جفافٌ يَلِدُ فيضاناتٍ في المغربِ القَصِيِّ

الضرر كان فادحاً، ومسَّ في الأساس البنى التحتية لطرق ومدن وقرى جنوب شرق المغرب، التي تم بناؤها لتحمل مجموع سيول مطرية معتادة. وشملت الخسائر انهيار حوالي 56 مسكناً بشكل جزئي أو كلي، إلى جانب إلحاق أضرار بشبكات التزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب والشبكات الهاتفية، وكذلك انقطاعات مؤقتة بـ 110 مقاطع طرقية.
2024-11-07

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
كان قاع النهر جافاً

"إدَّا كُولُّو مَا يْلَانْ"، (لقد ضاع كل شيء).

كان هذا كلام "عبد الله" بلسان أمازيغي محلي، الرجل الثمانيني الذي يسكن في إحدى قرى جنوب شرق المغرب المتضررة من الفيضانات الطوفانية، ويتماهى حديثه قليلاً مع كلام "أحمد"، القاطن في هذه المنطقة ذات المناخ الجاف والقاسي. كان أثير صوته الذي وصل إليَّ عبر الهاتف مثقلاً بكثيرٍ من التنهيدات والحزن المبطّن، تارة يتكلم بلا توقف، وتارة أخرى يكتفي بصمت متقطع، ليفرج عن جملة تختصر لسان حال سكان هذه المنطقة القصية: "أي نعم! خسرنا أشياءَنا، لكننا كسبنا نعمة الماء. الحمد لله على كل حال".

جفافٌ قاسٍ ثم فيضانات قاتلة

كانت الأمطار تسقط لماماً في مناطق الجنوب الشرقي للبلاد، وحجمها كان بالكاد يكفي لسد ربع حاجة السكان: أراضيها وواحاتها، ماشيتها وعلفها. لكن هذا الوضع تغير نوعاً ما بدءاً منذ شهر آب/ أغسطس الماضي، إذ بدأت مناطق ومدن الجنوب الشرقي للبلد تسجل أمطاراً هائلة، لا تتماشى مع أحوال هذا الشهر الموسوم بالحر الشديد، في منطقة معروفة بجفافها وطابعها الصحراوي وشبه الصحراوي. وهذا الوضع المناخي المتغيّر جاء كنتيجة لالتقاء كتل هوائية ومدارية مع كتل محيطية.

استأنفت الأمطار من جديد خلال شهر أيلول/ سبتمبرالفائت على نحو طوفاني بحمولات قياسية، تحصل في العادة "كل 1000 سنة" بحسب الروايات المحكية! تراوحت كمياتها بين 50 و250 مليمتراً في ظرف ساعات أو أيام وجيزة، وهو معدل تجاوز المعدل السنوي للأمطار في هذه الجغرافيا الجافة، وسجل هذا المعدل على نحو متطرف في بلدة "تاكونيت" الصحراوية التابعة لإقليم "زاكورة" (170 مليمتراً خلال ساعات وجيزة)، المعروفة بعطشها المتواتر والمستمر منذ عام 2016.

هذا الكم الهائل من الأمطار الاستثنائية، شمل عدداً من المدن والقرى في هذه المنطقة. ففي يومي 7 و8 أيلول/ سبتمبر، الماضي سجلت بلدة "تازارين" في "زاكورة" 70 مليمتراً مقارنة بـ112 مليمتراً كمعدل للأمطار السنوية، في حين سجّلت مدينة "طاطا" معدل أمطار بلغ 92 مليمتراً، و"هي الكمية التي تتهاطل عادة في سنة وثلاثة أشهر بالمنطقة، إذ أن معدل الأمطار السنوية بها لا يفوق 112 مليمتراً" (وفق إفادات وزير التجهيز المغربي)

الضرر كان فادحاً، ومسَّ ـ في الأساس ــ البنى التحتية لطرق ومدن وقرى هذه المنطقة، التي تم بناؤها لتحمل مجموع سيول مطرية معتادة. وشملت الخسائر انهيار حوالي 56 مسكناً بشكل جزئي أو كلي، إلى جانب إلحاق أضرار بشبكات التزود بالكهرباء والماء الصالح للشرب والشبكات الهاتفية، وكذلك انقطاعات مؤقتة بـ 110 مقاطع طرقية.

لم تمس الفيضانات الحجر فحسب، بل شملت أيضاً البشر، إذ تم تسجيل حوالي 18 حالة وفاة على الأقل في أقاليم هذه المنطقة القصية، كما أن عشرات الأشخاص سُجِّلوا في عداد المفقودين. أما الأحياء فلا يزالون ربع أحياء أمام هول ما حصل، إذ خسروا ماشيتهم ومنازلهم ونخيلهم.

إقليم "طاطا" هو أكثر الأقاليم والجغرافيات القصية التي سجلت وضعاً كارثياً صعباً، يستدعي بحسب الأصوات المدنية المحلية إعلانه كإقليم منكوب، وذلك من أجل السماح لفرق الإنقاذ المتخصصة والمستشفيات الميدانية بتقديم الرعاية الصحية العاجلة للمصابين والمتضررين، إلى جانب إصلاح البنية التحتية المتضررة، بدءاً بإصلاح الطرق والجسور، وشبكات الكهرباء، والمياه، والاتصالات.

جاءت هذه التساقطات الطوفانية بعد 9 سنوات من الجفاف القاسي الذي عاشته هذه المنطقة، وكأن الجفاف يلد الفيضانات، وعلى الرغم من حضور هذه الدورة المناخية على نحو شبه راسخ خلال العقود الأخيرة – جفاف لسنوات ثم هطولات كبيرة - إلا أنها كانت هذه المرة أكثر تطرفاً وحِدَّةً مما مضى، بفعل تبعات التغير المناخي. فالأمطار لم تعد رحيمة بالمزارعين والبسطاء، كما أن الجفاف لم يعد قاسياً فحسب، بل صار أكثر قسوة على سكان هذه المنطقة، التي اضطرت إلى ترك أغلى ما تملك: الأراضي البنية الجافة.

بيد أن للفيضانات وجهاً ثانياً إيجابيّاً، إذ رفعت منسوب السدود ب73 مليون متر مكعب، وزادت من نسبة ملئها إلى 29 في المئة هذا العام، مقارنة ب25 في المئة المسجلة خلال الفترة نفسها من السنة الماضية. هذا المعطى -إذاً- يبشر بالخير. فالماء، أو "آمان" كما يسميه أمازيغ المغرب (بما في ذلك سكان الجنوب الشرقي) يدل على الأمان، وهو عزاء للبسطاء، ينسيهم وقع الخسائر الكبيرة في ممتلكاتهم وأرواح أقربائهم، إذ بُثَّتْ الحياة من جديد في الأراضي الجافة ونخيل الواحات الباهت، وصار بالإمكان العيش ولو بنصف حياة كريمة، يعيشونها جوار الوادي، الذي ينفلت -أحياناً- من عقال المزارعين والسكان المحليين.

الوادي لا ينسى مجراه!

أثناء المكالمة الهاتفية تلك، أفرج "أحمد" عن حشرجة صوت غير متوقعة، ليفصح عما يعتبرها حكمة الأجداد: "يا أخي. اسمع جيداً. هل تعرف هذا الوادي الجاف الذي يقطن فيه الناس؟ إنه لا ولن ينسى مجراه. سيأتي يوم ما ليعود من جديد ويجرف كل شيء أمامه. لا مجال للتلاعب أو التحايل معه".

كلام "أحمد"، يفسر قاعدة راسخة لدى وديان المغرب الجافة، فهو يحمل ذاكرة مجراه، ويتجاوز كل تحايل أو تغيير يمس طريقه بفعل النشاطات العمرانية. فلماذا يصر ساكنة هذه المناطق الجبلية وشبه الجبلية على السكن في هذه المنحدرات الخطيرة؟

للفيضانات وجهاً ثانياً إيجابيّاً، إذ رفعت منسوب السدود ب73 مليون متر مكعب، وزادت في أيام من نسبة ملئها إلى 29 في المئة. هذا المعطى يبشر بالخير. فالماء، أو "آمان" كما يسميه أمازيغ المغرب (بما في ذلك سكان الجنوب الشرقي) يدل على الأمان، وهو عزاء للبسطاء، إذ بُثَّتْ الحياة من جديد في الأراضي الجافة ونخيل الواحات الباهت، وصار بالإمكان العيش ولو بنصف حياة كريمة. 

توجد عادة في عرف بعض المناطق المغربية مثل قرى أقاليم: "مراكش"، و"الحوز"، و"تارودانت"، و"طاطا"، وهي بناء مساكنهم البسيطة بمحاذاة أو أعلى الوادي من دون أن يصلوا إلى عمقه، ظناً منهم أن سيوله لن تبلغ هذا المستوى المرتفع نسبياً. لكن ما حصل هو خارج حسابات الأهالي. فعلى سبيل المثال وصلت سيول المياه الجارفة مستوى عالياً في دوار(تجمع قروي) أو "كرضا إسموغن" في إقليم "طاطا"، التي جرفت كل شيء أمامها.

وهذا الأمر ينطبق على مناطق مشابهة أخرى. ففي إقليم "الحوز" وسواه من المناطق الجبلية الأطلسية، ينشئ السكان مساكن بين فجاج الجبال، بالقرب من مزارعهم المحاذية للوادي، ولا تقتصر ثقافة البناء القريبة من هذه التضاريس على القرويين، بل تشمل أيضاً أصحاب المتاجر والمقاهي السياحية الجبلية الذين لا يأبهون لخطورة هذه الخطوة على زبائنهم ، وعادة ما يبررون ذلك بأنهم "يتخذون الاحتياطات اللازمة".

بيد أن البناء في هذه التضاريس الخطيرة ليس بالضرورة اختياراً من أهالي هذه المناطق، بل جاء وفق كلام أحد السكان المحليين "كغياب أي حل آخر، كما أن بعض الأقاليم (ولا سيما إقليم "طاطا") يعاني من تعقيدات في مساطر البناء، سواء المتعلقة بأراضي الجموع وذوي الحقوق (أراضي قبلية وعائلية)، أو المساطر الإدارية التي تخص المناطق الحضرية". وتكمن المشكلة الأكبر في "غياب المسؤولين الذين ينصتون لنا، وبعضهم عوض الاستماع لام السكان على العيش بجانب الوادي"

هل وقفت الحكومة المغربية مكتوفة الأيدي؟

نظرياً وعلى نَحْوٍ شبه عملي، اتخذت الحكومة قرارات وحلولاً تخص هذه الكارثة الطبيعية، إذ أكدت أنها ستخصص ميزانية 2.5 مليار درهم (حوالي 250 مليون دولار) للمناطق المتضررة في الجنوب الشرقي للمملكة، كما أنها ستمنح مساعدة مالية مباشرة لإعادة تأهيل 1.121 منزلاً، انهار منها 269 بشكل كلي و852 على نحو جزئي. وستبلغ قيمة المساعدات 80 ألف درهم (حوالي 8 آلاف دولار) للمساكن المنهارة جزئياً، و140 ألف درهم (حوالي 14 ألف دولار) للبيوت المخربة كلياً.

"هل تعرف هذا الوادي الجاف الذي يقطن فيه الناس؟ إنه لا ولن ينسى مجراه. سيأتي يوم ما ليعود من جديد ويجرف كل شيء أمامه. لا مجال للتلاعب أو التحايل معه". 

وستخصص نصف هذه الميزانية لإعادة تجهيز البنى التحتية، وتشمل تحديد برنامج لتأهيل الطرق والمنشآت الفنية المتضررة للأشهر الثلاثة المتبقية من سنة 2024، إذ انطلقت صفقات تخص 71 مقطعاً طرقياً و69 منشأة فنية، على أن يتم الإعداد لصفقات أخرى بداية سنة 2025 بعد استكمال الدراسات التقنية اللازمة. علاوة على إعادة تشييد بعض السدود، وتشييد أخرى من أجل الحماية من الفيضانات. وتشير "وزارة التجهيز المغربية" إلى أنها خصصت ما يناهز 500 مليون درهم (50 مليون دولار) لحماية المدن من الفيضانات، الجزء الأكبر منها لإقليم "طاطا"، بمبلغ يصل إلى 178 مليون درهم (حوالي 17.8 مليون دولار).

"طاطا" منكوبة يا حكومة..

يبدو أن قرارات الحكومة وتعاطيها مع هذه الأزمة لم تُرْضِ الجهات المدنية في المناطق المتضررة، التي انتقدت طريقة تعامل السلطات مع الكارثة، ورأت بأنها "قاصرة أمام هول الأضرار"، إذ سجلت "غياب فضاءات لتجمع الساكنة أثناء هروبها من الكارثة بعد الإنذارات التي أطلقتها النشرات الإخبارية أو السلطات المحلية. كما لاحظت أنّ خطة الإجلاء والإخلاء لم تكن موجودة، ما جعل الساكنة تظل في أماكنها إلى أن جرفتها المياه".

توجد عادة في عرف بعض المناطق المغربية مثل قرى أقاليم "مراكش"، و"الحوز"، و"تارودانت"، و"طاطا"، وهي بناء مساكنهم البسيطة بمحاذاة أو أعلى الوادي من دون أن يصلوا إلى عمقه، ظناً منهم أن سيوله لن تبلغ هذا المستوى المرتفع نسبياً. لكن ما حصل هو خارج حسابات الأهالي.

إقليم "طاطا" هو أكثر الأقاليم والجغرافيات القصية التي سجلت وضعاً كارثياً صعباً، يستدعي بحسب الأصوات المدنية المحلية إعلانه كإقليم منكوب، وذلك من أجل السماح لفرق الإنقاذ المتخصصة والمستشفيات الميدانية بتقديم الرعاية الصحية العاجلة للمصابين والمتضررين، إلى جانب إصلاح البنية التحتية المتضررة، بدءاً بإصلاح الطرق والجسور، وشبكات الكهرباء، والمياه، والاتصالات.

ولأجل تنفيذ هذه الخطوة، قامت هذه الأصوات المدنية المنضوية تحت لجنة تدعى "نداء طاطا" بتقديم شكوى بمحكمة النقض في "الرباط" ضد الدولة المغربية في شخص رئيس الحكومة، وذلك من أجل إعلان "طاطا" إقليماً منكوباً تعرض لكارثة طبيعية، حتى يتم إنصاف كل الضحايا.

وفي انتظار انتشال الإقليم، وغيره من المناطق المتضررة على نحْوٍ كاملٍ من هول هذه الكارثة الطبيعية المتطرفة، يأمل "أحمد" وسواه من سكان هذه الجغرافيا المنسية أن تعود الأمور إلى أفضل مما كانت عليه في ظل الجفاف القاسي. فهو يَنظرُ إلى مآلات هذه الكارثة بتفاؤل حذر، ولعل كلامه الأخير يشي بذلك، الذي ختمه بالدعاء المتداول في إقليم "زاكورة" ومناطق الجنوب الشرقي: "الله اجيب السلامة"...

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه

مستشفياتٌ للبيع: نحوَ خصخصة مُقَنَّعَة للصحة في المغرب

تقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً...