"مدارس الريادة" في المغرب: هل هي حقاً رائدة؟

يخص مشروع "مدارس الريادة" 540 ألف تلميذ، من أجل تحسين "تعلماتهم" الأساسية، وتقليص نسبة التلاميذ المتعثرين، وتوفير برنامج للدعم المدرسي لفائدة 70 ألفاً من التلميذات والتلاميذ المتعثرين في "مؤسسات الريادة" في التعليم الإعدادي.
2025-01-23

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
مدارس "الريادة" الإبتدائية في المغرب

"يمكننا القول بأنه تحسّن"! بعد عقود طويلة من الإصلاحات التعليمية الفاشلة والمتعثرة والمرتبكة، يجد وزير التربية المغربي الحالي ما يتمسك به ليشفي (ربما) عِلَلَ التعليم المغربي، من خلال اعتماد وصفة "مدارس الريادة". وكان قد سبق أن اعترف قبله الوزير الأسبق "محمد حصاد"، بأن هذه المنظومة "مريضة"، لأن التلاميذ لا يفقهون خوارزميات الرياضيات، ولا لغة "موليير"، ولا حتى قواعد "الجاحظ".

فهل فعلاً تحسّن مستوى تلاميذ المغرب؟ وهل حقاً هذه المدارس المبتكَرة "رائدة"؟

"الريادة" لا تشمل كلّ المدارس

اعتُمد مشروع مدارس "الريادة" في التعليم الابتدائي الحكومي، بدءاً من الموسم الدراسي الفائت (2023-2024)، وتم توسيعه ليشمل مئات المؤسسات الإعدادية الحكومية خلال هذا الموسم، واستفاد منه أكثر من مليون تلميذ مغربي خلال الموسم الحالي، مستهدفاً تلاميذ التعليم الابتدائي بنسبة 30 في في المئة، في الوسطين القروي والمديني.

لا يشمل هذا المشروع كل مدارس البلد، لكن وزارة التربية أكدت أنها ستعمم هذه التجربة "الإصلاحية" على المدارس، على نحو تدريجي في ظرف 3 سنوات تقريباً.

مقالات ذات صلة

ولم يتم إقرار هذا المشروع التربوي إلا بعد أن وصل الوضع التعليمي إلى أسوأ أيامه، على مستويات شملت في الأساس وضعية المتعلِّم أولاً والمدرِّس ثانياً، فكان لزاماً على هذا المشروع أن يحقق أهداف "الرفع من جودة التعلمات الأساس[1] والتحكم بها، وتطوير كفايات (مهارات وقدرات ومعارف) التلاميذ والحد من الهدر المدرسي، وتعزيز تفتح المتعلِّمين". ولتنفيذ هذا المبتغى، تمَّ اعتماد "البرنامج الوطني لمعالجة التعثرات"، وفق مقاربة "التدريس وفق المستوى المناسب"، الذي يخص 540 ألف تلميذ معنيٍّ بهذه الخطة، من أجل تحسين "تعلماتهم" الأساسية، وتقليص نسبة التلاميذ المتعثرين، وتوفير برنامج للدعم المدرسي لفائدة 70 ألفاً من التلميذات والتلاميذ المتعثرين في "مؤسسات الريادة" في التعليم الإعدادي.

مدارسٌ نصفُ "رائدة"

يقول وزير التربية الحالي إن كلفة تجهيز الفصل الدراسي الواحد تبلغ 15 ألف درهم (حوالي 1500 دولار) في مدارس "الريادة"، لكن الواقع يقول إن قطاعاً مهماً من هذه المدارس لم تصل إليها بعد هذه الأموال مع بداية الموسم الدراسي، لتصير بذلك "نصف رائدة". فالأساتذة اشتكوا من غياب تجهيزات العمل، مثل الحواسيب أو الوثائق الضرورية، علاوة على غياب شبه كلي لكراسات المتعلمين.

ووفق مصادر صحافية محلية، فإنه لم تصل السبورات المغناطيسية إلى الفصول الدراسية في 2000 مدرسة ابتدائية جديدة، وفي 23 إعدادية جديدة. ومرد ذلك أن نائلي الصفقة (الشركات المتعاقِدة) وزعوا 50 في المئة من الحصة التي نالوها في الصفقة، ما تسبب في صعوبة استكمال تركيب السبورات المغناطيسية في كل حجرة دراسية، التي من المفروض أن تثبت فيها سبورتان.

لا يشمل المشروع كل مدارس المغرب، لكن وزارة التربية أكّدت أنها ستعمم هذه التجربة "الإصلاحية" على المدارس على نحو تدريجي في ظرف 3 سنوات تقريباً. وفي الأصل، لم يتم إقرار هذا المشروع التربوي إلا بعد أن وصل الوضع التعليمي إلى أسوأ أيامه، على مستويات شملت في الأساس وضعية المتعلِّم أولاً والمدرِّس ثانياً. وتشيد الأبحاث المؤيدة لمشروع الوزارة باعتماد الحلول الرقمية والتكنولوجية.

 لم تقنع الإحصاءات الكمية والكيفية "المتحيزة" إلى مؤسسات "الريادة" الأصوات المنتقِدة لها، التي تعتبرها "غير رائدة" بالقدر الكافي، إذ ترى أن الدراسة لم تمثل مجتمع التلاميذ المستهدَفين على نحو دقيق، كما أن النتائج جاءت لتُقَيِّمَ موسماً دراسياً واحداً، موسوماً بأزمات عالقة وإضرابات المدرسين التي استمرت حوالي 3 أشهر، وهو أمر يدعو إلى التشكيك في موضوعية ودقة وموثوقية هذه الأرقام.

بيد أن هذه العراقيل اللوجستية، قد تمت معالجتها تدريجيّاً، أو على نحو متأخر (كعادة هذا القطاع) خلال الشهور اللاحقة. لكن، تظل الطامة الكبرى التي تتجدد خلال كل موسم دراسي في حضور الاكتظاظ في الفصول الدراسية، وهو وجع يقض مضجع السواد الأعظم من المدرسين، الذين يواجهون الأمرين في تدبير العملية التعليمية والتعلمية.

"الريادة" للمتعثرين أولاً

جاء مشروع "مدارس الريادة" ليعالج بالضرورة المشاكل التعلمية والتعليمية للتلاميذ المتعثرين أكثر من الفئات الأخرى، كالمتفوقين. وهو أمر لوحظ من قبل تربويين، إذ عاينوا الاختبارات المعتمدة والأنشطة المدرسية، التي تكرس "تهميشاً" للمتفوقين والمتعلمين، الذين لا يواجهون صعوبات في "التعلمات" الجزئية البسيطة في: الحساب، والقراءة، والتعبير الشفهي، وغيرها.

عملياً، تخصص هذه المدارس الأسابيع الستة الأولى من الموسم الدراسي لتشخيص الأداء التربوي لكل التلاميذ على حد سواء، واستدراك مستواهم الضعيف، ثم توزيعهم ضمن فئات، بحسب النتائج المحصَّلة لهذا التشخيص التربوي. ويتم بالتالي تصنيف كل مجموعة من التلاميذ ضمن فئة معينة، من أجل تطوير مستواهم التعليمي.

اعتمدت وزارة التربية برنامج "التعليم الصريح"[2] و"مقاربة "tarl " الهندية، لمواجهة هذه التعثرات التربوية. لكن هذا الحل فُرِضَ فرضاً على مدرسي "مدارس الريادة"، إذ لم تترك لهم مجال الاجتهاد في اختيار منهجية مرنة تتأقلم بحسب ظروف متعلميهم، وهو أمر لا يحضر في بقية المدارس الحكومية، التي لم تشملها هذه المقاربة.

هي حقاً "رائدة" في نظر الأرقام

تحاول وزارة التربية أن تسرِّع خطاها لِتٌثْبت للرأي العام المحلي أن هذا المشروع هو حقاً "رائد" و"ناجح" بلغة الأرقام والإحصاءات، التي تفيد بأن "النتائج في مادة الرياضيات تضاعفت ست مرات مقابل 5 في السنة الماضية، في حين تحسنت في الفرنسية بمرتين وفي العربية بثلاث". أي هي النتائج نفسها المحصَّل عليها في الموسم الأول في مؤسسات الريادة.

تفتخر الوزارة بما تعتبره "إنجازاً كبيراً"، يخص الأداء التربوي والتعليمي لـ"مدارس الريادة"، معتمدة على نتائج دراسة أنجزها مختبر MEL [3]، أفادت بأن مستوى التلاميذ تحسن بمقدار 0,9 من الانحراف المعياري [4]écart-type في جميع المواد المُدرَّسة، كما أن مستوى التلميذ المتوسط في "مدرسة الريادة" تجاوَز حالياً حوالي 90 في المئة في مادة اللغة الفرنسية، وحوالي 82 في المئة، في الرياضيات بالنسبة إلى التلاميذ في المجموعة المقارنة.

توجِز حركة "أتاك المغرب" (المناهضة للعولمة والنيوليبرالية) نقدها في القول الآتي: "المؤسسة أفضل من تلك، وعلامة جودتها أفضل من تلك، وأساتذتها أفضل من بقية زملائهم بالقطاع (التنافس بين الأُجراء)، وتلامذتها أكثر تفوقاً، وستنال استحسان الآباء والأمهات وتحفز استعدادهم للدفع أكثر".

تبدو الدروس المعتمدة بسيطة جداً، ولا تواكب المنهاج التعليمي المعمول به في بقية المدارس الحكومية، وهذا الأمر لوحظ على نحوٍ جليّ في امتحان نيل شهادة السادسة ابتدائي، المعتمد في هذه المدارس، الذي يبدو لكثير من التربويين بأنه يوافق ويطابق مستوى الرابع ابتدائي وليس السادس ابتدائي. إذاً، هذا المعطى وسواه كفيل بأن يفضي إلى نتائج "جيدة"!

تشيد هذه الدراسة وسواها من الأبحاث المؤيدة لمشروع الوزارة باعتماد الحلول الرقمية والتكنولوجية، وهي خطوة ترى بأنها "تحفز الأستاذ على تنويع أدوات الشرح واختبار مهارتَي الفهم والاستيعاب لدى التلاميذ"، كما أنها "مكنت التلميذ من التركيز أكثر، ومن المشاركة داخل القسم". أما "محفزات العناية والاهتمام بالأثر التربوي على مستوى "التعلمات" لدى التلميذ، فمتوفرة أكثر داخل مدارس "الريادة" مقارنة ببقية المدارس الحكومية.

ليست "رائدة" في نظر منتقدِيها

لم تقنع الإحصاءات الكمية والكيفية "المتحيزة" إلى مؤسسات "الريادة" الأصوات المنتقِدة لها، التي تعتبرها "غير رائدة" بالقدر الكافي، إذ ترى أن الدراسة لم تمثل مجتمع التلاميذ المستهدَفين على نحو دقيق، كما أن النتائج جاءت لتُقَيِّمَ موسماً دراسياً واحداً، موسوماً بأزمات عالقة وإضرابات المدرسين التي استمرت حوالي 3 أشهر، وهو أمر يدعو إلى التشكيك في موضوعية ودقة وموثوقية هذه الأرقام.

الخبير التربوي "أخيطوش سعيد"، أكد أن "مشروع الريادة" ركّز في الأساس على رصد "تعلمات" جزئية، مثل إنجاز عملية جمع عددين. فبحسبه لا يدلّ هذا الأمر على أن "المتعلم قد اكتسب مهارة معينة في الرياضيات إلا بعد استخدامها ضمن تمارين وأنشطة تعليمية، ومسائل نجدها غير واردة في البلاغات والمنشورات الصادرة لتأكيد النجاح".

تبدو الدروس المعتمدة بسيطة جداً، ولا تواكب المنهاج التعليمي المعمول به في بقية المدارس الحكومية، وهذا الأمر لوحظ على نحوٍ جليّ في امتحان نيل شهادة السادسة ابتدائي المعتمد في هذه المدارس، الذي يبدو لكثير من التربويين بأنه يوافق ويطابق المستوى الرابع ابتدائي وليس السادس ابتدائي. إذاً، هذا المعطى وسواه كفيل بأن يفضي إلى نتائج جيدة، لأن معظم "التعلمات" المعتمدة في "مدارس الريادة" تظل بسيطة نوعاً ما، وفي متناول جلّ المتعثرين، فما بالك بالمتفوقين ومتوسطي الأداء التعليمي.

لا يكتفي منتقدو هذا المشروع التعليمي بملامسة الجانب التربوي، بل رصدوا أيضاً عيوباً تمثلت في أن هذه المدارس تكرس وضعية التمييز بين نسقين تعليميين داخل منظومة التعليم الحكومي، إذ إن المؤسسات التعليمية التقليدية تمضي بسرعة لا تتماهى مع سرعة مؤسسات "الريادة"، ما يضرب مبدأ تكافؤ الفرص في مقتل، ويعمِّق الهوة بين تلاميذ المدرستين. وهذا الأمر لوحظ من قبل مدرِّسي التعليم الإعدادي، الذين عاينوا اختلافاً واضحاً بين متعلمي النمطين، الذين انتقلوا من مستوى التعليم الابتدائي إلى السنة الأولى من التعليم الإعدادي.

هذا التمييز تراه أصوات ذات نفس يساري مناهض للسياسات النيوليبرالية، بأنه يكرس لما هو أبعد من ذلك، إذ ترى بأن هذا المشروع يخطو نحو ما تصفه بـ"تسليع المدرسة العمومية (الحكومية)" بشكل تدريجي وممنهج، من خلال تبني سياسة تهميش و"تبخيس" المدرسة العمومية (الحكومية) منذ عقود ممتدة، ما يستلزم "إخضاعها" لاحقاً لذهنية وبنية القطاع الخاص الربحية، أو في أحسن الأحوال اعتماد آليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

وتبدو هذه المخاوف بعيدة في الوقت الراهن، إذ لم تظهر ملامحها على نحو مكشوف. بيد أنه تَحْضر انتقادات أخرى تكمن في عملية منح المدرسة "الرائدة" لـ"علامة الجودة"، كاعتراف من قبل الوزارة بأنها نجحت في تحقيق كل الأهداف المحددة لها في القانون المؤطِّر لهذا المشروع. وهذا الأمر تراه هذه الأصوات تكريساً لما هو سائد بين شركات القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية الخاصة، أي المنافسة بروح ربحية استثمارية.

هذا المشهد، توجزه حركة "أتاك المغرب" (المناهضة للعولمة والنيوليبرالية) في القول الآتي: "المؤسسة أفضل من تلك، وعلامة جودتها أفضل من تلك، وأساتذتها أفضل من بقية زملائهم بالقطاع (التنافس بين الأُجَراء)، وتلامذتها أكثر تفوقاً، وستنال استحسان الآباء والأمهات وتحفز استعدادهم للدفع أكثر".

لكن...

وبعيداً عن وجهات النظر المتباينة بين التأييد والنقد، فإنه لا يمكن الحكم على نحو حاسم ونهائي وجاهز على هذا المشروع "الإصلاحي"، الذي لم يصل بعد إلى مرحلة الرسوخ الكافي، في نسق وبنى التربية والتعليم في البلد. فلا تزال أمامه سنوات إضافية حتى يُعمم على بقية المدارس الحكومية. وهنا قد يطرح هذا السؤال المتجدد: هل سيلقى هذا المشروع مصير "الفشل" كسواه من المشاريع الإصلاحية التعليمية التي تبنتها وزارة التربية منذ الاستقلال؟ أم أنه فعلاً سيسهم في تجاوز أمراض التعليم؟

______________________

  1. تشمل: القراءة، والكتابة، والتعبير الشفهي، والحساب.

  2. - نهج تربوي، أسسه العالم التربوي "أنجلمان"، يركز على تقديم المعارف والمهارات على نحو مباشر للطلاب، من أجل تلقين فعّال للمفاهيم الأساسية والمعقدة للمتعلمين الجدد أو المتعثرين في التعلم الدراسي.

  3. - قام بإنجاز هذه الدراسة، المحرَّرة باللغة الإنجليزية، “مختبر المغرب للابتكار والتقييم” (المعروف اختصاراً بـMEL )، وهي ثمرة تعاون بين "جامعة محمد السادس" متعددة التخصصات التقنية (UM6P)، ومختبر "عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر" (J-PAL) التابع لـ"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، وأيضا مؤسسة “هارفارد للتنمية الدولية" CID

  4. - يسمى بالإنجليزية: Standard deviation .

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

مستشفياتٌ للبيع: نحوَ خصخصة مُقَنَّعَة للصحة في المغرب

تقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً...