"الزامل"، ورقصة الحرب في اليمن

مثّلت معركة غزّة الجارية، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين أول2023، مرحلةً جديدة في مسيرة الشعر الشعبي الحماسي أو "الزامل"، إذ تجاوز الفضاء المحلي باستيعابه مضامينها، ومواكبته لأحداثها، بدءاً من الذي اتُخذ من يوم انطلاقتها عنواناً له، "صباح السبت"، والذي تميز بحيوية أدائه وطابعه الحماسي، وصيغته التجديدية في مطلعه الإيقاعي.
2024-01-31

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
رقصة الحرب في اليمن

في الساعات الأولى من فجر الثاني عشر من كانون الثاني/يناير 2024، شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا غارات جويّة على عددٍ من مواقع جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، ردّاً على عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، التي يستهدفون من خلالها السفن المتجهة إلى إسرائيل.

وبمعية سماع أصوات الانفجارات والقصف، كانت أصوات "الزوامل" الحماسية تتعالى من مكبرات الصوت في المناطق القريبة من المواقع المستهدفة. ثم بعد ساعات احتشد المتظاهرون في ميدان السبعين بصنعاء، مُردِّدين بعضاً منها، ولا سيما "الزامل" المُعَبِّر عن اللّامبالاة بالحرب أيّاً كان نوعها:

ما نُبَالِيْ .. ما نُبَالِيْ .. ما نُبالِيْ *** واجْعَلُوها حَرْبْ كُبْرى عالميةْ

الزامل ورقصات الحرب

يأتي في سياق الفنون الشعبية ذات الاهمية التراثية في اليمن فنّ "الزامل" ومثله رقصة الحرب، وهما ممارستان شعبيتان يغلب عليهما ارتباطهما بإعلان الحرب، والسعي إلى تحشيد المحاربين واستعدادهم لها.

وتُعدُّ "رقصة الحرب"، واحدةً من أهم الرقصات الشعبية في اليمن، وهي رقصة رجالية، تقوم بها مجموعة من الأفراد بحركات وخطى ثابتة، متناغمة ومنسجمة مع إيقاع الطبول والتلويح بـ"الجنابي" أو السيوف، بطريقة مشابهة للمبارزات القتالية والتكتيكات الحربية في ساحات المعارك.

مقالات ذات صلة

أمّا الزامل، فهو لون من الشعر الشعبي المُغنّى، الذي يتم إنشادُه في اليمن وبعض المناطق من شبه الجزيرة العربية[1]. ويلجأ إليه اليمنيون في أحوال الخصام أو الحرب، إذ يقف قائدهم أو شخص منهم يجيد نظم الزوامل، فيرتجل بضعة أبيات بلهجته العامية، ليتلقفها القوم، ويتغنون بها بصورة جماعية لتحفيز الهمم وإثارة الحماسة[2]، بوصف هذه الممارسة "دعاية سياسية وحرباً نفسية تسبق الحرب الفعلية"[3]، كما أنها في ثقافتهم وسيلة تثير الفزع في قلوب الأعداء، وفقاً لإشارة المستشرق الألماني هانز هولفريتز[4].

بين الأسطورة والتاريخ

لهذه الممارسة امتدادها الأنثروبولوجي في الثقافة الشعبية اليمنية، التي تُتداول فيها حكاية "سنة دُقّيانوس"[5]، العائدة إلى فترة الغزو الروماني لليمن، مطلع القرن الثالث الميلادي. إذ تشير سردية المحكي الشعبي إلى أن رجال القبائل حينها فروا إلى كهوف الجبال. وفي هدأة الليل سمعوا أصواتاً جماعية، تُردد إيقاعاً جميلاً وكلاماً بالغ الإثارة والحماسة، فبحثوا عن مصدر الصوت، لكنهم لم يجدوا أحداً، بينما كانوا يسمعون ضجيجاً ويشاهدون غُباراً. عندها أدركوا أن حرباً مشتعلةً بين "الجان"، فهيّجهم ما سمعوه فيها من زوامل حماسية، وتشجعوا، فخرجوا لمواجهة الغازي المعتدي.

تنطوي هذه الحكاية على إشارة ضمنية إلى أن فترتها التاريخية هي السياق الزمني لنشأة هذه الممارسة الشعبية التي تعلّمها اليمنيون من "الجان"، بوصفهم مثالاً أعلى في الشجاعة والإبداع. ثم تناقلتها الرواية الشفاهية، فصارت تتوارثها الأجيال، وتنسج على منوالها ما يتسق منها مع مواقف الحرب، وصولاً إلى أحْدَثِ حربٍ عصرية.

مع سماع أصوات الانفجارات والقصف، كانت أصوات "الزوامل" الحماسية تتعالى من مكبرات الصوت في المناطق القريبة من المواقع المستهدفة. ثم بعد ساعات احتشد المتظاهرون في ميدان السبعين بصنعاء، مُردِّدين بعضاً منها، ولا سيما الزامل المُعَبِّر عن اللّامبالاة بالحرب أيّاً كان نوعها.

ولم تتضمّن المدونات التراثية تحديداً تاريخيّاً لبداية تدوين هذه الممارسة. وعلى ذلك، فإن أول ما يمكن من خلاله مقاربة هذه البداية، هو الوصف الذي ورد في قصة "ثيونانس"، التي تعود إلى أوائل القرن السادس، في سياق الحديث عن وفد أرسله قيصر الروم إلى ملك حِميَر (اليمن)، تحدث رئيس هذا الوفد عن خروج الملك الحميري لاستقباله في موكب، وحوله عددٌ من رجاله، يتغنون بإطرائه وتفخيمه وعليهم أسلحتهم. وهذه الهيئة هي ذاتها الهيئة التي يمكن أن يوصف بها "الزامل"، في مواكب اليمنيين وتفاصيل استقبالاتهم وزياراتهم ومناسباتهم المختلفة.

سياقات اجتماعية وشعبية

على غلبة ارتباط الزامل بالحرب، إلّا أنه غير مقصور عليها، إذ يأتي التغنّي به ضمنَ عددٍ من السياقات الاجتماعية، كمناسبات الأعراس، والمواقف الخاصة بالعتاب واللوم والاعتراف بالخطأ والتحكيم في قضايا القتل. ومثلها مواقف الاستجارة وطلب الإنصاف، والرثاء، أو الفخر والتسامي بالعُرْف والقيم والانتماء.

وفي توصيف ارتباط هذه الممارسة الشعبية بمجمل هذه السياقات الاجتماعية، يشير الباحث الأنثروبولوجي "ستيفين كاتون" في تحليله للصراع القبلي في شرق صنعاء، إلى أن الزامل وسيلة للتفاوض بين القبائل المتنازعة، باعتباره فعلاً كلاميّاً، تُفهرسُ الكيانات الاجتماعية من خلاله هوياتها الخاصة في أربعة عناصر: اللغة، ومهارة الشكل الشعري، و"الحُجّة"، و"الشخصية (المتكلم)"، في محاولاته استثارة عاطفة جمهوره في حديثه.

حينما قامت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، كان الزامل من أدوات الحرب لدى طرفي الصراع (الملكيين والجمهوريين)، طيلة الحرب الأهلية، التي استمرت قرابة خمس سنوات. بعدها، استمرت وظيفة الزامل الاجتماعية، وتراجعت وظيفته السياسية، حتى عاد زخمها ثانية مع أحداث الربيع العربي في اليمن 2011.

ومن زاوية أخرى، وصلت الباحثة الأمريكية "إميلي سومنر"، في تحليلها لهذه الممارسة الشعبية، إلى أن ارتباطها بحياة الشخص قائمٌ على أنساقٍ ثلاثة: الأول أنها ممارسة قومية متعلقة بانتمائه، والثاني أنها شكل ثقافي متناسب مع بُنيته الثقافية، والثالث أنّها قوة عاطفية فاعلة، في تحفيزه على الانخراط في التعاطي الاجتماعي الكلي مع الأحداث والغايات والمخاطر القادمة.

الزامل السياسي

في عهد الحكم التركي لليمن، الذي امتد من عام 1538 إلى عام 1918، استجد في هذه الممارسة الشعبية نسقٌ خاص بالصراع السياسي، لاستيعاب تعبير الجماعات عن مواقفها، إمّا بمقاوَمتها للأحداث أو استجابتها لها، حيث تضمّن الزامل التحريض على السلطات القائمة، ثم التعبير عن طاعة القيادة وترهيب الخارجين عليها بعد الاستقلال[6].

وحينما قامت ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962، كان الزامل من أدوات الحرب لدى طرفي الصراع (الملكيين/ والجمهوريين)، طيلة الحرب الأهلية، التي استمرت قرابة خمس سنوات. بعدها، استمرت وظيفة الزامل الاجتماعية، وتراجعت وظيفته السياسية، حتى عاد زخمها ثانية مع أحداث الربيع العربي في اليمن 2011، إذ انعكس الصراع السياسي في صراعٍ قبلي، اتخذت أطرافه من هذه الممارسة الشعبية وسيلةَ مواجهةٍ إعلامية فيما بينها، سيما بعد انضمام جماعة أنصار الله (الحوثيين) إلى ساحات الاعتصام، ودورها الفاعل في انتشار الزامل السياسي بشكل ملحوظ ومتتابع.

تعود الحكاية إلى فترة الغزو الروماني لليمن، مطلع القرن الثالث الميلادي، فتشير إلى أن رجال القبائل حينها فروا إلى كهوف الجبال. وفي الليل سمعوا أصواتاً جماعية تُردد إيقاعاً جميلاً وكلاماً بالغ الحماسة، لكنهم لم يجدوا أحداً بينما كانوا يسمعون ضجيجاً ويشاهدون غُباراً. عندها أدركوا أن حرباً مشتعلةً بين "الجان"، فأثارهم ما سمعوه فيها من زوامل حماسية، وتشجعوا، فخرجوا لمواجهة الغازي المعتدي.

على غلبة ارتباط الزامل بالحرب، إلّا أنه غير مقصور عليها، إذ يأتي التغنّي به ضمنَ عددٍ من المناسبات الاجتماعية، كالأعراس، والمواقف الخاصة بالعتاب واللوم والاعتراف بالخطأ والتحكيم في قضايا القتل. ومثلها مواقف الاستجارة وطلب الإنصاف، والرثاء، أو الفخر والتسامي بالعُرْف والقيم والانتماء.

ومع اندلاع الحرب في الخامس والعشرين من مارس/ آذار 2015 ــ وطيلة مُدّتها التي دخلت اليوم سنتها التاسعة ــ ظهرت مضامين صراع جديدة، بما في ذلك اشتراك أطراف خارجية فيه، فاستوعب الزامل السياسي التعبير عن ذلك كله، سواءٌ لدى جماعة أنصار الله (الحوثيين) الذين يُعدّ الزامل لديهم وسيلةً محورية في إعلامهم الحربي، أو لدى الموالين للسلطة (المعترف بها دوليّاً)، سيما في المعارك التي احتدمت في محافظة "مأرب".

الزامل ومعركة غزّة

مثّلت معركة غزّة الجارية، والتي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين أول2023، مرحلةً جديدة في مسيرة الزامل، إذ تجاوز الفضاء المحلي باستيعابه مضامينها، ومواكبته لأحداثها، بدءاً من الذي اتخذ من يوم انطلاقتها عنواناً له "صباح السبت"، والذي تميز بحيوية أدائه وطابعه الحماسي، وصيغته التجديدية في مطلعه الإيقاعي المستمد من أسلوب أغنية مغربية، وفقاً لما جاء في الرؤية التحليلية للكاتب اليمني المهتم بالنقد الموسيقي جمال حسن([7]). ومروراً بما توالى من زوامل متعاطية مع تداعيات الحدث، سيما إعلان جماعة أنصار الله (الحوثيين) الدخول في المعركة، سواءٌ في استهدافهم لميناء إيلات الإسرائيلي، أو السفن المتجهة إليه في البحرين العربي والأحمر، وصولاً إلى ما أسفرت عنه التداعيات، من موقف عسكري أمريكي بريطاني، كان الزامل ردة الفعل الأولى في مواجهته.

الزامل ورقصة الحرب

مر الزامل بعدد من المحطات التطويرية لعل أهمها هي التي اقترن فيها بفن الرقص. كما اتّسمت هذه الممارسة بشيوع التقاطيع القصيرة، التي يُرَجّح أن الغاية من تأديتها كانت الاندفاع إلى الترقيص.

وتبدو العلاقة بين هذين الفنّين الشعبيين (الزامل والرقص) أكثر تمثُّلاً في واحدة من أشهر الرقصات اليمنية، "رقصة الحرب"، التي تتنوع وتختلف في تفاصيلها وتسمياتها من منطقة إلى أخرى، فهي في صنعاء والمحافظات المحيطة بها رقصة "البَرَع"، ويغلب على أدائها إشهار الخنجر اليمني ("الجنبية")، أو البنادق استعراضاً على الأكتاف. وهي في حضرموت شرقي البلاد، رقصة "العِدّة"، ويستخدم الراقصون فيها العصا والترس. أمّا في تهامة غرب اليمن، فهي رقصاتٌ متعددة، ويُؤدى بعضٌ منها باستخدام السيف. وفي وسط اليمن تُعرف هذه الرقصة باسم رقصة "البروشية" في محافظة إب، والرقصة "الحُجَرية" في محافظة تعز. وفي جنوب اليمن رقصة "الشرح" في محافظة لحج. وقد تتخذ اسمها من المناطق التي تنتمي إليها، كالرقصة "اليافعية"، نسبةً إلى مناطق يافع في محافظة لحج، والرقصة "المهرية"، نسبةً إلى محافظة المهرة.

ولا تقتصر ممارسة هذا النوع من فن الرقص في اليمن على أحوال الحرب، إذ يُمارس في الملتقيات الاجتماعية، سيما المتعلقة منها بلقاءات الصلح، ومثلها مناسبات الأعراس، والأعياد الدينية والوطنية.

______________________

  1. صالح الحارثي، "الزامل في الحرب والمناسبات"، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 2004، ص61.
  2. أحمد الشامي، "قصة الأدب في اليمن"، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 2007، ص161ــ163.
  3. عبد الله البردوني، "فنون الأدب الشعبي في اليمن"، ط3، دار الفكر، دمشق، 1995، ص142.
  4. هانز هولفريتز، "اليمن من الباب الخلفي"، ترجمة خيري حماد، دار العودة، بيروت، 1986، ص133.
  5. عبد الله البردوني، "فنون الأدب الشعبي في اليمن"، مرجع سابق، ص137،136.
  6. عبد الله البردوني، "فنون الأدب الشعبي في اليمن"، مرجع سابق، ص141.
  7. جمال حسن، "زوامل لأجل غزة: إنشاد يمني حالم بلحظة الخلاص"، العربي الجديد، 13 كانون الاول/ ديسمبر 2023

مقالات من اليمن

حلم أمريكا المتجدد: إضافة سقطرى إلى سلسلتها النارية العابرة للمحيطات

تمضي المواجهة العسكرية في المياه البحرية لليمن بوتيرة بطيئة نوعاً ما، لكن إيقاعها غير المتسارع، ينذر بتحوّلات جذرية لصراع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة على النفوذ في مضيق باب المندب، الذي...

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...

هل تكون اللغة المهرية مفتاح لغة اليمن المندثرة؟

تُصنّف اللغة المهرية ضمن اللغات السامية التي نشأت جنوب الجزيرة العربية، وأبرزها اللغة اليمنية القديمة المعروفة بلغة "المُسند" أو كما يسميها المستشرقون "العربية الجنوبية القديمة". وإلى جانب المهرية توجد خمس...

للكاتب نفسه

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...