إعداد وتحرير: صباح جلّول
"ميلاد بيت لحم" مشهدٌ فني يصور مهد المسيح، جرت العادة على عرضه كل عام في مثل هذا الوقت في أجواء ميلاد السيد المسيح في الفاتيكان. في التجهيز الفني لهذا العام، قدّم فنانان من بيت لحم، هما جوني أندونيا وفاتن ناستاس متواسي، رؤيتهما للمشهد: منحوتات من خشب الزيتون الفلسطيني تشكّل المسيح رضيعاً أمام أمه مريم الراكعة قربه ويوسف النجار مصلياً معها، فيما الطفل المقدس يلتحف كوفية فلسطينية مُدّت تحته. فوقهم جميعاً منحوتة مفرّغة لنجمة بيت لحم، كُتب حولها "المجدُ لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة"، باللغتين العربية واللاتينية. يتربع المشهد الآن في قاعة القديس بطرس في الفاتيكان، وقد حضر لافتتاحه والصلاة أمامه، البابا فرنسيس، الذي أهدى له أطفال فلسطينيون لوحة "نجمة بيت لحم".
التجهيز هو واحد من سلسلة من مشاهد الميلاد بعنوان "ميلاد بيت لحم 2024″، وهو ليس الوحيد أو الرئيسي، إلا أنّ هذا المشهد بالذات – للبابا فرنسيس جالساً على كرسيه المدولب قرب المسيح الطفل المقمّط بكوفية فلسطينية – كان كافياً جداً لإثارة جنون دولة الاحتلال الإسرائيلي وإعلامها بشكل هستيري. وقد كان سجلّ البابا فرنسيس "ملطّخاً" لديهم أصلاً بسبب تصريحاته مؤخراً حول ضرورة النظر في الأدلة حول الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.

لم تتردد صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، على سبيل المثال لا الحصر، باتهام البابا بمعاداة السامية لمواقفه تلك، ولأنّ "رسالته إلى كاثوليك الشرق الأوسط (...) تمتلئ بمقاطع من إنجيل يوحنا"(!)، حيث المقاطع المختارة هي بحسب الصحيفة "غالباً ما كانت تُستخدم في الماضي لتغذية معاداة السامية الدينية". لم يبقَ سوى أن يتهم الإعلام الإسرائيلي الإنجيل بمعاداة السامية بهذا المنطق!
كما انفلتت محاججات عقيمة وهزيلة حول "هوية المسيح" الذي تنزعج إسرائيل بشدة من نعته ب"الفلسطيني" لأنه من أرض فلسطين التاريخية، ولأن معاناته واضطهاده يشبهان معاناة الفلسطينيين إلى حد بعيد. ويُذكِّر بأنه على الفلسطينيين مقاومة مضطهديهم. كل هذه السياقات التاريخية والرمزية التي تربط فلسطين بالمسيح لا تعجب دولة الاحتلال بالطبع، فيسارع إعلامها للترويج لفكرة ملتوية توحي بأن كون المسيح ولد يهودياً يعني بشكلٍ موارب ما، أنه أقرب لإسرائيل منه إلى فلسطين! لا عجب على كل حال، طالما أن الاحتلال معتادٌ على سرقة كل شيء، الأرض والطعام والأسماء.. وحتى المقدسات!
اللافت في الأمر أن تحويل مشهد المهد بمناسبة عيد الميلاد إلى فرصة للتذكير بمعاناة الفلسطينيين صار أمراً تعتمده الكثير من العائلات والمؤسسات المناصرة لفلسطين حول العالم. منذ عيد الميلاد الماضي عام 2023، ومع مبادرة الأب منذر إسحق، راعي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في بيت لحم، بتصوير المسيح الطفل طفلاً من غزة يلفه الركام من كل حدب وصوب، صار الميلاد فرصة للمسيحيين الفلسطينيين وغيرهم من المؤمنين حول العالم لإيصال ألم الفلسطينيين من بلاد السيد المسيح بطريقتهم، وللمطالبة مجدداً بضرورة إيقاف الإبادة المستمرة في غزة منذ أكثر من 14 شهراً.

تتزايد أسباب الانزعاج لإسرائيل، فيتزايد عنفها متوازياً مع ازدياد ادعاءاتها بالاضطهاد! لم يصمت البابا فرنسيس إزاء الأهوال الرهيبة التي يرتكبها جيش الإبادة الإسرائيلي في كلّ من فلسطين ولبنان. هذا ما أزعج الصهاينة حول العالم منه. فهو، على الرغم من حرصه من موقعه رئيساً للكنيسة الكاثوليكية أمام رعيّة تبلغ 1.4 مليار إنسان، على عدم إظهار انحياز لدول بعينها، إلا أنّ مسؤولياته تقتضي الانحياز للمظلومين والمسحوقين. فأثارت تصريحاته في أيلول/ سبتمبر الماضي ضجة كبيرة لانتقاده قتلَ إسرائيل للأطفال الفلسطينيين في غزة، ثمّ وصف الغارات على المدنيين الآمنين في لبنان بأنها "تتجاوز الأخلاق"، كما دعا في كتابه على التحقيق بدقة في أدلة الخبراء الدوليين حول الإبادة الجماعية، وقال إن عدم قدرة العالم على إيقاف العنف في غزة والشرق الأوسط "مشينة"، وغيرها ومن المواقف التي جعلت منه مستفِزاً من موقعه ذاك بالذات لدولة الاحتلال.
الأمر لا يتعلق بغزة أو بفلسطين فحسب
09-02-2024
"والدموع في عيوننا، نرفع صلاتنا من أجل السلام"، قال البابا فرنسيس في حفل افتتاح مشاهد الميلاد، يوم السبت في السابع من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مضيفاً أن مشهد المهد (الفلسطيني) هو بمثابة تذكير بكل أولئك الذين "يعانون من مأساة الحرب في الأرض المقدسة وأجزاء أخرى من العالم"، بحسب تعبيره، ولم ينسَ البابا فرنسيس إدانة تجارة وصناعة الأسلحة "التي تتغذّى على الحرب والموت"، مجدداً دعوته: "أيها الإخوة والأخوات، كفى حروباً، كفى عنفاً".