منذ توقيع اتفاقية أوسلو ثم تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994، شكل الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة حالة فريدة لـ«اقتصاد» مجرد من كل أشكال السيادة الاقتصادية والمالية، كنتيجة طبيعية لانعدام السيادة السياسية مع استمرار كون المجتمع الفلسطيني ككل تحت الاحتلال، رغم كل محاولات السلطة الفلسطينية للتمسك بقشور «الدولة». تركت هذه الحالة المجتمع الفلسطيني في هشاشة اقتصادية مزمنة، تجلت كأزمة في كل مرة تصاعدت فيها الحالة الوطنية المقاومة، وكان آخرها الأزمة المالية والاقتصادية منذ عملية طوفان الأقصى، بالتدمير الشامل لاقتصاد غزة، والحصار الخانق المفروض في الضفة.
الشهر الماضي، كان الوضع الاقتصادي في الأراضي الفلسطينية أحد القضايا الحاضرة على طاولة اجتماع وزراء مالية مجموعة السبع في واشنطن، هذا الوضع الذي بات مقتصرًا على البقعة الجغرافية التي تشرف عليها السلطة الفلسطينية، بالنظر إلى عملية الإبادة الجارية في قطاع غزة والتي أخرجته -محاسبيًا على الأقل- من المشهد الاقتصادي الفلسطيني. تمخض الاجتماع عن رسالة بُعثت إلى بنيامين نتنياهو تحذره من سياسات وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش تجاه الاقتصاد الفلسطيني، فالضغوطات والقيود التي يشد الأخير من وثاقها ستؤدي إلى انهيار الاقتصاد الخاضع للسلطة الفلسطينية وبالتالي التسبب بأزمة أمنية لـ«إسرائيل». قدمت الرسالة توصيات متعلقة بأهمية الإبقاء على فعالية التواصل بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية، كما دعت إلى الإفراج عن الإيرادات الضريبية المستحقة للسلطة الفلسطينية، والعودة لمنح تصاريح العمل للفلسطينيين في حال سمحت الظروف الأمنية بذلك.
في 31 تشرين الأول، استجاب سموتريتش تحت ضغط وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، ليوافق على تمديد التعاون بين البنوك الإسرائيلية ونظيرتها الفلسطينية لشهر آخر. قبل ذلك، كان قد مدد هذا التعاون نهاية حزيران لأربعة أشهر في آخر لحظة. هذا الإجراء الذي يتخذه سموتريتش يتمثل في تقديم ضمانات من الحكومة الإسرائيلية للبنوك الإسرائيلية أنها لن تتعرض للملاحقة بتهم غسيل الأموال وتمويل «الإرهاب» في حال تعاملت مع البنوك العاملة على الأراضي الفلسطينية. وكانت فترة التعاون هذه تُمدد كل مرة لمدة عام قبل السابع من أكتوبر، إلا أن هذه الفترة قَصُرت إلى عدة أشهر، فشهر واحد.
إن وقف التعاون بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية، أو ما يُطلق عليه نظام المراسلات المصرفية، يعني عدم قدرة الاقتصاد الفلسطيني على القيام بالعمليات التجارية من استيراد للطاقة أو الغذاء وأيضًا الدفع مقابل الخدمات، ناهيك عن عدم القدرة على دفع رواتب المؤسسات الرسمية التي تعتمد في القسم الأعظم منها على العائدات الضريبية التي تجبيها «إسرائيل» بالنيابة عن السلطة. ذلك لأن سلطات الاحتلال تتحكم بالمعابر الحدودية التي تمر عبرها السلع الواردة إلى والصادرة من الأراضي الفلسطينية، وبهذا تجمع الرسوم الجمركية المفروضة عليها (التخليص الجمركي) وتودعها لديها، وتقتطع 3% من إجمالي هذه الضرائب والرسوم تحت بند «إدارة عمليات» قبل أن ترسلها شهريًا إلى السلطة. بالتالي، فإن تعطل كل هذا يعني أننا أمام حالة مكتملة من الشلل الاقتصادي الذي يمكن أن ينعكس في شكل فوضى اجتماعية عارمة.
بحسب ملحق باريس الاقتصادي -الشق الاقتصادي من اتفاقية أوسلو-[1] تقوم سلطة النقد الفلسطينية، التي جرى تأسيسها أيضًا بمقتضى أحكام الملحق، بإنشاء غرفة مقاصة تكون مهمتها تسوية الحسابات ومعالجة التحويلات بين البنوك العاملة على الأراضي الخاضعة للسلطة من جهة، وبين تلك البنوك ونظيرتها الإسرائيلية من جهة أخرى. ولكي تكتمل القناة المالية كان لا بد للبنوك الفلسطينية أن تكتسب عضوية غرفة المقاصة في البنك المركزي الإسرائيلي، لكي يتسنى لها التعامل مع الشيكات والحوالات وغيرها من التعاملات المالية.[2] إلا أن هذا لم يحدث، خصوصًا بعد الانتفاضة الثانية، بل أصبح على البنوك الفلسطينية أن «تتعاون» مع البنوك الإسرائيلية مقابل رسوم معينة كبنوك مراسلة تمثلها في المقاصة الإسرائيلية التي تمثل النافذة المالية إلى العالم الخارجي بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني بأكمله. لماذا؟ لأن الشيكل هو العملة السائدة في الأراضي الفلسطينية بحكم الأمر الواقع، وبالتالي التحويلات المالية بأي اتجاه لا بد لها أن تمر بقناة الشيكل الذي هو عملة سيادية إسرائيلية يتم استخدامها لمعاقبة الاقتصاد الفلسطيني والتحكم به، لأنه مرتبط بواقع أن «إسرائيل» هي «الشريك» الاقتصادي الأول، حيث تبلغ الحركة المالية بما فيها التجارية بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني قرابة المليار دولار شهريًا.
إن تحذير وزراء مالية مجموعة السبع بشأن خطر انهيار المالية العامة الفلسطينية لم يكن الأول، فقد سبقه سلسلة من التحذيرات الصادرة عن البنك الدولي كان آخرها في أيلول الماضي.[3] حيث أشار البنك الدولي إلى أن اقتصاد الضفة الغربية انكمش بواقع 25% في الربع الأول لعام 2024، وإلى أنه من المتوقع أن تتضاعف الفجوة التمويلية للسلطة الفلسطينية خلال عام 2024 لتسجل 1.86 مليار دولار، وهو ضعف ما سجلته في العام المنصرم، ما يضعها أمام خطر عدم القيام بالخدمات العامة والتخلف عن دفع الرواتب وعدم القدرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، خصوصًا مع استمرار سعيها لسد العجز عبر الاستدانة من البنوك المحلية، وتأخير رواتب الموظفين والدفعات لصندوق التقاعد. ومن المتوقع أن يستمر تراجع الاقتصاد مع انخفاض أداء جميع القطاعات، وأيضًا ارتفاع نسب البطالة إلى مستويات غير مسبوقة. فمنذ 7 تشرين الأول 2023، فقد الاقتصاد الفلسطيني نصف مليون وظيفة، سجل منها 200 ألف في قطاع غزة، وفُقدت 148 ألف وظيفة كان يعمل بها الفلسطينيون في الداخل المحتل.
وصف مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره المنشور في أيلول الماضي حالة الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وآفاقه بالمزرية.[4] حيث انكمش الاقتصاد الفلسطيني بواقع 30% في الربع الرابع لعام 2023 مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2022، مما أدى إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 5.5% في العام الماضي. وهذا أنتج واحدة من أعمق فترات الركود الاقتصادي في التاريخ الحديث بحسب التقرير، الذي يتطرق أيضًا إلى الإجراءات المالية العقابية التي تمارسها «إسرائيل» بحق الفلسطينيين. ويذكر أن سلطات الاحتلال اقتطعت ما مجموعه 863 مليون دولار منذ 2019 من أموال الفلسطينيين، وذلك بناء على قانون كان قد أقرّه الكنيست عام 2018 يبيح لوزير المالية أن يقتطع من الإيرادات الضريبية -التي تشكل أكثر من ثلثي الإيرادات الضريبية للسلطة- الأموال التي تخصصها السلطة الفلسطينية لذوي الشهداء والأسرى. وبعد طوفان الأقصى، حجزت «إسرائيل» 75 مليون دولار شهريًا كانت تذهب كرواتب للموظفين في قطاع غزة، ما يعني أن مجمل الاقتطاعات منذ 2019 وحتى نيسان 2024 يساوي 1.4 مليار دولار.
قضية أخرى هي تحويل الشواكل الفائضة. فبحسب بروتوكول باريس يحق للبنوك الفلسطينية تحويل ما في خزائنها من شواكل فائضة إلى بنك «إسرائيل» باعتباره المصدر لهذه العملة،[5] واستبدالها بالعملة الأجنبية لتمويل التجارة الخارجية. إلا أن البنوك الإسرائيلية الممثلة لنظيرتها الفلسطينية في المقاصة، وبعد تصنيف قطاع غزة «كيانًا معاديًا» بعد سيطرة حركة حماس عليه، رفضت تحويلات الشواكل الفائضة عام 2009، قبل أن يتم الاتفاق عام 2011 على شحن كمية معينة من النقد، وصلت عشية طوفان الأقصى إلى 4 مليارات شيكل (1.5 مليار دولار) كل أربعة أشهر.
إن فائض الشيكل الذي يتدفق من العمليات التجارية مع «إسرائيل» ومن أجور الفلسطينيين الذين يعملون في الداخل (قبل السابع من أكتوبر) ومن عمليات الشراء التي يقوم بها فلسطينيو الداخل خلال زيارتهم للضفة، كل هذا يؤدي إلى تراكم الشيكل في قنوات التداول وخزائن البنوك التي لا تستطيع تشغيل هذه الفوائض، التي يبلغ متوسطها السنوي 22 مليار شيكل (6 مليار دولار)، عبر إيداعها في البنوك الإسرائيلية والحصول على سعر فائدة معين. بل تضطر إلى تكديس الشيكل الخامل في خزائنها وتحمل كلفة تأمينها. بكلمات أخرى، هناك كمية من الشيكل تفيض عن حاجة الاقتصاد الفلسطيني، وهذا ما يعني عدم قدرة و/أو رغبة البنوك على استقبال المزيد من العملة الإسرائيلية كودائع لأنها لديها الكثير منها، ومن جهة أخرى لن تستطيع إقراض الشيكل لأنها تمتلك منه الكثير في خزائنها بحالة خاملة لا تدر الربح. فالإقراض يعني زيادة كمية الشيكل لأن المقترض سيدفع فائدة تضاف إلى القيمة الإسمية للقرض، وعليه سيزداد حجم الشيكل في خزائن البنوك أي قيمة الفائض منه المتكدس عبر السنين.
لم تواجه السلطة والبنوك المنضوية تحت إمرتها مشكلة في تحويل فائض الشيكل خلال العقد اللاحق لبروتوكول باريس. لكن عندما نما المجتمع الفلسطيني ديمغرافيًا و«اقتصاديًا» -بمعنى أن الحاجات الاستهلاكية اتخذت طابعًا تصاعديًا- بدأت المشاكل بالظهور في هيئة قيود على العملة وعلى الاستيراد، وبات فائض الشيكل مشكلة الفلسطينيين التي يجب أن يحلوها بأنفسهم. والقصد هنا أن عليهم أن يوائموا أنفسهم وحاجاتهم مع كمية الشيكل التي بحوزتهم، والتي تناسب «السلوك الاقتصادي الفردي» من تسوق وتسديد أقساط فقط لا غير، دون البحث عن إبدالها بعملة أجنبية، أو استثمارها داخل الاقتصاد الاسرائيلي.
قد يقول البعض إن فائض الشيكل في السوق الفلسطينية قد يشكل خطرًا على الاقتصاد الإسرائيلي، فإذا أحجمت البنوك الفلسطينية عن قبول الإيداع والإقراض بالشيكل، سنيخفض سعره أمام العملات الأخرى لأن الناس ستبحث عن عملة أكثر قبولًا تسهل لهم معاملاتهم. لكن الماليين الصهاينة يعولون ضمنيًا على نظرائهم في الضفة، الذين لن يضحوا بقيمة أموال كبار المودعين في القطاع المصرفي.
إن مشكلة فائض الشيكل، المرتبطة بشكل أو بآخر بالتهديد المتواصل بقطع نظام المراسلات المصرفية، تعني أن المالية الإسرائيلية لا تقيم اعتبارًا للحالة الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية، والآثار الاقتصادية المترتبة على ذلك. فالهدف ليس إيجاد صيغة للتعامل مع الاقتصاد الفلسطيني وإنما استملاك الأرض التي يقوم عليها هذا الاقتصاد.
تأتي هذه الإجراءات حصيلة لمسار مخادع وتدريجي امتد منذ اتفاقية أوسلو يهدف إلى قضم الأراضي بواسطة حركة استيطانية متصاعدة، أنجبت شخصيات مثل سموتريتش الذي يريد الآن نزع صفة التدرج عن المسار المذكور ودفعه بسرعة إلى حدوده القصوى جغرافيًا وماليًا. كان هذان العنصران هما المفتاح الذي قامت النخب المالية الفلسطينية الطفيلية الحاكمة في رام الله بتسليمه إلى الساسة الإسرائيليين عبر اتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي لكي يتصرفوا بهما كما يشاؤون.
ما يهدد به سموتريتش هو قطع الشريان المالي عن مجتمع بأكمله، ولا يبدو أنه يتأثر بكل الدعوات الأممية المطالبة بمراعاة الوضع الاقتصادي في الضفة، ذلك لأنه ومن ورائه «إسرائيل» حكومة ومجتمعًا من مختلف المشارب والتيارات الأيديولوجية يريدون تدمير الضفة وتهجير سكانها والتخلص من الاقتصاد الفلسطيني، الذي لم يكن في أي وقت اقتصادًا حقيقيًا مستقلًا، يعتمد على بناه وعناصره الذاتية، وإنما حالة اقتصادية -محاسبية بالأساس- ملحقة بالاحتلال تكتسب طابعًا مؤقتًا. هذا ما تنكره السلطة الفلسطينية، التي تعتقد أنها قادرة على إدارة اقتصاد خدمي استهلاكي إغاثي سيبقى عاملًا إلى الأبد.