تتعدد أسماء ألبسة الرأس الرجّالية في اليمن. وعلى ذلك، فكل التسميات يمكن أن تحيل عليها تسمية "العمامة"، تلك القطعة المستطيلة من القطن أو الحرير الخفيف، التي يتم ترتيبها فوق بعضها في طبقات، ثم تُلف على الرأس بطريقة دائرية معينة[1]. كما أنها قد تتكوّن من إطار من الورق المقوّى، يشبه علبة صغيرة، يُلفّ حوله "الشال"[2].
خصوصية "الدّسمال" و"الشال"
"الدّسمال"، واحدٌ من أشكال "العمامة"، في اليمن، يعود جذره اللغوي إلى اللغة الفارسية، إذ يحمل فيها الدلالة على "المنديل"، الذي يُلف على الرأس بشكل معين. وهي الدلالة نفسها السائدة لهذا اللفظ في اليمن، مع خصوصيته اليمنية، ومنها أن ألوانه يغلب عليها أن تكون مختلفة متنوعة ومخططة، مع طغيان اللون الأخضر عليها. كما أنه أكثر ارتباطاً بأزياء محافظة "تعز" (وسط اليمن)، بما في ذلك اقترانه بـ"المشْقر" الذي يوضع فيه. و"المشاقر" مجموعة من النباتات العطرية زكية الرائحة، التي تُعدّ مكوّناً مهمّاً من مكونات الثقافة الشعبية في اليمن عامة، وفي محافظة "تعز" على وجه خاص.
لغة "المَشَاقِر" في اليمن
03-11-2022
وقد حظي "الدسمال" باهتمامٍ كبير في السنوات الأخيرة، إذ استعاد حضوره في مناسبات الزفاف في محافظة "تعز"، سواءٌ في محيطها الريفي، الذي لا يزال محتفظاً بالأزياء التقليدية، أو في مركزها الحضري. إذ أُعيد "الدّسمال" إلى "زيّ الفرحة التعزِّيّة"، بحسب ما يشير إلى ذلك الأستاذ "عبد الخالق سيف"[3].
بدأت دلالة الأزياء، ومعها ألبسة الرأس، في التراجع، بعد نجاح "ثورة سبتمبر 1962"، ليبلغ هذا التراجع ذروته بعد الإعلان عن قيام الوحدة بين شطري اليمن في 22 أيار/مايو 1990، ولا سيما بعد مصادقة البرلمان اليمني على قرار ارتداء البذلة الإفرنجية في اللقاءات الرسمية والتمثيل السياسي والدبلوماسي لليمن والوظائف العامة.
أمّا "الشّال" المصنوع من الصوف ــ الذي يُعدّ أحدث أشكال ألبسة الرأس الرجالية في اليمن ــ فقد ظهر مع نشاط الحركة التجارية من دول شرق آسيا إلى اليمن. وقبل ذلك، كان اليمنيون يرتدون ألبسة الرأس المصنوعة محليّاً من مادة "القطن".
ويتميّز "الشّال" عما كان سائداً قبله، في وفرة نقشاته وتطريزاته، وتجاوزه الشكل المستطيل الذي كان معتاداً، إذ اتخذ شكله الخاص المربع المتساوي، الذي يتم ثنيُه طبقتين على شكل مثلث، إمّا يُلفّ به الرأس، أو يُثبّت على الكتفين.
الدلالات السياسية والاجتماعية
على ما تمثّله ألبسة الرأس الرجالية في اليمن من ملمح اجتماعي عام، إلّا أن ذلك لم يحل دون ارتباط هذه الألبسة بعددٍ من الدلالات الاجتماعية والسياسية، التي تشير الى المراتب والوظائق وال"مكانات". فقبل ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، كان "الإمام" يلبس "عمامة" ذات عذبتين، إحداهما تتدلى من الخلف، والأخرى من فوق خده الأيسر، بينما كان أولاده يرتدون "عمامة" ذات عذبة ممتدة من الخلف حتى منتصف الظهر. وكان مَن يشغلون مناصب سياسية مهمة في الدولة يرتدون "العمائم المقولبة"، أمّا القضاة فقد كانوا يلبسون "العمائم العادية".
تبدلات الزي السياسي في اليمن (1)
17-09-2020
تبدلات الزي السياسي في اليمن (2)
24-09-2020
ثم بدأت دلالة الأزياء ــ ومنها ألبسة الرأس ــ في التراجع، بعد نجاح "ثورة سبتمبر 1962"، ليبلغ هذا التراجع ذروته بعد الإعلان عن قيام الوحدة بين شطري اليمن في 22 أيار/مايو 1990، ولا سيما بعد مصادقة البرلمان اليمني على قرار ارتداء البذلة الإفرنجية في اللقاءات الرسمية والتمثيل السياسي والدبلوماسي لليمن والوظائف العامة. وهو الزي السياسي الذي لا يزال سائداً، مع ما حدث، ويحدث فيه بين الحين والآخر من تبدّلات...
يحيل الشال، من خلال نوعه وطريقة ارتدائه، على المستوى الاقتصادي لمن يرتديه، كما يحيل على مكانته ومستوى ما يحظى به من وجاهةٍ في محيطه الاجتماعي. بل ويحيل على المكان الذي ينتمي إليه الشخص، لاختلاف طرائق ارتدائه من منطقة إلى أخرى، ومن قبيلة إلى غيرها.
من أهم تجليات الدلالة الاجتماعية لـ"الشال" في اليمن، ارتباطه بمعنى "الجاه". فحينما يلقيه شخصٌ ما أمام متخاصمين، قائلاً: "بجاه الله". فإن معنى ذلك أنه يُلحّ على قبولهم بالصلح، وعلى أن يتولى حلّ القضية التي يختصمون فيها.
في المقابل، لم يحدث تراجعٌ مماثل في الدلالة الاجتماعية لألبسة الرأس، وذلك لارتباطها التكويني بالمورث الشعبي، وعادات اليمنيين وتقاليدهم. وهو ما عمل على تنامي الدلالة الاجتماعية لـ"الشال". فمن خلال نوعه وطريقة ارتدائه، يحيل على المستوى الاقتصادي لمن يرتديه، كما يحيل على مكانته ومستوى ما يحظى به من وجاهةٍ في محيطه الاجتماعي. بل ويحيل على المكان الذي ينتمي إليه الشخص، لاختلاف طرائق ارتدائه من منطقة إلى أخرى، ومن قبيلة إلى غيرها.
"شال" العُرس والجاه
يحظى "الشال" بصلة حميمة بمناسبات الأعراس، وحضور جوهريّ في أزيائها، إذ لا بد من أن يرتديه "العريس"، بطريقة خاصة مميزة تلفت الانتباه، فتحيل على شخصيته المحورية فيها. وفي سياق ذلك، تأتي دلالة التبرُّك بـ "الشال"، في هذه المناسبات، إذ يحضر في اللحظة الخاصة بإجراءات "عقد القران". فبعد أن ينتهي الأمين الشرعي من كتابة العقد والتوقيع عليه من الطرفين (العريس/ وأب العروسة أو مَنْ يقوم مقامه)، يضع يدَ كلٍّ منهما في يد الآخر، ثم يغطي اليدين المتصافحتين بـ"الشال".
كما تتجلّى الدلالة الاجتماعية لـ"الشال"، في ارتباطه بـ"رقصة البرع" الرجالية، التي عادة ما يقترن أداؤها بـ"الخنجر اليمني/ الجَنْبية"، الذي يرفعه الراقص ملوّحاً به بيد، وفي اليد الأخرى "شالٌ"، تم ثنيُهُ بطريقة خاصة، تجعل منه في يد الشخص الملوّح به مماثلاً لأدوات الحرب كـ"الترس" أو "الدرع".
ومن ناحية أخرى، تظهر علاقة "الشال" بـ"الجنبية"، في صورة من الاقتران والتلازم بينهما. فغالباً ما يرتدي الوجهاء وشيوخ القبائل "شالين" اثنين، الأول يُلَفّ "عمامةً" على الرأس، والثاني يُثْنى ويُوضع فوق الكتف.
من أهم تجليات الدلالة الاجتماعية لـ"الشال" في اليمن، ارتباطه بمعنى "الجاه". فحينما يلقيه شخصٌ ما أمام متخاصمين، قائلاً: "بجاه الله". فإن معنى ذلك أنه يُلحّ على قبولهم بالصلح، وعلى أن يتولى حلّ القضية التي يختصمون فيها.
وقد يُلقي شخصٌ ما بـ"الشال" أمام آخر، ليحصل منه على تنازلٍ معينٍ، أو يلبي حاجة من حاجاته، أو يساعده في حل مشكلة من مشاكله، أو يبدي موافقة على رأي من آرائه. كما قد يفعل ذلك لكي يضفي نوعاً من الضغط على الآخرين، حتى يستجيبوا لرغبة يريد تحقيقها، كأن يدعوهم إلى تناول الطعام لديه، فلا يجد استجابة منهم، فيضطر إلى إلقاء "شاله" أمامهم، وهنا، لا مجال لديهم سوى الاستجابة وتلبية الدعوة.
تنوّعٌ في الشكل والوظيفة
في سياق تأكيده خاصية التنوع في ألبسة الرأس الرجالية في اليمن، يشير الدكتور "عبد العزيز المقالح" إلى ما بلغتْه هذه السمة من فرادة، حدّ أن حيّرته في عدم استطاعته أن يجد شخصين متّفقَين في نوعية وطريقة واحدة، من طرائق ارتداء هذا الجزء من الأزياء الرجالية. ويعود ذلك برأيه إلى حال نفسية، يحتشد فيها الإحساس بالفردية، إذ يتمسّك كل شخص بأسلوبه المخالف والمختلف في طي اللباس الواحد[4].
ولا يقتصر هذا التنوع على شكل ألبسة الرأس وطرائق ارتدائها، بل يمتد ليشمل وظائفها واستخداماتها المتنوعة، في سياقات اجتماعية ومواقف يومية متعددة. فإلى وظيفته الرئيسة لباساً للرأس، استخدم اليمنيون "الرديف"، في حمل الأشياء على ظهورهم، منها ما كانوا يجمعونه فيه من حاجاتهم التي يعودون بها من الأسواق، لا سيما الريفية منها[5]. وحينما ظهر "الشال"، حل محل "الرديف" واضطلع بالوظيفة نفسها، ليس في استيعاب مشتريات الأسواق فحسب، وإنما استيعاب ما يمكنه استيعابه من أشياء اليمنيين، التي يرغبون في حملها على ظهورهم.
استخدامات علاجية ووقائية
يُستخدم "الشال" استخدامات علاجية أو وقائية. فمن وظائفه العلاجية ما ينتمي إلى ممارسات الطب الشعبي، كاستخدامه في معالجة شدٍّ عصبيٍّ أُصيبتْ به رقبة أحدهم. فبالتزامن مع تثبيت رأس المريض برأس المعالج أو يده، يقوم هذا الأخير بلفّ "الشّال" حول رقبة المصاب، وبه يسحبها نحوه بقوة مناسبة، حتى يُسمَع صوت فرقعة انفكاك العصب المشدود. كما يتم استخدامه رباطَ تجبيرٍ لكسرٍ من الكسور، أو استخدامه رباطاً لجرح غائر لإيقاف النزيف.
"الشّال" وطقوس "القات"
تتجلى صورٌ متعددة من وظائف "الشال"، في مجالس "القات" وتقاليده، فمن الناس من يحرص على غسل أغصان "القات" قبل تناولها، فيتخذ من "الشال" منديلاً لتجفيفها بعد غسلها. كما يستفيد منه بعضهم في اتخاذه ملاءةً يغطي بها رجليه في طقوس تناول "القات"، لإضفاء مزيد من التدفئة للركبَتين، لا سيما عند كبار السن. أما حينما يصاب أحدهم بشرق مفاجئ، وكانت حاله حرجة، فسرعان ما يضع أحدهم جزءاً من "شاله" على أنف المصاب، وينفخ في رئتيه لينقذه. فمن غير الممكن أن يفعل ذلك بشكل مباشر، تحاشياً لنثار "القات"، الذي لا شك في أن عملية النفخ ستقذف به إلى رئتي المصاب، إن لم يتم اتخاذ هذا الإجراء.
قد يُلقي شخصٌ ما بـ"الشال" أمام آخر، ليحصل منه على تنازلٍ معينٍ، أو يلبي حاجة من حاجاته. كما قد يفعل ذلك لكي يضفي نوعاً من الضغط على الآخرين، حتى يستجيبوا لرغبة يريد تحقيقها، كأن يدعوهم إلى تناول الطعام لديه، فلا يجد استجابة منهم، فيضطر إلى إلقاء "شاله" أمامهم، وهنا، لا مجال لديهم سوى الاستجابة وتلبية الدعوة.
من المُعمّرين مَن يشير إلى أن الشخص الذي كان يرغب في الحصول على مساعدة من أهل قريته - ليبني منزلاً مثلاً أو ليدرأ مُصيبة ألمّت به - فيقوم بربط "الشّال" على عمود من أعمدة مسجد القرية، وحينما يراه المصلّون يُدركون أنه مرتبط بحاجة شخص ينتظر منهم المساعدة، فيضع فيه كل واحد منهم ما يمكن أن يجود به.
ثم تأتي وظائف "الشال" المتعلقة بإجراءات قطف أغصان "القات" والعناية بها. سواءٌ من العاملين في بيعه، أو ممن يتناولونه، إذ يتخذون من "الشال" وسيلة لحفظ طراوة أغصانه. فيتمّ تبليل "الشال" بالماء، ثم يُفرش، وتُجمع فيه حُزم "القات"، وتُلَفُّ به.
ويحرص الرعاة في الجبال على تبليل "الشيلان" التي يرتدونها على رؤوسهم بالماء، ومثلهم العاملون في المزارع. كما تمتد وظيفة "الشال" إلى استخدامه لحافاً خفيفًا مبلّلاً في ليالي الصيف الحارة، لتلطيف مساعد على النوم.
"شال" التبرّعات
من أهم وظائف "الشال" في اليمن استخدامه وسيلة لجمع المساعدات، أو التبرّعات، أو نقود التسوّل. لا سيما في الجوامع بعد الصلاة، وتحديداً بعد صلاة الجمعة. ولهذه الوظيفة امتدادٌ في التقاليد الشعبية. فمن المُعمّرين مَن يشير إلى أن الشخص الذي كان يرغب في الحصول على مساعدة من أهل قريته، ليبني منزلاً مثلاً أو ليدرأ مُصيبة ألمّت به، يقوم بربط "الشّال" على عمود من أعمدة مسجد القرية، وحينما يراه المصلّون يُدركون أنه مرتبط بحاجة شخص ينتظر منهم المساعدة، فيضع فيه كل واحد منهم ما يمكن أن يجود به.
كما تتصل باستخدام "الشال" مفروشاً، عددٌ من الوظائف، منها استخدامه سجادة صلاة بديلة، في بعض المجالس والأماكن، التي لا تتوافر فيها سجادة خاصة بأداء هذه الشعيرة.
"الشال" إذاً هو مما لا يُستغنى عنه في اليمن..
-
"الندوة الدولية الثانية لرداء الدولة"، صنعاء، 2005، ص44. ↑
-
لوسين تامينيان، "اليمن كما يراه الآخر". المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية، 1997، ص124. ↑
-
هشام سرحان، "الزي الشعبي التعزي امتداد للجمال والألفة والحضور". موقع قناة بلقيس، 31 أكتوبر 2020، متاح على الرابط الآتي: https://shorturl.at/YVonD ↑
-
"الندوة الدولية الثانية لرداء الدولة". مرجع سابق، ص148. ↑
-
لطف الصراري، "عن الأسواق الريفية في اليمن". منصة السفير العربي، 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/5dHxk ↑