لا تزال تلك الصورة عالقة في ذهني. أهالٍ متجمعون يصرخون بأنهم يسمعون أصواتاً تأتيهم من سجناء تحت الأرض، يبحثون عن بوابات السجون فلا يجدونها. كان الناس يحفرون بأيديهم وبآلات بسيطة علّهم يصلون إلى المدفونين أحياءً في غرف كونكريتية عميقة، لا لشيء سوى لأنهم عارضوا في يوم ما النظام الحاكم. تُرِكَ الناس يحفرون وحدهم، بينما وقف جنود الاحتلال الأمريكي أمام المصارف ووزارة النفط لحمايتها مِن دخول الشعب الجائع إليها. كانوا يحمون مسروقاتهم الجديدة التي شحنوا جيوشهم لآلاف الأميال من أجل الحصول عليها. لا يعرف أحدٌ إلى يومنا هذا إن كان كل المدفونين تحت الأرض قد نجحوا في الخروج إلى الشمس، أم أنهم ماتوا وبقي سرّ وجودهم مع مَن كانوا يحملون مفاتيح زنزاناتهم السرية. فالعراقيون لم يكونوا يملكون وقتها ،في بداية الألفية الثالثة، هواتف ذكية، ولا مواقع تواصل ينقلون مِن خلالها قصصهم وأحزانهم. كانوا يُقتلون ويحزنون ويُهَجَّرون وينزحون بهدوء قاتل، لا يرى العالم منهم سوى ما تنقله وسائل إعلامٍ تنتمي إلى الجهة أو تلك.
أطوار الخوف العراقي
28-01-2016
صناعة العقاب فـي العراق
05-09-2012
أقرأ شهادات أهالي المعتقلين في سجون "الأسد" ممن وجدوا أحبتهم، وممن لا يزالون يبحثون عنهم، وأتذكر أمي. الشابة الثلاثينية التي خُطِفَ منها زوجها فجأة ومن دون مقدمات، فطرقت كل الأبواب لتعرف مكانه، حتى وصل إليها بعد فترة طويلة خبرٌ غير مؤكد ،عن وجوده في المعتقل السياسي في سجن "أبو غريب" سيء الصيت. حَملتْ أمي حقيبةً وضعت فيها ملابس وطعاماً لأبي، وذهبت في وقت زيارة السجن العادية مع أهالي السجناء الجنائيين. لا أحد يعرف إلى هذا اليوم، كيف تمكنت تلك المرأة الرقيقة، صغيرة الحجم، من أن تصل إلى بوابات قسم المعتقلين السياسيين. وحتى رحيلها بعد مرور أكثر من 40 عاماً على تلك الحادثة، كنا كلما سألناها كيف استطاعت الوصول إلى تلك البوابات من دون أن يراها أحد، كانت تجيب بالصمت وبابتسامة شقية صرنا نعرفها جيداً. كل ما عرفناه إلى هذه اللحظة هو تندُّر والدي بعد نجاته من المعتقل على إنهم سمعوا السجانين في حينها يتهامسون خائفين، عن وصول أحد الأهالي إلى بوابة السجن، وأنهم أقاموا "حفلة" إضافية لضرب السجناء في ذلك اليوم . يومها طَرد الحارس أمي، وهو غير مصدِّق وصولها إلى البوابة ،حتى من دون أن يسألها لمن كانت تنوي تلك الزيارة الممنوعة، فقد كان بالتأكيد خائفاً أكثر منها من عواقب ظهور تلك المرأة في مكان يغيب فيه الناس ولا يظهرون.
لم يخرج والدي من زنزانته الانفرادية في معتقل "أبو غريب"، والذي شهد فيه موت رفاقه تحت التعذيب والتنكيل، وحمَل جثثهم أحياناً بنفسه بأمر من القتلة، ليرى بلداً حراً أو أهالي محتفِلين. بل خرج ليكتشف أن من اعتقله قد أدخل البلاد في حرب مع "إيران" استمرت لسنين طويلة، استنزفت قواها وثرواتها وتركت شبح الموت في كل بيت عراقي. ربما كان والدي من المحظوظين، لأنه استطاع النجاة من المعتقل بأعجوبة، بالرغم من أن تجربته تلك، وثقلها، شكلّت كل ما في حياته وحياتنا أنا وإخوتي وأمي إلى يومنا هذا، إلا أنه عاش في نهاية المطاف ليروي الحكاية. ولا يزال يوم وصوله إلى البيت عائداً من المعتقل محفوراً في مخيلتي كأنه حدث البارحة، على الرغم من مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف على خروجه. كنت طفلة وكان كل من حولي يؤكد لي أن هذا الرجل الغريب المتعب أمامي هو والدي، لكن ذاكرتي الطفلة لم تكن تراه. لم يكن اللقاء احتفاليّاً ولا دراماتيكياً بالطريقة التقليدية، بل كان شبه هادئ، يشوبه كثيرٌ من الدموع والتهامس الحذِر، حول ذلك الرجل الذي لا تظهر عليه أية مشاعر سوى التعب الشديد. حتى الخِراف التي ذُبحت يومها في حديقة بيتنا في "بغداد"، لتفدي بدمها المسفوك سلامة والدي ونجاته العجيبة، من تحت أيادٍ لم تعرف الرحمة يوماً، بدت لي كأنها تُذبح بحزن واستسلام عجيب. رفضتُ أكل لحمها المطبوخ يومها واستمر هذا الرفض فترة بعدها.
العائدون من المعتقلات في "سوريا"، وعلى الرغم من كل سمات الفرح والاحتفال، التي نراها اليوم على شاشات هواتفنا الذكية، ناجون مثل والدي بأعجوبة، مثقلون بسنين الغياب، وما ارتكبته يد السجان على أجسادهم وعظامهم وأرواحهم وذاكرتهم. مثقلون بعودتهم إلى أهالٍ كانوا ينتظرونهم طويلاً، لكنهم أيضاً لن يستطيعوا، مهما حاولوا، تخيل العيش تحت ثقل ظلام الزنزانة ورحمة السجان والتعايش مع اليأس والموت المُنتَظر. بينما هم أيضاً لا يستطيعون تخيل ما مر به أحبتهم من انتظار للمجهول، والعيش على الأمل، وفقدانه، واستعادته، وفقدانه مرة أخرى. من توقف الزمن عند لحظة الغياب، وتوقع العودة المستحيلة للإنسان الذي غاب، كما كان قبل أن يغيب.
في سوريا.. البحث بين الوجوه
05-05-2022
المرأة السورية في السجون
05-03-2014
نرى نحن العراقيين اليوم جراحنا تتفتق مرة أخرى، ونحن نشهد ما يحدث في "سوريا". فسجون "الأسد" تشبه سجون "صدام". حتى التماثيل واللافتات وآثار الدم على الجدران، حتى صرخات الأهالي ودموعهم التي غسلت وجوههم المتعبة، هي أيضاً نفسها. نحمل نحن العراقيين تلك الجراح على أكفنّا، ونتمنى أن لا يحدث لسوريا ما حدث لنا، بعيداً عن كل المنظومات والاتفاقات السياسية التي لم تتضح تماماً بعد، ومن المبكر تحليلها وتحليل أبعادها السياسية... على الأقل احتراماً لفرحة فتح الزنازين، وعودة المنفيين إلى ديارهم وأحضان أهاليهم.
لا أزال إلى هذا اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطت لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في عينيه، نظرة المستيقِظ من كابوس طويل مرعب، لم يدرك بعد متى ينتهي، أو إن كان انتهى أصلاً أم لا تزال له تتمة.