لا يمكن للمتجوّل في شوارع المدن المغربية الكبرى، أن تفوته ملاحظة العدد الكبير لمُمارسي التسوّل. أطفالٌ وشباب وشيوخ، نساء ورجال، مغاربة وأجانب من دول جنوب الصحراء، ينتشرون في مراكز الجذب، وتقاطعات الطرق. قدّرت بعض الجهات عددهم بما يزيد عن 200 ألف متسوّل، فيما تشير إحصائيات أحدث إلى بلوغهم نحو نصف المليون، مما يضع المغرب ضمن الدول الأكثر انتشاراً لهذه الظاهرة.
ومع مرور السّنين، وبدلاً من ضمور الظاهرة، مع تحقيق نسبِ نموّ أفضل، ترتفع أعداد المتسوّلين بسبب عدم استقرار هذا النّمو، ونتيجة عوامل اجتماعية واقتصادية وأزمات مستجدّة، مثل جائحة كورونا، وزلزال "الحوز" في العام الماضي (في الجنوب)، وزلزال "الحسيمة" (أقصى الشمال الشرقي) عام 2004.
مصائبُ زلزال المغرب... وفوائده
17-09-2023
يلحظ ضمن خارطة التسوّل، استغلال الرّضع والأطفال في التأثير على المارين، في ظروف طقس قاسية، في حرارة الصيف وبرودة الشتاء، مع الاستعمال المكثف للأدوية المنوّمة التي تخدِّر الرّضع طوال الوقت، وهو يؤدي إلى آثار مدمّرة على نموهم الجسدي والعقلي.
الأسباب الدافعة للتسول
قليلة هي الإحصاءات الرّسمية حول عدد محترفي التّسول، لكن الوجود المكثف لهم في الشّوارع، يقدّم صورة معبّرة قد تغني عن الأرقام. وفيما يتعلق بالأسباب، فهناك بحث وطني يتيم أنجزته وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن عام 2007، تصدّر فيه الفقر متعدّد الأبعاد قائمة الأسباب، التي دفعت الأفراد إلى التسوّل، بنسبة تزيد عن 50 في المئة، خاصة مع ازدياد حجم الفئة الأكثر فقراً، وفق تطوّرات لاحقة، بعد أن انضاف أكثر من ثلاثة ملايين شخص إلى هذه الفئة، منهم ما يفوق مليون شخص دخلوا دائرة الفقر المدقع، حسب تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول التسوّل العام الماضي 2023. وبلغت البطالة، أحد الأسباب الرئيسة لارتفاع نسب الفقر، حسب الإحصاء العام للسّكان هذا العام، نسبة قياسية هي 20 في المئة من الفئة النشيطة.
وتأتي الإعاقة في المرتبة الثانية كسبب للتسول، بنسبة 12 في المئة، يليها الوضعية الصحية (البدنية والعقلية)، ثم الإكراه على التسول بنسب أقل. كما يشكّل الإدمان، لدى الشباب واليافعين دافعاً مهماً، مرفوقاً بمحاولات الهجرة السّرية التي تدفع آلاف اليافعين إلى التسول في المدن الساحلية، في انتظار فرصة للهجرة قد تستغرق سنوات، وقد لا تأتي.
وهذا كله بالإضافة إلى عوامل بنيوية، مثل التغيرات العميقة في أنماط العيش والبنية الأسرية، وتغير القيم والآليات التقليدية للتضامن المجتمعي، مع وهن التّكافل الاجتماعي الذي كان يوفر للعاطلين عن العمل والأسر الأقل دخلاً دعماً بسيطاً من العائلة، وتخلّي الآباء عن الأطفال بعد الطلاق، وعدم قدرة الأم على الإنفاق عليهم، أو فقدان المعيل بالنسبة إلى النساء، مع تدني المستوى الدراسي لجلّ المتسولين.
اقتصاد القبر وامتداداته في حياة المغاربة
07-01-2017
وبالنّسبة لمسؤولية الدولة في الدفع ببعض الفئات إلى التسوّل، من خلال التخلي عن واجباتها الاجتماعية، فالملاحظ محدودية الآليات المؤسساتية للحماية الاجتماعية، ومنها قلة دور العجزة، وسوء وضعيتها، مع ازدياد نسب الشيخوخة في الهرم السكاني، وفي نسب التسوّل، والضعف البيّن في عدد الملاجئ التي تقدم الإقامة المجانية للفاقدين منازلهم، وللنساء المعنّفات أو الأمهات العازبات.
ولا يتجاوز عدد المراكز الاجتماعية الموجّهة لاستقبال الأشخاص في وضعية تسول أو تشرد، 15 مركزاً، في كل البلاد. وتتمثل المهمة الأساسية لهذه المراكز في إيواء الأشخاص في وضعية تشرد أو تسول، خلال حملات تقوم بها عناصر الشرطة. ولا تقوم بإعادة إدماجهم وتأهيلهم للعودة إلى المجتمع بشكل مختلف. كما أن المستفيدين في الغالب أشخاص يعانون من اضطرابات عقلية، حسب تقرير المجلس آنف الذكر.
الأزمات والكوارث الطبيعية
هناك أسباب طارئة تدفع بمزيد من الأشخاص إلى التسوّل، منها أزمات كبرى هزّت المجتمع وغيّرت تركيبته بشكل جذري، مثل كورونا، التي ما زالت تداعياتها تتواصل على الاقتصاد، وفرص الشغل والقدرة الشرائية، والدخول في دائرة البطالة، وكل هذا أدى إلى اتساع قاعدة الفقر والهشاشة.
تأتي الإعاقة في المرتبة الثانية كسبب للتسول، بنسبة 12 في المئة، يليها الوضعية الصحية (البدنية والعقلية)، ثم الإكراه على التسول بنسب أقل. كما يشكّل الإدمان، لدى الشباب واليافعين دافعاً مهماً، مرفوقاً بمحاولات الهجرة السّرية التي تدفع آلاف اليافعين إلى التسول في المدن الساحلية، في انتظار فرصة للهجرة قد تستغرق سنوات، وقد لا تأتي.
يجرّم القانون المغربي التسوّل، لكنه لا يتم العمل به غالباً، على الرغم من الحاجة إليه لحماية الأطفال وذوي الإعاقة من الاستغلال في التسوّل.
كذلك، كان لحدوث زلازل مفاجئة دمّرت المنازل في القرى، دور مهم، إلى جانب موجات الجفاف المتكرّرة، في ازدياد إيقاع الهجرة القروية إلى المدن، حيث يصعب الحصول على عمل نظراً لغياب فرص التكوين المهني، أو حرفة تساعد على بناء حياة جديدة في المدن. وتجد النساء صعوبة أكبر نظراً للإكراهات الاقتصادية، وعدم تمكّن بعضهن من أساسيات العمل في البيوت المدينية، أو الامتناع عنه، وهو تقريباً فرصة الشغل الوحيدة أمامهن.
محاولات قانونية غير موفقة للحد من التسول
يجرّم القانون المغربي التسوّل، لكنه لا يتم العمل به غالباً، على الرغم من الحاجة إليه لحماية الأطفال وذوي الإعاقة من الاستغلال في التسوّل. إذ ينصّ الفصل 326 من القانون الجنائي على أنه "يُعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر من كانت لديه وسائل التعيُّش أو كان بوسعه الحصول عليها بالعمل أو بأية وسيلة مشروعة، ولكنه تَعوَّد ممارسة التسول في أي مكان كان".
علّق "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" على هذا الفصل من القانون بأنه يطرح إشكالية "لكونه يتحدث عن عناصر يصعب تقييمها بشكل موضوعي"، مثل "التعريف الذي يمكن اعتماده لمعنى العيش وضمان الحاجيات"، و"قدرة أو عدم قدرة شخص على العمل"، و"هل إيجاد العمل يتوقف فقط على إرادة الشّخص أو على قابلية التّشغيل لديه"، و"هل يمكن أن نحمّله (جنائياً) مسؤولية نقص فرص الشّغل".
واعتبر المجلس أن تنفيذ هذا القانون "من شأنه أن يؤدي إلى الوصم والتمييز ضد جميع المتسولين كجناة مفترَضين يمكن توقيفهم، في انتظار إجراء بحث قضائي يحدّد ما إن كانت لديهم وسائل للعيش أم لا".
بروفايل المتسول
يشكل المتسولون مجموعة غير متجانسة من حيث بروفايلاتهم. منهم من يمارس التسول بشكل موسمي، مثلاً خلال الصيف في المدن الساحلية أو في شهر رمضان، وهم إمّا "أشخاص معوزون، أو محتالون (متسولون محترِفون)، أو متسولون عرَضيون، أو أشخاص يعانون من اضطرابات عقلية و/أو من الإدمان، أو أشخاص في وضعية إعاقة، أو عاطلون عن العمل، مواطنون مغاربة وأجانب، وغيرهم"، كما جاء في تقرير "المجلس الاقتصادي والاجتماعي".
ويمكن أن يتخذ التسول أشكالاً مقنّعة، من قبيل ممارسة أنشطة تجارية غير منظّمة ببيع سلع أو منتجات بسيطة، مثل المحارم الورقية، أو تقديم خدمات بسيطة أو أداء عروض ترفيهية مرتجلة في الشارع، مقابل الحصول على مبالغ زهيدة، أو استغلال شبكات التواصل الاجتماعي بشكل متزايد للتسول.
الأطفال أكبر ضحايا التسول
أول ضحايا التسوّل هم الأطفال، ويتم استغلالهم من طرف ذويهم، أو من شبكات متخصّصة تقوم بتأطيرهم وتوزيعهم على مناطق معينة، كأبواب المساجد والمقاهي والأماكن العمومية. وتبلغ نسبة الاستئجار بين مستغلي الأطفال في التسول، الربع، حسب إحصاءات "المجلس الاقتصادي والاجتماعي". والعديد من هؤلاء الأطفال سيستمرون في التسول حتى بعد أن يصبحوا راشدين، أو سيستغلون آخرين في التسول، بمن فيهم الأطفال.
وأشارت الدراسة التي أنجزتها "الرابطة المغربية لحماية الطفولة" منذ سنوات إلى أن نسبة الأطفال الذكور المتسولين أكثر من الإناث، حيث يشكلون ما نسبته 56 في المئة. أما فيما يتعلق بالمردود اليومي لهؤلاء الأطفال، فيتراوح ما بين 50-100 درهم، أي بين 5 و10 دولارات. مع العلم أن أرباح يوم من التسول للكبار قد تصل الى 400 درهم.
الآثار
في دراسة تم إنجازها حول ظاهرة التسوّل، صرح العديد من المتسوِّلين أنّهم تعرضوا لسوء المعاملة من لدن الأشخاص الذين التمسوا منهم الإحسان، وأحيانا يتعرّضون لتحرش جنسي. مع العلم أن الآثار النفسية على ممارسي التسول قليلاً ما يتم التطرق إليها، فهم يفقدون احترامهم لذواتهم وكرامتهم، ويعانون من صراعات نفسية تغذي فيهم مشاعر سلبية، تحرمهم من بناء مشروع حياة. ويدفع التعرض المستمر لمواقف مُهينة، على العموم، العديد منهم إلى تعاطي الكحول أو المخدرات لتحمّل ذلك.
الملاحظ محدودية الآليات المؤسساتية للحماية الاجتماعية، ومنها قلة دور العجزة، وسوء وضعيتها، مع ازدياد نسب الشيخوخة في الهرم السكاني، وفي نسب التسوّل، والضعف البيّن في عدد الملاجئ التي تقدم الإقامة المجانية للفاقدين منازلهم، وللنساء المعنّفات أو الأمهات العازبات.
أول ضحايا التسوّل هم الأطفال، ويتم استغلالهم من طرف ذويهم، أو من شبكات متخصّصة تقوم بتأطيرهم وتوزيعهم على مناطق معينة، كأبواب المساجد والمقاهي والأماكن العمومية. وتبلغ نسبة الاستئجار بين مستغلي الأطفال في التسول، الربع، حسب إحصاءات "المجلس الاقتصادي والاجتماعي". والعديد من هؤلاء الأطفال سيستمرون في التسول حتى بعد أن يصبحوا راشدين، أو سيستغلون آخرين في التسول، بمن فيهم الأطفال.
كما يتعرّضون لمختلف أشكال عنف مختلفة، وأشد وقعاً مثل: الاعتداءات جسدية واللفظية، والاتجار والاستغلال من قبل شبكات الاتجار، والاغتصاب، والاختطاف، وإدمان المخدرات، والأمراض، وحوادث السير، وغير ذلك.
وهم أيضاً مصدر قلق في المجتمع، مع احتماليـة المـسّ بالنظـام العـام، مـن خـلال التسوّل بالتهديد أو المضايقة المستمرة لدفع النساء، بشكل خاص، إلى منحهم بضعة دراهم، مما ينقل أسلوب التسوّل من الاستعطاف إلى المضايقة، وهو سلوك يقوم به غالباً المدمِنون، الذين أيضاً يعرقلون حركـة السّير في تقاطعات الطرق، وقد يتسببون في حوادث سير.
دراهم الصدقة المؤدية إلى الجنة
هناك تناقض في ردود فعل المجتمع على ظاهرة التسوّل، فكثير منهم يُشفق على المتسولين ويستجيب لهم، وهذا سبب أساسي لازدياد الظاهرة، كونها مربحة. لكن نتائج استشارة أنجزها "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي"، عام 2023، أظهرت أن 70 في المئة من المشاركين يؤيدون منع التسوّل قانونياً، و99 في المئة منهم يعتبرونه "ظاهرة اجتماعية خطيرة".
الزاوية في المغرب: المؤسسة التي تدر ذهباً
30-11-2017
وعلى الرغم من الانطباع العام لدى المجتمع بأن معظم المتسوّلين يجنون مبالغ طائلة، ولديهم بيوت وسيارات، كما كشفت بعض الحالات المثبتة، لكن من الصّعب التأكد من كونها حالة عامة لدى الجميع، لذا يُواصل الأشخاص نفسهم، منح المتسوّلين دراهمهم، معتمدين على "النية في الصّدقة" بغض النّظر عن مدى استحقاقها. فهُم كثيراً ما يقدّمونها لزيادة عدد حسناتهم الأُخروية، لا لمساعدة الآخرين في وضعيتهم الدنيوية.
مصادر :
تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول التسول بتاريخ 2023: https://shorturl.at/SNnfM