هل تحولت الكارثة الإنسانية في السودان إلى مجرد أرقام؟

وفق آخر بيانات صادرة عن الأمم المتحدة، وصل عدد النازحين السودانيين إلى 10 مليون نازح، فيما وصفته المنظمة الدولية بأنه أكبر أزمة نزوح على الإطلاق. وهناك أكثر من 61 ألف شخص توفوا في الخرطوم وحدها، خلال الفترة من نيسان/ أبريل 2023 إلى حزيران/ يونيو 2024، وهي زيادة بنسبة 50 في المئة على معدل الوفيات قبل الحرب.
2024-11-26

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
أقاليم السودان

في آخر إحصاءات حصاد الخراب المستمر منذ حوالي 19 شهراً في السودان، أظهر تقرير صادر عن "كلية لندن للصحة والطب الاستوائي" أعداداً مروعة للوفيات، غالبيتها العظمى كانت نتيجة الأمراض والجوع، حيث أشار التقرير المنشور على الموقع الرسمي للكلية أن أكثر من 61.000 شخص توفوا في الخرطوم وحدها، خلال الفترة (نيسان/ أبريل 2023  - حزيران/ يونيو 2024 ) وهي زيادة بنسبة 50 في المئة على معدل الوفيات قبل الحرب.

أحصى التقرير 26.000 حالة وفاة نتيجة العنف المرتبط بالحرب، وهو رقم فاق الإحصاءات  السابقة التي تحدثت عن 20.178 وفاة بسبب العنف في عموم مناطق السودان، أما الـ  35.000 وفاة فقد كانت إما بسبب الجوع وإمّا بسبب انعدام الخدمة الطبية.

لا نجاة من الرصاص إلا جوعاً ومرضاً

موت السودانيين لا يتوقف لحظة، ليس فقط بسبب القصف المدفعي العشوائي أو الطيران أو اعتداءات عناصر "قوات الدعم السريع" المباشرة. 

لا يزال سكان منطقة "الهلالية" في شرق ولاية "الجزيرة"، وسط السودان، يموتون يومياً تحت حصار "قوات الدعم السريع" ضمن حملاتها الانتقامية في هذه المناطق، بعد انسلاخ قائدها وانضمامه إلى الجيش، قبل حوالي شهر. وقد أحصت كيانات محلية تنشط في رصد جرائم وانتهاكات "قوات الدعم السريع" ما يفوق 300 حالة وفاة، إلى جانب القتل بالرصاص. وتضاربت الروايات حول أسباب الوفيات، تارة بسبب التسمم الغذائي نتيجة استهلاك "حبوب التقاوي" المعدة للزراعة، وتارة بسبب تفشي وباء "الكوليرا"، وغياب الرعاية الصحية والدواء، حيث تحولت المنطقة إلى بؤرة موت، ولم يعد النعي فرداً فرداً، بل جماعياً. صفحات مواقع التواصل الاجتماعي محشودة بتعازي أسر كاملة لم يبق منها إلا الأطفال.

توقّفت المطابخ التكافلية الجماعية التي تُطعم آلاف السودانيين، إن كانوا في مناطقهم أو نازحين، والتي تُشرف عليها "غرف الطوارئ المحلية"، التي تشكلت بعد الشهور الأولى من حرب 15 نيسان/ أبريل 2023. وتُرى مناشدات يومية تتحدث عن أسرة ما، أكملت يومين بلا طعام، وهي مبذولة باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، بحثاً عن متبرع بمقدار حفنة دقيق أو أرز.

في بعض مناطق "الفاشر" المحاصَرة في شمال "دارفور"، رصدت تقارير صحافية اصطفاف النساء أمام "معاصر الزيوت"، للحصول على "الأمباز" (وهو بقايا عصر السمسم أو الفول السوداني، ويُستخدم كعلف للأبقار) لإطعام أطفالهن. 

أما الوضع المعيشي عموماً فقد بلغ منحدرات أكثر بؤساً مما نشاهده في تلك الأفلام التي تجسد نهاية الكوكب. وهنا لا نتحدث عن النازحين فقط، بل وبمستويات مختلفة، عن أن جميع السودانيين الآن قد صاروا على حافة العدم، مع فقدان المصادر، وتوقف الرواتب الشهرية لفئات واسعة. وحتى الرواتب السارية فهي لم تعد تسد حاجة أسبوع واحد، فقد ارتفع التضخم للشهر المنصرم بنسبة 211 في المئة، ومع ذلك نفاد المدخرات أو سرقتها ومصادرتها من عناصر "قوات الدعم السريع".

لم يعد خبراً جديداً توقّف المطابخ التكافلية الجماعية التي تُطعم آلاف السودانيين، إن كانوا في مناطقهم أو نازحين، والتي تشرف عليها "غرف الطوارئ المحلية"، التي تشكلت بعد الشهور الأولى في حرب 15 نيسان/ أبريل. ولم تعد ثمة دهشة من قراءة تلك المناشدات اليومية، التي تتحدث عن أسرة ما، أكملت يومين بلا طعام، وهي مبذولة باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، بحثاً عن متبرع بمقدار حفنة دقيق أو أرز.

والوضع في المراكز الجديدة التي تأوي نازحي شرق "ولاية الجزيرة" عقب الهجمات الانتقامية الأخيرة لـ"قوات الدعم السريع"، يمضي من سيء إلى أسوأ. صار الطعام فيها يُصرف على الناس مثل جرعات دواء نادر. وتعتمد جميع هذه المبادرات على الجهود الشعبية بشكل رئيسي، والتي تآكلت هي الأخرى بسبب اتساع دائرة الحاجة وطول أمد الحرب، وزيادة موجات النزوح، حتى أنه في بعض مناطق "الفاشر" المحاصرة في شمال "دارفور"، رصدت تقارير صحفية اصطفاف النساء أمام "معاصر الزيوت"، للحصول على "الأمباز" (وهو بقايا عصر السمسم أو الفول السوداني ويُستخدم كعلف للأبقار) لإطعام أطفالهن.

وفي جنوب "كردفان" التي تتقاسم السيطرة عليها "الحركة الشعبية" بقيادة "عبد العزيز الحلو" والجيش السوداني، مع سيطرة محدودة لـ"قوات الدعم السريع" في بعض المناطق، هناك عشرات الأطفال ماتوا  جراء سوء التغذية المستمر، وفقاً لما أعلنت عنه جمعيات محلية.

والحال تنسحب بمستويات مختلفة، على جميع مناطق النزوح أو تلك المناطق التي فضّل سكانها البقاء تحت نيران الاشتباكات، بسبب انعدام القدرة الاقتصادية على التنقل وتحمل تكاليفه الباهظة، علاوة على نفقات إيجار العقارات خارج العاصمة الخرطوم. هؤلاء الذين فضّلوا النيران على جحيم النزوح. وبجانب أنهم معدمون، فهم تحت شظايا التصنيف المجنون والتخوين الأبله، فقط لأنهم قرروا البقاء في منازلهم في مناطق سيطرة "قوات الدعم السريع".

إخلاء مسؤولية!

كان لسيطرة "قوات الدعم السريع" على غالبية مناطق إقليم "دارفور" تباعاً، عظيم التأثير على المستوى الغذائي لسكان هذه المناطق، إذ تعطّلت أجزاء واسعة من المشاريع الزراعية، بفعل الوضع الأمني أو لصعوبة وغلاء مدخلات الإنتاج والوقود. كان من باب المسؤولية أن يولي الجيش كامل الحماية لولاية "الجزيرة" التي تضم أكبر مشروع زراعي في المنطقة، على الرغم مما لحق به من خراب خلال سنوات حكم "البشير"، إلا أنه كان قادراً على الصمود، ويمكن القول بملء الفم أن انسحاب الجيش من ولاية "الجزيرة" وإفساح المجال لسيطرة "قوات الدعم السريع" كان مرحلة فاصلة في هذه الحرب، ليس عسكرياً وأمنياً فحسب، بل اقتصادياً واجتماعياً.

بسيطرة "قوات الدعم السريع" على "الولاية الوسطية" المهمة في نهاية العام الماضي، والذي صادف موسم الحصاد، تعطّل على نطاق واسع حصاد المحاصيل، ثم تعطل الموسم الذي يليه، ثم الموسم الذي يليه. وسكان "الجزيرة" الذين اعتادوا على الاكتفاء الذاتي وتخزين ما تبقى ليكفيهم حتى الموسم القادم، لم تترك لهم عناصر "قوات الدعم السريع" حتى حبة قمح: صادرت كل المخازن بما في ذلك "التقاوي". 

وعلى الرغم من أن سقوط ولاية "الجزيرة" أحدث كل هذه الكوارث، تهاون الجيش في الحفاظ على مناطق رئيسية كانت بمثابة البوابة نحو الجنوب الشرقي للبلاد، الغني بالإنتاج الزراعي، حيث تمددت "قوات الدعم السريع" بسهولة حتى ولاية "سنار". وعلى إثر ذلك، تعطّلت المشاريع الزراعية الرئيسية في هذه المناطق، وصولا إلى تخوم ولاية "النيل الأزرق" الحدودية مع "إثيوبيا"، قبل أن يستعيد الجيش أجزاء واسعة من ولاية "سنار" مؤخراً.

منذ تفجر الحرب في السودان العام الماضي، رفع الجيش السوداني يده بشكل كامل عن واجباته تجاه الناس، ليس فقط من جهة مسألة الحماية، التي أعلن عن تملصه منها ضمنياً منذ الساعات الأولى، بل أسقط عبر حكومته واجب توفير الرعاية والإيواء لملايين النازحين، الذين يواجهون أوضاعاً فاقت قصص الخيال، ولا يزالون.

منذ بدء موجات النزوح، اتخذ النازحون مساكن لهم في مباني المدارس والمرافق العامة، التي تعطلت الخدمة فيها. وحينما تمددت "قوات الدعم السريع"، تصاعدت موجات النزوح، واكتظت مراكز الإيواء ليتخذ الناس ظلال الأشجار ملجأ لهم. وفي هذه الأوضاع المزرية، حل فصل الصيف ثم موسم الأمطار، وفي نهاية العام، يبدأ فصل الشتاء مع تضاؤل الأمل في إحداث أي اختراق بالتوصل لوقف إطلاق نار... وكان ثمة أمل في اتخاذ "مجلس الأمن الدولي" قراراً بوقف إطلاق النار، لولا "الفيتو" الروسي الذي عطل القرار.

بسيطرة "قوات الدعم السريع" على "الولاية الوسطية" المهمة في نهاية العام الماضي، والذي صادف موسم الحصاد، تعطّل على نطاق واسع حصاد المحاصيل، ثم تعطل الموسم الذي يليه، ثم الموسم الذي يليه. وسكان "الجزيرة" الذين اعتادوا على الاكتفاء الذاتي وتخزين ما تبقى ليكفيهم حتى الموسم القادم، لم تترك لهم عناصر "قوات الدعم السريع" حتى حبة قمح: صادرت كل المخازن بما في ذلك "التقاوي".

كان من مسؤولية الجيش أن يولي كامل الحماية لولاية "الجزيرة"، التي تضم أكبر مشروع زراعي في المنطقة، على الرغم مما لحق به من خراب خلال سنوات حكم "البشير"، إلا أنه كان قادراً على الصمود. ويمكن القول بملء الفم أن انسحاب الجيش من ولاية "الجزيرة"، وإفساح المجال لسيطرة "قوات الدعم السريع" كان مرحلة فاصلة في هذه الحرب، ليس عسكرياً وأمنياً فحسب، بل اقتصادياً واجتماعياً. 

أبسط ما يطلبه النازحون هو إقامة مخيمات تجعل الحياة ممكنة ولو بدرجة بسيطة، مع توفير الطعام والدواء، وهذا ما تغض عنه حكومة الجيش طرفها تماماً، وكأن الأمر لا يعنيها، على الرغم من أنه بقدرتها فعل شيء. ولا تستحي أن تطلب من المواطنين دعم العمليات الحربية بالمال، حيث لا عمليات حربية تُذكر، وسط تصاعد موجات النزوح من ولاية "الجزيرة" و"الفاشر" شمال "دارفور". ووفقاً لآخر بيانات صادرة عن الأمم المتحدة، فقد وصل عدد النازحين السودانيين إلى 10 مليون نازح، فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه أكبر أزمة نزوح على الإطلاق.

وحينما نتحدث عن جوع أو نقص غذاء في مناطق مثل "الجزيرة"، و"دارفور" وجنوب "كردفان"، فإنما نعني مناطق الإنتاج الزراعي الرئيسية، التي كانت تكفي حاجة هذه المناطق، ومعها أجزاء واسعة من السودان.

كل الخشية الآن أن تتحول هذه الكارثة الإنسانية إلى مجرد أرقام، وأن يُطبّع الناس مع حصاد الموت اليومي هذا، مكتفين بالمواساة.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه