ميلادٌ آخر بلا عيدٍ

وجّه الأب "منذر إسحق" رسالة الميلاد من بيت لحم إلى العالم، قائلاً: "احتفالات الميلاد ملغاة. لا وجود لشجرة ميلاد، للأضواء، للاحتفالات في الشارع... من الصعب تصديق أننا نعيش ميلاداً آخر فيما الإبادة مستمرة. ما زال المسيح تحت الأنقاض في غزة".
2024-12-26

شارك
من قداس في كنيسة "العائلة المقدسة" في غزّة هذا العام. (تصوير عمر القطاع - أ ف ب)
إعداد وتحرير: صباح جلّول

إنه صباح الميلاد.. أطفال كثر حول العالم ينزعون بأصابعهم الصغيرة أغلفةً برّاقة عن علب هداياهم ويفرحون، ترقص عيونهم حماساً وتدفأ أجسامهم وتشبع بطونهم، كما ينبغي للأطفال أن تُسعد وتدفأ وتأمن وتشبع.. العيد يعني الوفرة، تسعى إلى إظهارها حتى العائلات الفقيرة ولو ليوم في السنة، من أجل الأطفال. وفرة في كلّ شيء: في عدد أفراد العائلة المتحلّقين، في الأطعمة على الطاولات، في الملابس، في الأمان، في الأصوات والضجيج والصلوات. أو لعلها صورة الأعياد في المخيلات.

يبدو هذا كله كوكباً مختلفاً بالنسبة لطفلٍ في غزّة، يعدّ أطرافه، يحصي من بقي من العائلة والأصدقاء، ومن رحل، يحاول تذكّر طعم طعامه المفضل، ويحلم برفاق فصله الدراسي وبأشياء كثيرة رغب بتحقيقها.. بحياةٍ كالحياة.

غزة مدينة يقطنها بين 1000 و1300 مسيحي فقط من بين غالبية مسلمة من أكثر من مليونين إنسان. لكنّ كلّ من في المدينة يعرفون بأن أجواء عيد الميلاد تعمّ الجميع في المدينة مسلمين ومسيحيين. كما هو الحال في بلادنا دائماً، فإن المحال التجارية والأسواق تتزين في الميلاد، ويشارك الجميع في طقوس إنارة الشجرة واللمّات العائلية الحميمة. كان هذا قبل الإبادة الحالية المستمرة في غزة.

كلّنا يعرف أن العيد، بعد المعاني الروحية والطقوس الدينية، هو للأطفال أكثر من أي أحد آخر، وعليه، فلم يأتِ العيد هذا العام في غزّة. لم يأتِ في بيت لحم. لم يأتِ في جنوب لبنان، ولم يأتِ في أي مكانٍ يتعس أطفاله وأهله.

غزة: "فقط صلاة"

"هدول أولادي الثلاثة اللي فقدتهم. سهيل وجولي ومجد (14 و12 و11 سنة)"... "لجأنا إلى الكنيسة على أنها آخر ملاذ آمن.." استشهدوا جراء قصفٍ إسرائيلي مجرم على كنيسة القديس "بورفيريوس" الأرثوذكسية في 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تاركين والدهم، "رامز الصوري" وزوجته بقلبين مكلومَين أبد الدهر. "حياتنا الأن بلا معنى. أنا وأمهم وحدنا"، يقول "رامز" في تقرير لقناة "دويتشه فيلله"، فيما يضيء شمعة لأرواح أولاده هذا الميلاد.

غزة مدينة يقطنها بين 1000 و1300 مسيحي فقط من بين غالبية مسلمة من أكثر من مليونين إنسان. لكنّ كلّ من في المدينة يعرفون بأن أجواء عيد الميلاد تعمّ الجميع في المدينة مسلمين ومسيحيين. كما هو الحال في بلادنا دائماً، فإن المحال التجارية والأسواق تتزين في الميلاد، ويشارك الجميع في طقوس إنارة الشجرة واللمّات العائلية الحميمة. كان هذا قبل الإبادة الحالية المستمرة في غزة.

لا عيد اليوم في غزة. في كنيسة "العائلة المقدسة" التي تُعرف أيضاً باسم "مجمَّع دير اللاتين"، أقيمت قداديس الميلاد دون أية مظاهر احتفالية. ما زالت الكنيسة في غزة تتلقى اتصالاً يومياً من البابا فرنسيس الذي يؤكد تضامنه وصلواته، ويشجّع الرعية. قال الكبار أنه من الجيد القيام ببعض الطقوس والتراتيل من أجل الأطفال، كي لا يُحرموا من ميلاد ثانٍ، لكن الحزن يغمر القلوب، "لسنا هنا للاحتفال، ولكن للصلاة"، يقول أحد المصلّين عندما يسأله مراسل عن حضوره القداس. لا وجود للفرح بين هذه المقاعد، وفي الوجوه. على الشفاه وفي القلوب صلاة حارة تطلب نهاية للحرب والمأساة.

من القداس الذي أقيم في كنيسة "العائلة المقدسة" في غزة في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بحضور بطريرك القدس للاتين في زيارة تضامنية.

جنوب لبنان: شجرة ميلاد بين الردم

قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي كنيسة "مار جاورجيوس" ليل التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، في بلدة "ديردغيا" في قضاء صور جنوبي لبنان، مسبباً دماراً كبيراً في الكنيسة التي تبلغ من العمر ما يزيد عن مائة عام حسب بلدية "دردغيا"، وارتكب مجزرة مروِّعة على مقربة من الكنيسة في مركز للدفاع المدني اللبناني، استشهد فيها خمسة عناصر من الدفاع المدني والهيئة الصحية الإسلامية، بالإضافة لعدة مواطنين آخرين. هذه قرية مسالمة أخرى تمّ تحويلها إلى بيت عزاء وركام على يد الهمجية الصهيونية، يعودُ عليها الميلاد بكنيسة لا تستطيع استقبال رعيتها.

شجرة الميلاد وسط ركام كنيسة "مار جاورجيوس" في بلدة "دردغيا" الجنوبية (حقوق الصورة لماثيو كرم. عن صفحته على انستغرام)

لكنّ أحد مواطني البلدة، جورج إيليا، أبى إلا أن يزيِّن ركام الكنيسة بشجرة ميلاد تعبيراً عن صمود أهالي البلدة وتعلقهم بها، وتذكيراً بمعاني الميلاد السامية. لن تكون احتفالات، فالجنوب في حالة حِداد، والحركة في كثير من القرى ما زالت بطيئة ومهدَّدة بسبب العدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقف للحظة على الرغم من وقف إطلاق النار. لكن سيكون هناك تذكير دائم بأن أهالي القرى هنا، صامدون، ينتظرون عودة الدفء إلى بيوتهم، كنائسهم، جوامعهم، وحقولهم، واندحار عدوّهم.

بيت لحم: "ما زال المسيح تحت الأنقاض"

للعام الثاني على التوالي، أعلنت كنائس "بيت لحم"، كنائس مهدِ المسيح، "إلغاء عيد الميلاد" واقتصار الطقوس على الصلوات والتضامن مع غزة. وللعام الثاني على التوالي وجّه الأب "منذر إسحق"[1] رسالة الميلاد من بيت لحم إلى العالم، قائلاً:

"احتفالات الميلاد ملغاة. لا وجود لشجرة ميلاد، للأضواء، للاحتفالات في الشارع... من الصعب تصديق أننا نعيش ميلاداً آخر فيما الإبادة مستمرة. ما زال المسيح تحت الأنقاض في غزة".

من مسيرة الميلاد في بيت لحم هذا العام.
للعام الثاني على التوالي، تضع كنائس بيت لحم مجسماً للمسيح الطفل بين كومة من ركام، تذكيراً بأطفال غزة وأبريائها الذين ما زالوا تحت الإبادة الإسرائيلية الوحشية.

"ماذا حلّ بإنسانيتنا؟"، يسأل الأب إسحق. "لا يسعنا إلا الاستمرار بالحديث عن غزة، بالمطالبة بوقف الإبادة وبالصلاة. لا يمكننا الخضوع لليأس. نحن مدينون لأنفسنا، لإنسانيتنا، ولإنسانية من هم في غزة، بالاستمرار في الحديث عن الإبادة والمطالبة بوقف لإطلاق النار... هنا في بيت لحم، نحن محاصرون. من الصعب أن نجد سبباً للاحتفال فيما أخواننا في غزة يُبادون. لكنّ جمال جوهر الميلاد هو أنه رسالة إيمانٍ وأمل وصمود (...) لذلك يجب ألّا نمنح أنفسنا لليأس (...) وُلد المسيح في بيت لحم بين جيوش المحتلّين، ليبعث برسالة سلام ومحبة وأمل.. إلى العالَم".

... فعيدُ ميلادٍ مبارك لكلّ من يؤمن بمعانيه السامية، والتي من ضمنها الانتصار للحقّ وللمضطهَدين، ومقاومة المعتدين سافكي الدماء الطاهرة وصانعي البؤس في هذا العالم. مبارَك لمقاومي هذا الأمر الواقع أينما وُجدوا في هذا العالم القاسي، والسلام لغزّة، لوجهِ مسيحٍ صغيرٍ في خيمها وبين ركامها.

______________________

  1. - القس الدكتور منذر اسحق هو راعي كنيسة الميلاد الانجيلية اللوثرية في بيت لحم، والكنيسة الانجيلية اللوثرية في بيت ساحور، والعميد الأكاديمي لكلية بيت لحم للكتاب المقدس، ومدير مؤتمرات المسيح ...

مقالات من فلسطين

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

ما الذي تسعى له السلطة في مخيم جنين؟

2024-12-19

بعد أيام من تحذيرات إسرائيلية من احتمال تدهور الأوضاع في الضفة الغربية تحت تأثير التطورات الحاصلة في سوريا، وفي أعقاب اجتياح اسرائيلي لمخيم جنين أسفر عن تدمير واسع للبنى التحتية...

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...