أنجز هذا التحقيق ضمن أنشطة شبكة المواقع الاعلامية المستقلة حول العالم العربي، والتي تضم علاوة على "السفير العربي"، "أوريان 21"، "مدى مصر"، "حبر"، "ماشاالله نيوز"، "المغرب الناهض"، "نواة"، و"باب المد".
على ضفاف بحيرة "آزي" الجميلة في مدينة ألمانيّة صغيرة تدعى "مونستر"، تتوزّع ثلاثة منحوتات كروية عملاقة صمّمها فنان البوب "كلاوس أولدنبورغ"، ونُصبت في مكانها الحالي في عام 1977. تمثّل تلك المنحوتات كرات "بلياردو" تتوزع على رقعة المدينة، جاعِلةُ منها كاملة طاولة "بلياردو" كبيرة. لكن في أحد أيام حزيران/يونيو الباردة من عام 2023، بدت تلك الإنشاءات التي أصبحت إحدى معالم معالم "مونستر" الأبرز، مختلفة تماماً، إذ حملت لافتات كُتب عليها "أوقفوا تسليح إسرائيل"، و"أوقفوا الاحتلال"، و"الصمت عنف"، مع علمٍ فلسطيني مرسومٍ ما بينها. حول المنحوتات الكروية، زُرعت عدة أعلامٍ فلسطينية في العشب، ونُصبت مكتبة صغيرة مؤقتة. على منضدتها، التمعت أسماء الكتّاب غسان كنفاني ورضوى عاشور وسميح القاسم، من بين أسماء أخرى، على أغلفة الكتب تحت أشعة الشمس. وفي وسط الساحة، رُتّبت صفوف من المقاعد الخشبية مقابلَ خيمةٍ مؤقتة وشاشة عرض لجمهور الحاضرين.
بودكاست باللغة الانجليزية
بدأ اليوم بما لا يزيد عن عشر أشخاصٍ توزعوا على المقاعد، ثمّ انضم إليهم المزيد من الأشخاص مع تقدم ساعات النهار، مشاركين في نشاطٍ أطلقت عليه المجموعة المنظِّمة اسم "معسكر اليوم الواحد من أجل فلسطين" الذي اختارت المجموعة إقامته في ذكرى النكسة في الخامس من حزيران/يونيو. على مقربة من مكان الحدث، رُكنت سيارتا شرطة، بدا أنهما تحاولان أن تبدوَا متخفيتَين خارج الحدث.
____________
ملف خاص
إلى غزة وأهلها
____________
ما إن أخذتُ مكاني على أحد المقاعد حتى بدأت إحدى أعضاء مجموعة "طلاب من أجل فلسطين" المنظِّمة للمعسكر، دونما تردد أو مراوغة، بشرح الأسباب التي تجعل كلّ أشكال المقاومة، بما في ذلك المقاومة المسلّحة، مشروعة وضرورية، طالما أن الظلمَ المروّع والعنف المنفلت والمحصّن من العقاب مستمرَّين. في تلك اللحظة، وفي هذه المدينة الصغيرة الخلابة والمحافِظة، وعلى طاولة "البلياردو" المتخيَّلة هذه، بدأ شيءٌ ما بالتحرّك. لم تكن تلك الحركة الجديدة في ذلك المكان القصيّ سوى استجابةً طبيعية لآلامٍ وجرائم لا يمكن تخيّلها تحدث في غزة.. استجابةً لإبادة جماعية.
يهدف هذا النص، والـ"بودكاست" المصاحِب له، إلى دراسة مدينة "مونستر" في ولاية "شمال الراين – وستفاليا" كحالة ألمانية خاصة، حيث تطورت سريعاً العديد من مجموعات التضامن مع فلسطين، وفعّل الناشطون حركتهم في أعقاب الإبادة الجماعية المروعة في غزة التي ترتكبها إسرائيل منذ ما يزيد عن عام. إنها محاولة لفهم ما شهدته هذه المجموعات، التي تعمل على خلفية بيئة اجتماعية غير مرحِّبة، من تحوّلات للوسائل القمعية التي مارستها وتمارسها الدولة، والشرطة، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، وحتى "اليسار" الألماني، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لإسكات الأصوات الداعمة لحرية فلسطين، والداعية لإنهاء الإبادة في غزة، ومحاسبة إسرائيل والمتواطئين معها - بمن فيهم الحكومة الألمانية.
في "البودكاست"[1]، يتحدث الناشطون والناشطات عن تجاربهم في العمل السياسي والناشطي في جوّ العداء الممأسس لكل ما هو فلسطيني في ألمانيا، وفي هذا النص، أحاول استعراض أمثلة عن القرارات الرسمية والإجراءات المتخذة لقمع هذا الحراك بعد الإبادة، بالإضافة إلى سرد بعض الحالات والحوادث المعبرة عن كيفية ممارسة القمع قانونياً ومؤسسياً واجتماعياً.
"مونستر" كنموذج نضالي مصغّر
هذه واحدةٌ من تلك المدن التي تبدو كأنها خرجت من صورةٍ على بطاقة بريدية. نظيفة، جميلة العمارة والطبيعة، وذات نمط حياة متمهّل وادع. "مونستر" ذات صبغة كاثوليكية محافِظة، وتمثّل مركزاً حضرياً ثرياً نسبياً بين عشرات القرى والبلدات الريفية التي تتميز بمساحات كبيرة للزراعة وتربية المواشي. يبلغ عدد سكان المدينة حوالي 300 ألف نسمة، بما في ذلك 43098 طالباً في "جامعة مونستر" التي تستقطب طلاباً من مختلف أنحاء ألمانيا والعالم، ويقطن في المدينة حوالي 25800 مواطن أجنبي من 155 دولة[2]. تمثّل "مونستر" بالتالي عدسةً مناسبة لمراقبة حركات التضامن في أعقاب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، باعتبارها مدينة صغيرة بما يكفي لتسهيل النشاط السياسي المتماسك ومتنوّعة اجتماعياً بما يكفي للكشف عن ديناميّات مجتمعية أكبر.
بحكم دراستي في المدينة، فقد أقمت فيها لعدة سنوات مكّنتني من أن أشهد بنفسي نموّ الأصوات المؤيدة لفلسطين، من نشاطات متفرقة هنا وهناك إلى حضورٍ ثابت وجدّي لديه مقوّمات الحراك السياسي طويل المدى. منذ بدء الإبادة الإسرائيلية، شهدت المدينة مظاهرات مؤيدة لفلسطين بشكل مستمر وفعاليات تضامنية أسبوعية، بمشاركة عدة جهات فاعلة. المناضلون والمناضلات من أجل فلسطين في هذه المجموعات متنوعون للغاية، من عرب، ومهاجرين من دول الجنوب العالمي، وألمان، من طلاب وعائلات متعددة الأجيال، وناشطين أمميين، ومنهم يهود معادون للصهيونية. يعطي هذا التنوع صورة عن المشهد الأشمل في ألمانيا، فمدينة "مونستر" نموذج مصغر لهذه الحراكات ولكن أيضاً للممارسات القمعية متعددة المصادر تجاهها.
مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار"
تُعتبر مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" (“Palästina Antikolonial”) أكبر مجموعة سياسية ناشطة من أجل فلسطين في "مونستر". تأسست المجموعة في عام 2020 في أعقاب إعلان "نتنياهو" خططاً إسرائيلية لضمّ الضفة الغربية إلى الأراضي المحتلة. خرجت مظاهرة في وسط مدينة "مونستر" آنذاك وهتف المتظاهرون "أوقفوا الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية". نشرت صحيفة "مونستر" المحلّية تغطيتها المنحازة ضدّ المظاهرة، كما وصفها "رامز"، أحد الناشطين الفاعلين في مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار"، بينما اتهمت "جمعية الجالية اليهودية في ولاية شمال الراين-وستفاليا" المجموعة بمعاداة السامية حتّى قبل بدء المظاهرة. نظّم مؤيدو إسرائيل مظاهرة مضادة في اليوم نفسه وفي الساحة نفسها دعماً لخطط الضمّ، بينما فصلت أعداد كبيرة من ضباط الشرطة والسيارات بين الحشدين. في الخط الأمامي للمظاهرة الإسرائيلية، رُفعت لافتة كبيرة طُبعت عليها صورة دبابة تحمل العلم الإسرائيلي! كان ذلك الدرس الأول لي – لسخرية القدر- حول ما تعنيه ألمانيا حينما تدّعي التزام "حرية التعبير".
شرح لي "رامز"[3] في مقابلتنا كيف شكّلت تلك المظاهرة نقطة البداية للمجموعة. اجتمع بعض الناشطين بعدها مباشرة وقرروا تأسيس مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" في "مونستر" لأنهم شعروا بأن ثمة حاجة إليها في ذلك المكان والزمان. بعد فترة وجيزة من تأسيسها، سارعت "اللجنة العامة للطلاب في جامعة مونستر" ("آستا") إلى النأي بنفسها عن المجموعة بعد اعتراض ما يُسمّى بـ"تحالف الشباب ضدّ معاداة السامية" على مشاركة المجموعة في فعاليات توجيه الطلاب. وجاء في بيان صادر عن "اللجنة العامة للطلاب" ("آستا")[4] أنها "تراقب بقلق" عودة ظهور ما أسمته "معاداة السامية (المتعلقة بإسرائيل) وأساطير المؤامرة في المجتمع وبين الطلاب"، مذكّرة بأنها أطلقت ما أسمته "مشروع مكافحة معاداة السامية" في تموز/يوليو 2019. وجاء في بيانها: "وفقًا لقرار برلمان الطلاب الصادر في 1 آب/أغسطس 2019، ترفض "آستا" أي تعاون مع حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)". وتابع البيان: "منذ تأسيسها في حزيران/يونيو 2020، لفتت مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" الانتباه مراراً وتكراراً من خلال معاداة السامية (المتعلقة بإسرائيل)، وهي تحافظ على اتصالها بجهات فاعلة من طيف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، مستشهدة بالمظاهرة التي نظمتها المجموعة ضدّ ضمّ الضفة الغربية كأحد "الأدلّة" على "معاداة السامية"!
لكنّ الأمر اللافت للنظر والمليئ بالدلالات هو أن هذه الاتهامات الخطيرة بمعاداة السامية تم دحضها من قبل المجموعة اليهودية الناشطة ("Jüdische Stimme[5]") بالذات، التي نشرت تصريحاً حول الموضوع قالت فيه: "نحن نختلف بشدة مع وصف مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" كمعادية للسامية بناءً على تصريحات المجموعة حول الأوضاع في فلسطين وإسرائيل (...) نرفض بشدة إساءة استخدام تهمة معاداة السامية لتشويه سمعة المتضامنين مع فلسطين[6]".
في حادثة أخرى في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، تدخّلت الشرطة الألمانية لإخراج مجموعة "فلسطين المناهضة للاستعمار" من اجتماع للحكومة الطلابية، بعد احتجاجها على مشروع قانون يمنع الطلاب الذين يدعمون حركة المقاطعة (BDS) من استئجار غرف في الجامعة لنشاطاتها. ومن عجيب المفارقات أن الشرطة أبعدت المجموعة مباشرة بعد قرائتها بياناً موجّهاً من قبل 240 باحثاً يهودياً إلى الحكومة الفيدرالية، يحذّر من مساواة حركة (BDS) بمعاداة السامية[7]، دون أن تجد تلك الدعوات المتكررة آذاناً صاغية في ألمانيا.
عن رحلة اللاجئين في ألمانيا إلى جامعاتهم
29-04-2019
هذه لمحةٌ مختصرة عن المناخ العدائي المعقّد – حيث رمي تهمة "معاداة السامية" أسهل من شربة الماء - الذي كانت تحاول فيه مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" النهوض والتحرك. تلك الحوادث المذكورة سبقت السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. بعبارة أخرى، كان هذا كله قبل الإبادة الجماعية في غزة والحرب على لبنان، وقبل التوترات الحالية التي وصلت ذروتها في أوروبا وألمانيا. اليوم، تفاقمت الاتهامات، وفقاً لشهادات الناشطين، وتحولت إلى تدابير قمعية صريحة لإسكات الأصوات التي تعلو من أجل غزة وفلسطين. ومع ذلك، استمرت المجموعة في تنظيم الاحتجاجات والوقفات الاحتجاجية والاجتماعات المفتوحة والتدخلات بإصرار منذ بدء حرب الإبادة. تتابع المجموعة نشاطاتها الأسبوعية واليومية بطريقة أو بأخرى، بل تكثف عملها مع بلوغ المراقبة والقمع ذروةُ غير مسبوقة.
تأهّبوا.. شُرطة!
تمنحنا البيانات المجمّعة عقب عدة تظاهرات فكرةً عامة عن حجم تدخلات الشرطة في بعض المظاهرات المبكرة في "مونستر". وفي حين لا تتوفر بيانات شاملة ومفصلة عن كلّ تدخلات الشرطة، إلا أن الأرقام التي جمعها الناشطون من رسائل الشرطة المختلفة إليهم ترسم صورة عن الوضع في المدينة. في مظاهرة يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر 2023، قامت الشرطة الألمانية بإصدار 8 تهم جنائية، 4 مصادرات للافتات و/أو رموز تتعلق بفلسطين، حالتَي اعتقال لمتظاهرين، طرد 6 أشخاص من مكان التظاهر، 8 عمليات فحص للهوية. في مظاهرة يوم 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أحصيت 11 تهمة جنائية، و5 مصادرات، و4 اعتقالات، و11 طرداً، و13 عملية فحص للهوية. وخلال وقفة احتجاجية يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، كانت هناك 4 تهم جنائية بما أسمته الشرطة "التحريض"، وتهمة واحدة لما أسمته "الضرب المبرح"، وعمليات أخذ هويات وطرد متعددة.
بناء على هذه المعلومات، فإن المظاهرات الثلاث الأولى فقط شهدت إصدار 25 تهمة جنائية على الأقل، هذا مع العلم أننا نتحدث هنا عن مظاهرات شارك فيها بضع مئاتٍ من الناس إلى بضعة آلاف وعن وقفات احتجاجية شارك فيها بضع عشرات فقط، وهو ما يجعل عدد تدخّلات الشرطة والتهم الموجهة خلال المظاهرات مرتفعة نسبياً. وجد المحامون أن الغالبية الساحقة من هذه التهم والتدابير كانت مرتبطة بتصريحات قيلت أو لافتات حُملت لشعارات مثل "من النهر إلى البحر"، أو "إسرائيل قاتلة الأطفال"، أو "إسرائيل قتلت العدد كذا من الأطفال"، وهو ما جرّمته الشرطة باعتباره "تحريضاً" أو حتّى "خطاب كراهية". كما كان استخدام مصطلحي "التطهير العرقي" أو "الإبادة الجماعية" محظوراً بشكل كلّي، وفي الأسابيع الأولى من الاحتجاجات على وجه الخصوص كانت هناك عدة حالات موثقة لردود فعل جسدية عنيفة جداً من جانب الشرطة، من دفع أو لطم للمتظاهرين السلميين وضربهم واعتقالهم بمجرد نطقهم لعبارة "إبادة جماعية"، كما يؤكد العديد من الناشطين على الأرض، وكما شهدت بنفسي في عدّة مناسبات.
يقدّر الناشطون أن عدد التهم الجنائية الموجهة إلى أعضاء المجموعة بلغ حتى الآن 50 تهمة بالمجمل (حتى تاريخ كتابة هذا المقال)[8]، وقد تم إسقاط العديد من التهم لاحقاً أو أنه لم يتم البتّ بها بعد. في الحالات التي تطلبت الذهاب إلى المحكمة، قررت مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار" خوض المعركة القانونية، وفازت بالفعل بالقضايا التي رُفعت ضدّ ناشطيها في كل مرّة، وهو ما يعني أن هذه التدابير القمعية التي اتخذتها الشرطة كانت تهدف إلى ترهيب الناشطين والمتظاهرين، حيث لم يتمكن النظام القانوني الألماني من إثبات صحة الادعاءات بما يتعلق بأي نشاط جرمي حقيقي أمام القضاء. وكثيراً ما يتكرر هذا النمط في ألمانيا في مختلف المدن، حيث الشرطة "تفتي" بتجريم ما لا تستطيع المحاكم إثباته، فتنجح فقط بتعقيد حياة الناشطين ومحاولة ثنيهم عن ممارسة حقهم الطبيعي بالتعبير ضدّ جرائم دولة الاحتلال.
خلال وقفة احتجاجية أقيمت مساء يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 أمام محطة القطار الرئيسية في المدينة، كان عدد عناصر الشرطة المتواجدين في المكان يفوق عدد المتظاهرين بشكلٍ واضح. أحد رجال الشرطة كان مترجماً حضر خصيصاً لترجمة وتسجيل ما هو مكتوب باللغة العربية على اللافتات التي رفعها المتظاهرون أو رتبوها على الأرض إلى جانب شموعٍ أشعلوها تخليداً لذكرى شهداء غزة. كانت اللافتات المكتوبة بالألمانية والإنجليزية والعربية تقول الشيء نفسه: "أوقفوا الإبادة والتطهير العرقي"، "أنهوا الاحتلال"، "لذكرى شهداء غزة"... ومع ذلك، كان اهتمام الشرطة باللافتات العربية فاضحاً، إذ علق أحد المتظاهرين ساخراً: "يبدو وكأن هذه اللافتات "متّهمة" بمعاداة السامية، كأنها لافتات "إرهابية" لمجرد أنها كُتبت بالعربية".
فلسطين إذ تعرّي "المكارثية" السائدة من جديد
18-01-2024
بقيت اللافتات ولم تُصادَر، ولكن بعد لحظات، حدث المتوقع. انقضّت الشرطة بعنف ودون سابق إنذار على المشاركات والمشاركين في الوقفة الاحتجاجية دون تمييز، وكان العديد من هؤلاء من العائلات التي جاءت مع أطفالها. وأثناء هجومهم على الناس، داس الشرطيون والشرطيات بأقدامهم على اللافتات وصور الأطفال ضحايا الإبادة ودمروا الشموع التي صفّها المتظاهرون على الأرض. هكذا، فأياً كانت الأساليب التي اختارتها الشرطة للمراقبة والقمع، من التدقيق بكل حرف في الشعارات المرفوعة إلى العنف الجسدي، فهم يعرفون حق المعرفة بأنهم يتمتعون بحرية متأصلة لضرب الأبرياء ودفعهم أو اعتقالهم خلال احتجاجٍ سلمي. إن صورة الشموع المخصصة لإحياء ذكرى الأطفال والأبرياء الشهداء في غزة، بعد أن دمّرتها الشرطة عمداً، هي في انعكاس جليّ للمنطق الذي يحكم العلاقة بين قوات الشرطة الألمانية والمحتجين ضد الإبادة الجماعية الأكثر إثباتاً بالصوت والصورة والأدلة في العالم.
يقول "رامز" أن المجموعة لاحظت تحولات في الأساليب التي اعتمدتها الشرطة تجاه المحتجين والناشطين من أجل فلسطين مع مرور الوقت. على سبيل المثال، في حين لا يزال عنف الشرطة شائعاً ضد المحتجين المؤيدين لفلسطين في مظاهرات "برلين"، يبدو أن العنف الجسدي في "مونستر" قد تراجع تدريجياً بعد الأشهر القليلة الأولى التي شهدت شراسة كبيرة من طرف الشرطة، وحلّت محله وسائل أخرى للقمع والترهيب. بات "المظروف الأصفر" الذي يصل إلى صندوق بريد الناشط أو الناشطة شائعاً، وهو يشير إلى تهمة جنائية ما أو إلى أمرٍ ملزم بالاستجابة القانونية للشرطة أو أمر بدفع غرامة مالية، أو إلى مزيج من هذه الأمور حسب التهمة الموجّهة وأسبابها، وهذه الأخيرة دائماً ما يكون وصفها في الرسالة مبهماً. تشكّل هذه التهم علامات دائمة على السجلات القانونية والجنائية للأفراد وتؤثر على جوانب مختلفة من حياتهم من الإقامة (بحال لم يكونوا ألمانيي الجنسية) إلى العمل. تختبر الشرطة الألمانية في المدن المختلفة وسائلها الأنجع في القمع، ويبدو أحياناً أنها تأخذ وقتها في ذلك وتلجأ لدهاليز البيروقراطية لخنق الأصوات المؤيدة لفلسطين.
المجتمع الألماني وتناقضاته
مواطنٌ يشقّ طريقه من الرصيف ليخترق الحشد في مظاهرة لغزة، فيبدأ بإطلاق الشتائم أو الهتاف بشعارات داعمة لإسرائيل. هذا مشهد تكرّر أمام عيني مرات عدة، وفي كلّ مرة كان تأثير المشهد صاعقاً. لم تكن هذه الحوادث نادرة، بل كانت تشي بوضوح بمشاعر عميقة شائعة بين مواطنين عاديين، كارِهة لفكرة انتقاد إسرائيل بأية طريقة. في إحدى المرّات، أوقفت سيدة ألمانية ناشطاً كان يتحدث بشكلٍ عاطفي عن وفاة أفراد من أسرته في غزة، فجاءت إلى الميكروفون وأخذته منه لتقول إن نبرته "عالية للغاية وعاطفية للغاية". "لماذا لا تتحدث بصوت أكثر هدوءاً؟"، سألته، فردّ المتحدّث مذكّراً إياها بأن نبرته هي نبرة غضب وحزن شديدَين لأنه يتحدث عن "إبادة جماعية" لا أقلّ، ولأنها إبادةٌ يتمّ تمويلها بأموال دافعي الضرائب الألمان ـ أموالها هي.
يحكي العديد من الناشطين عن شيوع عادة "الرقابة على اللهجة" (“tone-policing”) اجتماعياً، حيث أن الشرطة والدولة ليستا السلطتَين الوحيدتَين اللتين تعملان على خنق الأصوات الفلسطينية أو المتضامنة. بعض ردود الفعل الألمانية العنيفة تجاه الناشطين هي من إفرازات التناقضات التاريخية العميقة الجذور داخل المجتمع الألماني. ليست مفاهيم مثل الـ "Staatsräson" بغريبة عن مكونات هذا المجتمع، يُنظَر بموجبه إلى أمن إسرائيل على أنه "مصلحة وطنية عليا" - وهو ما تصفه الكاتبة اليهودية الألمانية "ديبورا فيلدمان" بـ"علاقة معاملاتية"[9]، فهي "تحدّد من يمثل عموم اليهود في ألمانيا"، وتؤدّي إلى نتيجة مفادها أنه كلّما تمّ إسكات أصوات اليهود غير المؤيدين لإسرائيل، كلما ارتفع في المقابل صوت "الألمان الذين تدفعهم عقدة ذنبهم تجاه المحرقة إلى جعل اليهودية موضوعاً صنمياً (fetish) إلى حدّ تحوّله وسواساً قهرياً". قد يفسر هذا للعديد من الناشطين، وبخاصة الأصوات اليهودية الفاعلة على الأرض، لماذا تمّ إسكاتهم هم أنفسهم من قبل بعض الأفراد الألمان في مناسبات لا تحصى.
إذاعةٌ مستقلة في عالم مضطرب
في شباط/ فبراير 2023، قامت مجموعة من الناشطين بمقاطعة فعالية فنية في متحف "إل في إل" ("LWL")، أكبر متاحف الفن المعاصر في "مونستر"، مطالبين بإنهاء الإبادة الجماعية في غزة ووقف ما أسموه "ثقافة إلغاء الأصوات الفلسطينية في ألمانيا". جاء ذلك بعد إسكات أكثر من مائة صوت فلسطيني أو متضامن مع فلسطين في عالم الفن والثقافة في ألمانيا من خلال إلغاء التعاون معهم في المحاضرات أو الفعاليات والمعارض أو سحب العمل منهم وفك الشراكات معهم. وزّع الناشطون منشورات تشرح أسباب مقاطعتهم للحدث الفني، ورفعوا أسماء الفنانين والكتاب وغيرهم من الشخصيات الثقافية التي ألغتها ألمانيا من المشهد. وبدون تأخير، حضرت الشرطة وحاصرت المكان في محاولة لإنهاء حالة الاحتجاج. تبع صحفي ألماني مرسَل مِن إحدى الصحف المحلية عناصر الشرطة ملتقطاً الصور، إلا أنه لم يتردد بمبادرة المحتجين بالاعتراض على وجودهم وافتعال مشاجرات كلامية جانبية معهم، وذاهباً إلى حدّ مضايقة صحفيّ مستقل كان يغطي الحدث لإذاعة "أنرست راديو" ("راديو الاضطراب") المستقلة.
"سعد" هو ذلك الصحفي المستقلّ[10] الذي غطّى أحداث تلك الليلة. هو ناشط سياسي ومحرّض دائم للعمل المباشر على الأرض، وهو عضو مؤسس لإذاعة راديو مستقلة يديرها ناشطون وطلاب باسم "أنرست راديو". الإذاعة هي "فسحة مستقلة تعمل على التوثيق السياسي للأصوات غير المسموعة"، حسب وصفه. لا بدّ أن كلّ من حضر مظاهرة لفلسطين في "مونستر" قد التقى مرة على الأقل بـ"سعد" وكاميرته المتنقلة بلا هوادة موثقة كل شيء يمكن توثيقه. يقول لي "سعد" في مقابلتنا أنه ورفاقه في الإذاعة ملتزمون بمنح منصّتهم للأصوات التي يتم إلغاؤها والتي لا يمكن أن تعطى فرصة للتعبير عن نفسها في الإعلام الجماهيري، ويسمّى الراديو "بياناً سمعياً للمضطهَدين".
في فعالية المتحف، اقترب صحفي جريدة "مونستر" من "سعد" مراراً مصرّاً على التقاط صورة لوجهه، على الرغم من أن الأخير رفض ذلك معتبراً الصورة نوعاً من المراقبة. لاحقاً، بينما قام عناصر الشرطة بوضع شريط يفصل الناشطين عن بقية الحاضرين في المتحف، بادر الصحفي المحلّي نفسه تطوّعاً لمساعدة الشرطة في نقل الشريط مساهماً بيديه في محاصرة المحتجّين (!) كانت تلك لحظةً صادِمة أخرى، بالنسبة لي كطالبة مقيمة في المدينة وكصحفية أيضاً، ولكنها كانت ضرورية وكاشفة لِما قد تصل إليه انحيازات الصحافة الألمانية عندما يتعلق الأمر بقضايا فلسطين.
يذكر "سعد" أنه في تلك الليلة في المتحف، طلبت الشرطة من جميع الناشطين الموجودين بلا استثناء أن يدلوا بمعلوماتهم الشخصية للشرطة، ثمّ تمّ تبليغهم بأنهم سيتلقون رسائل بريدية تحمل معلومات عن التبعات القانونية بتهمة "التعدي على الأملاك الخاصة". لكنه وبصفته صحفياً، لم يتم إيقاف "سعد" وتحديد هويته. ومع ذلك، أخبرني بأنه فوجئ بالعثور على رسالة من الشرطة في صندوق بريده بعد أيام من الحادثة. "كيف يمكنهم معرفة اسمي وعنواني إذا لم يسألوني عن هويتي في ذلك اليوم؟"، يسأل "سعد"، مستنتجاً أن مراقبة الشرطة للناشطين قد تجاوزت الإجراءات القانونية وتحولت لممارسة قمعية منفلتة من الضوابط.
بعد أسابيع من ذلك الحدث، قابلت "سعد" وسألته عن قرار إذاعة "أنرست راديو" تخصيص مساحة كبيرة من منصتها لتغطية الإبادة الجماعية في "غزة" وكشف تواطؤ ألمانيا. وقد نشرت الإذاعة عدة حلقات "بودكاست" تناولت تواطؤ وسائل الإعلام الألمانية ووحشية الشرطة والعنصرية في المؤسسات والمجتمع، وأخرى تضمنت شهادات من غزة[11] وتصريحات من ناجين من "الهولوكوست"[12]، ومن ناشطين يهود يكشفون عن مفارقات ألمانية نفاقيّة عجيبة[13]. كما غطّت الإذاعة بالتفصيل قضية منع نادي السينمائي الطلابي التابع لمعهد الإثنوغرافيا من عرض فيلم "خارطة طريق إلى الفصل العنصري[14]"، مما دفع الطلاب إلى تحدّي الحظر واحتلال إحدى قاعات العرض في مبنى الجامعة وعرض الفيلم ومناقشته.
يشرح "سعد" أن الإذاعة تقوم على فكرة توثيق كلّ ما لا يتم توثيقه في الإعلام الجماهيري الألماني، من خلال البودكاست والتغطية ونموذج صحافة المواطن المستقلة. وعلى هذا، فقد كان من الطبيعي أن تنخرط إذاعة "أنرست راديو" في مجهود واعٍ منذ بداية الإبادة لإعلاء الإصوات الفلسطينية ومحاربة التغطية المنحازة لوسائل الإعلام الألمانية حول فلسطين وحركة التضامن معها. يعتبر "سعد" أنه كمواطن بنغلادشي يعيش في ألمانيا منذ سنوات، محمّلاً بتاريخ أسلافه الذين رزحوا تحت الاستعمار البريطاني الوحشي لأكثر من 200 عام، فإن لديه رغبة كبيرة ومسؤولية أكبر للتحدث عن فلسطين اليوم. "لن يدافع هذا المجتمع الألماني عن غزة، لذا يتعين علينا نحن أن ندافع عن غزة".
أغلفة لحلقات "بودكاست" لإذاعة "أنرست راديو". الصور منشورة بإذن من الإذاعة.
طلّاب من أجل فلسطين
في عام 2023، صوت مجلس شيوخ "جامعة فيلهلم-وستفاليا في مونستر" (“WWU”)لصالح إزالة اسم قيصر ألمانيا الأخير "فيلهلم الثاني" من اسمها، واختير اسم "جامعة مونستر" دون إضافات بديلاً من الاسم القديم. جاء هذا القرار بعد خمس سنوات من اقتراح عدد من الطلاب إعادة التسمية، مطالبين الجامعة بالتبرّؤ من شخصية تاريخية إشكالية يُعتقد أنها ساعدت أو على الأقل كانت متسامحة مع النازية في بدايات صعودها. البناء الفخم الذي كان يوماً قصر القيصر هو اليوم المبنى الرئيسي لجامعة "مونستر". لكنّ الجامعة لم تستعجل أبداً عملية إعادة النظر في ما يمثله الاسم، ولم تقم بالمراجعة المطلوبة بما تمثله تقاليدها وسياستها في الجوهر حتى الآن رغم التغيير الاسمي (الشكلي). اليوم، تواجه الجامعة أسئلة أكثر تعقيداً، فأين تقف من الاستعمار والإبادة الجماعية في غزة؟ وما موقفها من حرية الطلاب في التعبير والتجمّع والعمل السياسي؟
في نفس هذه الأروقة والقاعات والفصول الدراسية حيث تتفاعل هذه الأسئلة الملحّة يومياً، وُلدت مجموعة الناشطين التي أطلقت على نفسها اسم "طلاب من أجل فلسطين". تصف المجموعة نفسها بأنها مجموعة تضامن أمميّة "تدعم حرية فلسطين وتدافع عن حرية التعبير وتقف ضدّ الإبادة الجماعية المستمرة"، كما توضح سيرتها الذاتية على إنستغرام. تأسست المجموعة بعيد الإبادة في غزة في كانون الأول/ديسمبر 2023، وفي أعقاب دعوة لتنظيم العمل السياسي في ألمانيا من مجموعة ماركسية طلّابية تٌسمّى "أسحلة النقد" (“Waffen der Kritik”)، التي تنشَط في برلين وبريمن وكاسل ولايبزيغ ومونستر وميونيخ، من بين مدن وجامعات ألمانية أخرى. تدعو المجموعة الطلاب في كل ألمانيا إلى تنظيم أنفسهم والتعبئة "للمساهمة في الصراع الطبقي"، وفقًا للمانيفستو الخاص بهم، من أجل "عالم خالٍ من الاستغلال والقمع". انطلاقاً من هذا الإطار الفكري وفي سياق لحظة الإبادة، دعت المجموعة التحرك من أجل غزة، فاستجاب الطلاب الناشطون في "جامعة مونستر" سريعاً للنداء.
"جاي" (اسم مستعار) هي ناشطة عضو في حركة "طلاب من أجل فلسطين" في "مونستر"[15]. وصلت إلى المدينة في عام 2022 من الولايات المتحدة. وبعد أقل من عام، أتيحت لها الفرصة لاكتشاف ديناميكيات القمع والرقابة داخل أنشطة الحرم الجامعي على مستويات مختلفة. ليس العمل السياسي والناشطي بجديد على "جاي" الآتية من مجموعات طلابية أممية ومناضلة لحقوق السود في الولايات المتحدة، إلّا أنها في ألمانيا شعرت غير مرّة بالذهول إزاء ما تشهده من أساليب قمعية صريحة تستخدمها المؤسسة الأكاديمية إزاء الأصوات المتضامنة مع فلسطين. "هو انزلاقٌ مفتوحٌ نحو الفاشية"، هكذا تصف المناخ الحالي في ألمانيا، "وهو انزلاقٌ لا يلاحظه أو يعترف به أحد خارج دوائر التضامن هذه".
تشرح لي "جاي" أن اتحاد الطلبة ("آستا") مرّر ما سمّاه "قرار الـBDS"، وهو "يحظر بشكل أساسي أي عمل يُعتبر معادياً للسامية"، وتضيف، "لكن كما لاحظنا خلال العام الماضي على وجه الخصوص، فإن بإمكانهم وصف أيّ شيء بهذه الطريقة في الآونة الأخيرة - أي شيء على الإطلاق له علاقة بإظهار التضامن مع فلسطين أو مساءلة ممارسات إسرائيل أو ما يسمّى بحقها في الوجود (...) كل ذلك يوصَف على هذا النحو".
يحظر قرار الـ"BDS" عملياً أنشطة مجموعة "طلاب من أجل فلسطين" داخل الحرم الجامعي، ويمنعهم من حرية التجمع والتعبير دون المجازفة بعواقب تصل إلى الفصل من الجامعة وعقوبات قانونية قاسية خارجها، وهو ما أجبر الناشطات والناشطين على التحايل على الحظر وخلق مساحات لأنفسهم في أماكن قريبة بما يكفي من محيط الجامعة بحيث يراها عموم الطلاب ويعرفون بشأنها. تضيف "جاي" أن هذا القمع لا يأتي فقط من الشرطة والجامعة، بل من المجتمع الألماني نفسه أيضاً الذي يسهُل عليه وصم التضامن مع فلسطين بالـ "جريمة المعادية للسامية". تقول "جاي"، "ما نفعله الآن هو أننا نتحرك بموازاة الجامعة، ونضطر كثيراً لمحاولة إيجاد ثغرات يمكن لنا استخدامها للاستمرار في عملنا".
في شهر كانون الثاني/يناير 2024، وجّهت مجموعة "طلاب من أجل فلسطين" رسالة مفتوحة إلى إدارة الجامعة تطالبها فيها "باتّخاذ موقف علني ضد الإبادة الجماعية المستمرة للفلسطينيين في غزة" و"الالتزام بمسؤوليتها في التضامن مع القطاع الأكاديمي في فلسطين ومع الشعب الفلسطيني بأكمله في مواجهة الإبادة الجماعية". تضمّنت المطالب أيضاً: العمل من أجل الضغط لوقف فوري لإطلاق النار ودخول المواد الغذائية والأساسيات إلى غزة على الفور، وإنهاء جميع المساعدات المالية والعسكرية الألمانية لدولة إسرائيل، والإفراج عن جميع السجناء السياسيين الفلسطينيين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى الاعتراف علناً وبشكل لا لبس فيه بالعدوان الإسرائيلي الحالي ووصفه بشكل دقيق كـ"إبادة جماعية".
إضافة لما سبق، شدّدت المطالب على وقف كافة أشكال التعاون مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، مذكّرة بأن ما يجري في غزة هو "إبادة معرفيّة" (“epistemicide”)، متمثّلة بإبادة الموارد والمساحات التربوية والثقافية والأفراد العاملين فيها. طالبت الرسالة بتوفير الدعم الأكاديمي للطلاب والباحثين والأساتذة المتضررين من الإبادة الجماعية، بالإضافة إلى التأكيد على ضرورة ضمان التدابير التي تحمي حرية التعبير للأصوات المؤيدة للفلسطينيين وللأصوات المهمّشة. وكما هو متوقّع تماماً، فإن إدارة الجامعة لم تلبّي أياً من هذه المطالب الملحّة، بل إنّ الطلاب لم يتلقّوا بعدها أيّ إجابة جادة حتى اللحظة، وتُركوا مجدداً لخوض معركتهم منفردين.
هل قلتم "يسار"؟
لقد أغلقت العديد من المساحات الثقافية والأكاديمية والمجتمعية أبوابها في وجه فعاليات التضامن مع فلسطين، حسب ما قال "سعد"، معدداً قائمة الجهات القامِعة من وجهة نظره: "هناك الدولة، والمؤسسات الأكاديمية، واليسار... نعم، هم أيضاً.". يؤكد "رامز" ذلك، ذاهباً إلى إجراء مقارنة مع الأحزاب والمجموعات والمساحات اليسارية في مختلف بلدان العالم التي أعلنت تأييدها الواسع بالمجمل للنضال المناهض للاستعمار وللشعب الفلسطيني كجزء طبيعي مما يؤمنون به. "لكن في ألمانيا..."، يضحك "رامز" بسخرية، "في ألمانيا، الوضع مختلف. الكثير من الجماعات "اليسارية" لديها رواية مختلفة تماماً. فهي تدعم "مصلحة الدولة العليا" (المتمثّلة بإسرائيل) وهي متواطئة مع الدولة الألمانية بهذا الشأن (...) كما نرى قمعاً يمارَس من قبل هذه الجماعات [اليسارية]". من جهتها، تكمل "جاي" فكرة "سعد" و"رامز" من خلال تجربتها في "اكتشاف" اليسار الألماني: "لديكِ أشخاص... [تضحك] "أناركيون" – بالأحرى يصفون أنفسهم بالـ"أناركيين" وبالـ"يساريين". هم أشخاص من المفترض أنهم يكرّسون عملهم لقيم المساواة، ومن المفترض أنهم يعملون لمشروع ثوري، لكنكِ وبمجرّد إثارة هذه القضية أمامهم، يصير من الواضح تماماً أنهم في الواقع أقرب كثيراً إلى التماهي مع هذه الدولة منهم لتبنّي أي فكرة للتغيير الحقيقي".
يشكّل ما يسمّى اصطلاحاً بالتيار "المعادي لألمانيا" (“Anti-Deutsche”) مثالاً محيّراً بالفعل. فالمجموعة التي تدّعي أنها "يسارية" و"معادية للفاشية" (ومن هنا هي معادية للدولة الألمانية وتاريخها النازي)، هي في الحقيقة مجموعة مؤيدة للصهيونية! تحرص تلك المجموعة على دعم إسرائيل، وبالتالي على دعم "مصلحة ألمانيا العليا" و"سبب وجودها"، إسرائيل. هذا التوجه السياسي يفضح نفاق المجموعة ويجعل منها داعمة لدولة الإبادة الجماعية وللاستعمار، وعنصرية بالضرورة، وعلى طرف النقيض من مصالح الشعوب المستعمَرة.
في هذه الظروف، يدرك الناشطون الذين قابلتهم في "مونستر" تماماً حقيقة أن الطريق طويل وأن العقبات التي ينبغي تذليلها كثيرة جداً. في ألمانيا بالذات، عندما يتعلق الأمر بالنضال الفلسطيني، فإن "اليسار" ببساطة لا يمكن الاعتماد عليه، مما يجعل العمل الناشطي السياسي من أجل فلسطين في "مونستر" ـ أو بالأحرى في ألمانيا برمتها ـ جهداً وحيداً عنيداً، لا ينتظر من أحدٍ شيئاً. تقول "جاي" أنه حتى لو أوقفت إسرائيل العدوان على لبنان والإبادة في فلسطين غداً، فإن عمل هذا الحراك لن ينتهي، "سوف تظلّ هناك حاجة، بل حاجة كبيرة جداً، إلى استمرار التضامن".
الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب
09-02-2024
هو نضالٌ موحش، لكنه غير مهادن. لا خيار سوى في مواصلة الضغط. هناك شبكات تضامن مع فلسطين تضم مجموعات تنسجم في طرق التفكير وتشترك في المبادئ، منها شبكة "كوفيّة"[16]، التي تحاول تنسيق الجهود في مختلف أنحاء ألمانيا لتنظيم عمل المجموعات تحت مظلة ناشطة كُبرى. من جهة، يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات والتصعيد التدريجي بالعمل المباشر، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة الأمد متعلقة بمقارعة الاستعمار ونظم القمع العالمية. ومن جهة أخرى، يعرب كثر عن إحباطهم إزاء مقدار الوقت والجهد المهدورَين في محاولات تجنّب المضايقات والقمع من العديد من الاتجاهات المختلفة في ألمانيا، ما يجعل الأنظار تنحرف عن الموضوع الأساس في "غزة" التي لم ينقطع نزيفها، وهم يخْلصون إلى ضرورة استكشاف طرق جديدة للضغط على الدولة الألمانية والمؤسسات، والمصانع المتورطة بصناعة قطع الأسلحة، وتصديرها، وزيادة الضغط في الدول التي تمثّل مراكز استعمارية قوية داعمة بكل الأشكال للاحتلال الإسرائيلي. في ظل الإرباك والعوائق التي الذي بسبّبها القمع والترهيب، تشير البوصلة الواضحة وضوحَ النهار إلى الطريق الذي ينبغي أن تسلكه الحركة النضالية، حسب رأي صديقتي "ماري"[17] الناشطة في مجموعة "فلسطين المعادية للاستعمار": "يجب علينا أن نضع غزّة ومقاومتها في مركز كل الأشياء. علينا أن نتذكّر ذلك في كلّ خطوة ودائماً".
- يتضمن "البودكاست" (باللغة الإنجليزية) شهادات وآراء من ناشطين في مجموعات مختلفة متضامنة مع فلسطين. ↑
- 8.6 بالمئة من السكان حسب الأرقام الرسمية لبلدية "مونستر". ↑
- يمكن الاستماع إلى شهادة "رامز" بالتفصيل في حلقة "البودكاست". ↑
- https://www.asta.ms/aktuelles-layout?id=124 ↑
- The Jewish Voice for Just Peace in the Middle East: https://www.juedische-stimme.de/ ↑
- https://www.juedische-stimme.de/statement-zur-stellungnahme-des-asta-munster-zur-gruppe-palastina-antikolonial ↑
- https://mondoweiss.net/2021/12/german-police-remove-pro-palestinian-students-from-campus-meeting/ ↑
- بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وآب/أغسطس 2024, ↑
- من مقال كتبته "فيلدمان" للغارديان، بعنوان "ألمانيا مكان جيّد لتكون يهودياً، إلا إذا كنتَ مثلي يهودياً تنتقد إسرائيل". نٌشر بالإنكيزية في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023: ‘Germany is a good place to be Jewish. Unless, like me, you’re a Jew who criticises Israel’. ↑
- يمكن الاستماع لشهادة "سعد" كاملة في "البودكاست". ↑
- يمكن الاستماع إلى شهادة "معاذ أبو معيلق" من "غزة" هنا: https://www.instagram.com/p/C--ZjCesHgV/ ↑
- يمكن الاستماع إلى شهادة "ماريون إنغرام"، الناجية من المحرقة اليهودية والناشطة للحقوق المدنية، بخصوص حرب الإبادة على غزة، هنا: https://www.instagram.com/p/DBWl1FAhRtr/ ↑
- يمكن الاطلاع على مقابلة مع "إيريس هيفيتس" من مجموعة "أصوات يهودية للسلام العادل" (Jüdische Stimme) هنا: https://www.instagram.com/p/C0MgUeHCGjJ/ ↑
- "خارطة طريق إلى الفصل العنصري" (Roadmap to Apartheid) هو فيم إسرائيلي أنتج عام 2012 يقدم تحقيقاً بانطباق مصطلح "الفصل العنصري" على حالة فلسطين وما تفعله إسرائيل فيها. ↑
- يمكن الاستماع إلى شهادة "جاي" في حلقة البودكاست. ↑
- لقراءة بيان شبكة "كوفية" هنا: https://kufiya-netzwerk.de/statement/en/ ↑
- يمكن الاستماع إلى المقابلة مع "ماري" في "البودكاست". ↑