيكل"، مع الجيش والقوة المشتركة، من تحقيق مكاسب بائنة في ولاية "الجزيرة".

كما فقدت "قوات الدعم السريع"، بالتزامن مع هزائمها في "الخرطوم" و"الجزيرة"، أبرز قادتها إثر استهداف مسيّرة لهم، وفقاً لما نقلته صفحات موالية لها. ولكن ذلك حدث وسط أنباء عن تصفيات استهدفت بشكل رئيسي القائد الميداني "رحمة الله المهدي" الشهير ب "جلحة"، الذي لقي مصرعه مع قادة ميدانيين آخرين في "الخرطوم"، قبل أن يُعلَن أيضاً عن مقتل قائد القوات في "الجزيرة" الذي خلف "كيكل" بعد انشقاقه.

التحول من ردة الفعل إلى الفعل أكسب جنود الجيش الروح المعنوية الدافعة لتحقيق مكاسب متواصلة، وهي الروح المعنوية ذاتها التي حافظت عليها "قوات الدعم السريع" طيلة العام ونصف التي انقضت، متمددة تحت نشوة النصر. لكنها بدأت تفقدها بشكل مدوّي منذ بدء هذه العملية البرية، واستعادة الجيش السيطرة على "جبل موية"، المنطقة الاستراتيجية الرابطة بين ثلاث ولايات. 

وبعيداً عما إذا كان مصرع "جلحة" وقع في معارك عادية أو نتيجة تصفيات في صفوف "الدعم السريع"، فقد عُرف - وهو الذي ينشط بكثافة في مواقع التواصل الاجتماعي - بتصريحات جريئة ضد قادة "الدعم السريع"، رافضاً الهيمنة ومحاولاً الاستقلال بكيانه القبلي. وسبق مقتله بفترة قصيرة حادثة اقتحامه بالقوة لأحد سجون "الدعم السريع" جنوب "الخرطوم، حيث حرّر عدداً من المقاتلين المنتمين لقبيلته.

وينحدر "جلحة" من قبيلة "المسيرية" التي تمثِّل الكتلة الرئيسية الثانية في "قوات الدعم السريع" بعد قبيلة "الزريقات" التي ينتمي لها قائدها "محمد حمدان دقلو" ("حميدتي"). ويبدو جلياً اشتداد الصراع القبلي بين المكونين الرئيسيين داخل هذه القوات، ما دفع ناظر قبيلة "الزريقات" للاجتماع بقادة القبيلة الثانية في معقلهم، في غرب "كردفان"، قبيل مقتل "جلحة".

هذا الصراع القبلي المحتدم، أكده "حميدتي" في خطابه الأخير، بعبارة "الغربال ناعم"، التي وردت في خطابه. ومع تصاعد وتيرة الهزائم، سوف تتسع دائرة الشكوك بين هذه المكونات القبلية حول الولاء والخيانة.

هل انهارت قوات الدعم السريع كلياً؟

على الرغم من أن كثيرون يرون في فقدان "الدعم السريع" ل"الخرطوم" و"الجزيرة"، وقبلهما ولاية "سنار"، انهياراً أسطورياً، إلا أن هناك بعض المعطيات التي قد لا تشير إلى ذلك بشكل جازم. صحيح أن تلك القوات فقدت القدرة على الاحتفاظ بسيطرتها على "الخرطوم" و"الجزيرة"، لكنها انسحبت من "الخرطوم" بكامل مقاتليها وعتادها وبدأت التوجه غرباًز وتدور في الأذهان الكثير من الأسئلة على شاكلة: لماذا لا يستهدف طيران الجيش القوات المنسحِبة، وبشكل خاص، القوات التي كانت تسيطر على مصفاة "الجيلي" شمال "الخرطوم"، وهي قوات نخبة ومزودة بعتاد نوعي.

سرت أنباء عن تصفيات استهدفت القائد الميداني الشهير ب "جلحة"، الذي لقي مصرعه مع قادة ميدانيين آخرين في "الخرطوم". وينحدر "جلحة" من قبيلة "المسيرية" التي تمثِّل الكتلة الرئيسية الثانية في "قوات الدعم السريع" بعد قبيلة "الزريقات" التي ينتمي لها قائدها "حميدتي". وبسبب الصراع القبلي المحتدم، ومع تصاعد وتيرة الهزائم، سوف تتسع دائرة الشكوك بين هذه المكونات القبلية حول الولاء والخيانة.

قد يقول قائل أن المقاتلين يعرفون تماماً كيف ينسحبون، كما حدث مع الجيش نفسه الذي انسحب بكامل جنوده وعتاده من عدد من المواقع. لكن، وعلى أية حال، فإن "قوات الدعم السريع" احتفظت خلال هذه الانسحابات بقواتها. وهي لا تزال محتفِظة بأعداد مقدّرة من المقاتلين، هذا علاوة على موجات الاستنفار القبلي التي تَضعف في مكان وتشتد في آخر.

وهكذا، سوف تركِّز "قوات الدعم السريع" معاركها للسيطرة على "الفاشر" بحشد المقاتلين المنسحِبين من وسط البلاد، بالإضافة للقوات الموجودة هناك. يعزز ذلك التقارير الصحافية التي تتحدث عن سحب "القوات المشتركة" (الجيش والمجموعات المسلحة المتحالفة معه) لكل مقاتليها من وسط "السودان" والدفع بهم إلى "الفاشر"، بعد معلومات عن نقل "قوات الدعم السريع" لعتاد ثقيل من قاعدة "معطن السارة" في أقصى الجنوب الليبي، إلى "دارفور"، مما يشير الى التهيوء لمعارك فاصلة هناك.

ولا بد من استحضار أن الخطة ابتداءً، كانت أن تنفرد "قوات الدعم السريع" بحكم "دارفور"، التي تساقطت مدنها في أيديهم كما حبات العقد، الى أن بلغ التهديد مدينة "الفاشر"، فدخلت الحركات المسلحة طرفاً رئيسياً في الحرب، بعد إعلانها فك الحياد ومواجهة "قوات الدعم السريع". وفعلياً قاومت "الفاشر" هذه الخطة ولا تزال.

من الصعوبة التنبوء بمصير "الفاشر" بعد هذه المتغيرات. غير أن نتائج معارك "الفاشر" هي ما سيقرر مصير "قوات الدعم السريع". انهيار هذه القوات أو محاولة إعادة ترتيب صفوفها سوف تحدده "الفاشر" دون غيرها من المعارك، لذا سوف ينتقل، خلال الأيام القادمة، زخم المعارك كله إلى هناك حيث سيتقرر المصير الأخير لهذه الحرب.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه