القاهرة: الخوف من الثورات يدفع خطط "التطوير" في "وسط البلد"

تهدف التغيرات الكبيرة التي تحدث في تلك البقعة من القاهرة، وبشكل تدريجي ومن دون تراجع، إلى محو ذلك الحنين إلى الميدان، ومنع إمكانية تكرار المظاهر الاحتجاجية في منطقة "وسط البلد"، لتتحول إلى مكان للتنزه والاستهلاك، بينما يُسحب منها أيضاً بساط الأنشطة الثقافية والسياسية، بفعل قانون منع التظاهر والتضييق على الحريات.
2024-10-31

صفاء عاشور

باحثة وصحافية من مصر


شارك
ميدان التحرير خلال ثورة 2011

كل مصري شارك في "ثورة يناير" (2011) يتنازعه الحنين إلى زيارة منطقة وسط البلد، والمرور على ميدان التحرير، ميدان الثورة والشهداء، الذي شهد اعتصام دام ثمانية عشر يوماً - بداية عام 2011 - لإسقاط النظام "المباركي"، وما تلا ذلك من مواجهات مع السلطة أسقطت ضحايا ومصابين، وكان للميدان وقتها رمزية الوطن الذي يستحق الدفاع عنه وحمايته حتى تحقيق مطالب الثوار المشروعة، التي تمثلت في شعار بسيط وأساسي: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، أطلقته مجموعة من المواطنين المتحمسين، أغلبهم من فئة الشباب تحت عمر الثلاثين، يمثلون أطيافا متعددة من الشعب المصري، وبلا قيادة سياسية محددة.

غير أن التغيرات الكبيرة التي تحدث في تلك البقعة من القاهرة، وبشكل تدريجي ومن دون تراجع، تهدف إلى محو ذلك الحنين إلى الميدان، ومنع إمكانية تكرار المظاهر الاحتجاجية في منطقة وسط البلد، لتتحول إلى منطقة للتنزه والاستهلاك، بينما يُسحب بساط  الأنشطة الثقافية والسياسية من المنطقة أيضاً، بفعل قانون منع التظاهر والتضييق على الحريات، وإن أعلن النظام عن غير ذلك. كما يعاد تشكيل هوية مقاهيها التي شهدت آلاف النقاشات الحماسية الساخنة، وأسهمت في تشكيل وعي أجيال وأجيال.

تجد عربات "الأمن المركزي" تقف كتهديد دائم لكل المشاغبين الحالمين، أو فقط لمجرد منع التقاط صور تذكارية للميدان، بينما الشحاذون والمخبرون والباعة الجائلون - ببضائع مجهولة المصدر - وحدهم يحق لهم التجول بحرية في وسط البلد.

كل ذلك كان مخططا له منذ اليوم الأول لمحو آثار ثورة شعبية عارمة وقعت منذ سنوات قليلة، والتي بلا مبالغة يعيش آلاف وربما الملايين على ذكراها، محتملين كل شيء بسبب لحظة الصدق الثوري العظيمة تلك.

يقول "جمال حمدان" في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرر[1]": التاريخ هو جغرافيا متحركة، بينما الجغرافيا هي تاريخ متوقف". فما هي مشاهد التغيرات التي طرأت على منطقة وسط البلد وتزامنت مع أحداث سياسية وثقافية واجتماعية، حتى وصلت إلى المشهد الحالي، حيث تلعب شركات العقارات الخاصة المصرية، ومثيلتها الإماراتية، الدور الأساسي للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من العقارات المميزة، وتحويلها إلى فنادق فاخرة ومطاعم للأغنياء، وإعادة تشكيل المنطقة التي بدأت بالفعل بهدم المبنى المحترق ل"الحزب الوطني" عام 2015، قبل صدور قرار رقم 459 لسنة 2020، بإزالة صفة النفع العام عن مبنى "مُجمَّع التحرير"، ومبنى مقر وزارة الداخلية القديم، وأرض "الحزب الوطني"، لصالح "صندوق مصر السيادي"، تمهيداً لبيعها بشكل قانوني، حيث تحولت الدولة إلى مقاول هدم وبيع. وجميع المباني السابق ذكرها تقع بمنطقة وسط البلد أيضا.

أصحاب المدينة

تبدأ منطقة وسط البلد و"القاهرة" الخديوية من "كوبري قصر النيل" حيث الأسدين الشهيرين، وحتى منطقة "العتبة" الشعبية، وما بينهما من ميادين وشوارع جيدة التخطيط بهية المنظر، ذات مباني ضخمة تحاكي المعمار الباريسي، يعود تأسيسها إلى  عام 1870، طبقاً لرؤية الخديوي إسماعيل، المستوحاة من برنامج التطوير العمراني للبارون "هوسمان" لمدينة باريس، كان وقتها يظن أن ذلك هو قمة التحضر، وإنْ ساهمت تلك التحفة المعمارية في تراكم الديون على مصر، وإنشاء صندوق الدين عام 1876، الذي أدى في نهاية المطاف إلى الاحتلال البريطاني.

وبقدر تخطيط شوارع وميادين "وسط البلد" الجيدة، بقدر عجزها عن احتمال الزحام خاصة خلال ساعات الذروة، بسبب توسطها لقلب القاهرة، واحدة من ضمن العواصم مرتفعة الكثافة في العالم، لذلك يفضل أن يتجول زائروها مشيا على الأقدام، ليكتشفوا الطبقات الزمنية المتراكمة في الطرقات، والمخبأة في اللافتات القديمة للمحلات، وتماثيل الميادين المختلفة، وأسماء الشوارع التي تحمل تاريخين حديث وقديم، والحياة الغرائبية بين الممرات الواسعة لمبانيها الضخمة، حتى المصاعد لها جانبها المميز، صامدة في وجه الزمن، ومزينة بإمضاء صناعها الماهرين، وكأن كل عنصر من عناصر منطقة "وسط البلد" له وجوده الفريد والمميز والمحرِّض على الاكتشاف.

تستحوذ شركات العقارات الخاصة المصرية، ومثيلتها الإماراتية، على أكبر قدر ممكن من العقارات المميَّزة، لتحويلها إلى فنادق فاخرة ومطاعم للأغنياء، وإعادة تشكيل منطقة "وسط البلد" التي بدأت بالفعل بهدم المبنى المحترق ل"الحزب الوطني" عام 2015، قبل صدور قرار سنة 2020، بإزالة صفة النفع العام عن مبنى "مُجمَّع التحرير"، ومبنى مقر وزارة الداخلية القديم، وأرض "الحزب الوطني"، لصالح "صندوق مصر السيادي".

كان ميدان التحرير أول مكان في "وسط البلد" طاله "التطوير"، بهدف محو أثار الثورة الغامرة، حيث هُدِم النصب التذكاري لشهداء الثورة، الذي تم تدشينه خلال تولي حازم الببلاوي رئاسة الوزراء عام 2013، واستُبدل عام 2020 بمسلة فرعونية، وأربعة تماثيل فرعونية اقتُلعت من "طريق الكباش" بمدينة "الأقصر".

أما روادها فهم فئتان، فئة تضم سكانها الدائمين من ورثة المُلاّك القلائل، وفئة أضخم وأكثر تأثيراً من الوافدين في رحلة العمل اليومية، سواء من الباعة الجائلين وأصحاب المحلات، وموظفي البنوك، وأصحاب الوظائف الحكومية، وأصحاب شركات خاصة نصفها على الأقل في مجال السياحة، وغيرها.

هناك أيضا فئة جديدة في ازدياد: المستهلكون الذين يقصدون المنطقة للتسوق والترفيه، في مواجهة تراجع فئة من الحقوقيين والنشطاء ممن عملوا بالمراكز والجمعيات الحقوقية التي انتشرت في المنطقة، بعد إغلاق أغلبها بلا مبالغة، فضلاً عن المثقفين والأدباء والكتاب والسياسيين، ممن كانوا يحرصون على التواجد بشكل شبه دائم للمشاركة في الفعاليات المختلفة، وكانوا يمثلون مع رواد النقابات المهنية، أي المحامون، الصحافيون، القضاة، قلب الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي حوَّل وسط البلد إلى نقطة ساخنة، قضّت مضجع نظام مبارك المستقر، وأنذرت من سيخلفه بضرورة القضاء عليه.

الطريق إلى الميدان

قبل "ثورة يناير"، كانت الاحتجاجات أحياناً ما تبدأ من سلالم نقابة الصحافيين – أطلق عليها "قلعة الحريات" -، ثم تحاول الانتقال إلى "ميدان التحرير" للاشتباك والتضخم، أو تكتفي بميدان "طلعت حرب" في حالة استحالة الوصول إلى التحرير، وهو ما كان يحرص عليه نظام مبارك، حتى لا تحتل التظاهرات الغاضبة قلب العاصمة. ومع تراكم المحاولات والاحتجاجات، تغيرت قوانين اللعبة في "جمعة الغضب" عام 2011، من القلة المتظاهِرة التي يسهل تفريقها، إلى أعداد غفيرة تنجح في الاعتصام بالميدان حتى تحقيق مطالبها بإسقاط النظام.

سيظل الحكم على نتائج "ثورة يناير" قابلا للنقاش والاختلاف، لكن ما لا يمكن قبوله هو التشكيك في نزاهة "مصر الصغرى" التي تأسست خلال ثمانية عشر يوماً من الاعتصام بميدان التحرير، وطريقة تنظيم المجتمع الجديد لنفسه، وتقسيم الأدوار والتضامن العميق بين أفراده. فتأسست فرق تأمين الميدان ومداخله، وأقيمت الخيام اللازمة للمعيشة، والمستشفى الميداني، وجريدة الميدان، ومنطقة خاصة بغنائم الاشتباكات، ونصب متواضع لشهداء الثورة. وكانت مشاهد حماية المسيحيين للمسلمين خلال الصلاة مشاهد حقيقية لا رياء فيها.. فالكل إخوة

كل شيء كان مثالياً جداً.. وكل فرد في الميدان كان له حق التعبير وإرادة التغيير، حتى أن أول رئيس وزراء خلال حكم "المجلس العسكري" – عقب سقوط النظام - كان المهندس "عصام شرف"، أحد المشاركين في اعتصام الميدان، والمؤيد للثورة منذ يومها الأول، وكان بالمناسبة الدكتور "جودة عبد الخالق" وزيراً للتضامن والعدالة الاجتماعية في التشكيل الوزاري نفسه، وهو الآن مقبوض عليه بسبب تصريحاته ضد السياسة الاقتصادية للدولة.

تجد عربات "الأمن المركزي" تقف كتهديد دائم لكل المشاغبين الحالِمين، أو فقط لمجرد منع التقاط صور تذكارية للميدان، بينما الشحاذون والمخبرون والباعة الجائلون - ببضائع مجهولة المصدر - وحدهم يحق لهم التجول بحرِّية هناك. 

كان المثقفون والأدباء والكتاب والسياسيون، يحرصون على التواجد بشكل شبه دائم في مقاهي "وسط البلد" للمشاركة في الفعاليات المختلفة، وكانوا يمثلون مع رواد النقابات المهنية، أي المحامون، الصحافيون، والقضاة، قلب الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي، الذي حوَّل المكان إلى نقطة ساخنة، قَضّت مضجع نظام مبارك المستقر، وأنذرت من سيخلفه بضرورة القضاء عليه.

خلال الذكرى الأولى لثورة يناير، وعلى الرغم من محاولة رد الاعتبار للنظام القديم، وما يمثّله من فساد ورجعية، كان رواد ميدان التحرير يفخرون باختفاء أفراد الأمن من وسط البلد، خوفا من الاحتكاك بالثوار وأهالي وأصدقاء الشهداء، إذ كان قمع وقسوة جهاز الداخلية أحد أسباب الثورة، بسبب استخدام النظام له كأداة للقمع وليس للحفاظ على الأمن وإنفاذ القانون.

لذا كان الميدان أول مكان في وسط البلد طاله "التطوير"، بهدف محو أثار الثورة الغامرة، حيث هدم النصب التذكاري لشهداء الثورة، الذي تم تدشينه خلال تولي  حازم الببلاوي رئاسة الوزراء عام 2013، واستبدل عام 2020 بمسلة فرعونية، وأربعة تماثيل فرعونية اقتلعت من "طريق الكباش" بمدينة "الأقصر".

بالطبع لم يقوَ أحد على الاحتجاج، لأن خطة الدولة للتدجين ومحو المعارضة بكل أطيافها كانت تعمل بنجاح تام. فالخوف من تهديد - حقيقي ومفتعل - للضربات الإرهابية في سيناء، كان يخرس سكان العاصمة والمناطق الحضرية، ويمنعهم من الاحتجاج.

هكذا أصبح ميدان التحرير

النقطة التي احتلتها تماثيل "الكباش" والمسلة كانت تمثل قلب الميدان، ومقراً مهماً للخيام الآمنة خلال الثورة. حدث أيضاً تجريف للغطاء النباتي في محيط الميدان، ونقل "مجمّع التحرير" إلى العاصمة الإدارية، واحتلت يافطة غامضة واجهة المبنى التاريخي تعلن عن تغيير وشيك، وهو ما أكد ما تناقلته وسائل الإعلام من تحويل مقر المجمّع إلى فندق فاخر، المخطط الذي لم يقوَ على تنفيذه نظام مبارك، ونفذه النظام الحالي.

أما التشديد الأمني فهو أحد العناصر الإضافية لمنع أي تجمعات في الميدان، خاصة خلال المناسبات السنوية المرتبطة بالثورة، بدءاً من كانون الثاني / يناير، وانتهاء بتشرين الثاني / نوفمبر: ذكرى "محمد محمود"، التي شهدت مواجهات دامية بين أهالي الشهداء والثوار وبين رجال الداخلية نهاية العام الأول للثورة، التي أطلق فيها شعار لا يمكن نسيانه: "يسقط كلُ مَن خان.. عسكر، فلول، إخوان"، لتنضم جماعة الإخوان المسلمين إلى باقي أعداء الثورة، بسبب تحالفهم مع المجلس العسكري والداخلية، فى محاول للاستيلاء على المساحات الخالية في لعبة السلطة.

عيون الحرية

وبسبب أحداث "محمد محمود" نفسها - سُميّت تيمناً باسم أحد الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير- أُجبرت وزارة الداخلية على إخلاء مبناها القديم، بعد أن تحول إلى هدف دائم للثائرين، بسبب استخدام الداخلية للغاز المسيل للدموع بكثافة، الذي كانت له رائحة وتأثير حارق لم نعهده من قبل منذ بداية الثورة، حتى أن "فردوس"، جارتي الناشطة النسوية الجميلة، أصيبت بسرطان الرئة بعد الأحداث ببضعة أشهر، وقال لها الطبيب أنها تعرضت لمصدر كثيف من التلوث.

 "فردوس" رحمة الله عليها،  شاركت في احتجاجات الخبز عام 1977، ولم تتهاون عن المشاركة في أحداث "يناير"، وكانت تعطي نصائحها من خبرتها في المواجهة، فهل يتكرر الأمر مع جيلنا الذي امتلك خبرة كبيرة فى مواجهة قمع النظام؟

تأسست "مصر الصغرى" خلال ثمانية عشر يوماً من الاعتصام بميدان التحرير: طريقة تنظيم المجتمع الجديد لنفسه، وتقسيم الأدوار، والتضامن العميق بين أفراده. تأسست فرق تأمين الميدان ومداخله، وأقيمت الخيام اللازمة للمعيشة، والمستشفى الميداني، و"جريدة الميدان"، ومنطقة خاصة بغنائم الاشتباكات، ونصب متواضع لشهداء الثورة. وكانت مشاهد حماية المسيحيين للمسلمين خلال الصلاة مشاهد حقيقية لا رياء فيها.. فالكل إخوة.

كل شيء كان مثالياً جداً.. وكل فرد في الميدان كان له حق التعبير وإرادة التغيير، حتى أن أول رئيس وزراء خلال حكم "المجلس العسكري"، كان المهندس "عصام شرف"، أحد المشاركين في اعتصام الميدان، والمؤيد للثورة منذ يومها الأول، وكان بالمناسبة الدكتور "جودة عبد الخالق" وزيراً للتضامن والعدالة الاجتماعية في التشكيل الوزاري نفسه، وهو الآن مقبوض عليه بسبب تصريحاته ضد السياسة الاقتصادية للدولة. 

سبب آخر كان وراء العداء للداخلية، وهو استهداف أعين المتظاهرين بالرصاص المطاطي، وتحقيق إصابات مباشِرة، حتى أن المتظاهرين أطلقوا على الشارع: "عيون الحرية"، وكان هناك وعد لم يتحقق بتغيير اسم الشارع بشكل رسمي.

مبنى الحزب الوطني المحترق أيضا كان يجب إزالته، على الرغم من حصول الثوار على وعد آخر من النظام بتحويله إلى متحف، يكشف الانتهاكات الحقوقية خلال عصر مبارك. وكان المبنى قد أحرق كرمز للثورة على فساد السلطة، ولم تصل النيران لأي من المباني المجاورة له، ومن ضمنها المتحف المصري الذي يقع خلفه، حتى أن ثوار الميدان منعوا محاولة للتسلل إلى المتحف وسرقته عشية "جمعة الغضب"، وتحفظوا على المتسللين، حتى وصول الشرطة العسكرية وزاهي حواس، ليبتسم الأثري الشهير أمام عدسات الكاميرات، مؤكداً أنه هو وحده حامي التاريخ.

لا قهوة ولا كتاب

"السهرة النهاردة في وسط البلد" عبارة  كانت تعني الانغماس في الحياة الثقافية الليلية لوسط البلد، والمشاركة في أنشطتها المتنوعة، ما بين ندوات ثقافية أو سياسية، أو السهر مع مجموعة مثقفين في إحدى المقاهي العتيقة، وبتكلفة لا تتعدى بضعة جنيهات، أو فقط التمشية في وسط البلد ومشاهدة المباني التاريخية مع من تحب، وربما المشاركة في فعاليات احتجاجية ما.

بالطبع التغيرات التي شاهدها وسط البلد كان الهدف منها الحد من التجمعات وبخاصة للشباب، ممن كانوا يجدون في نقاط التجمع متنفساً للتعبير عن آرائهم والتعلم، بدءاً من "أتيليه القاهرة" بشارع "كريم الدولة" المتفرع من ميدان "طلعت حرب"، مروراً بحزب التجمع، ثم الحزب الناصري غير البعيد منه، بجانب المكتبات ذات الطابع الحداثي مثل "عمرو بوك ستور" ، هذا غير مقهى البورصة الممتد. أما الأجيال الأقدم فكان يمكن التواصل معها عبر مقهى "زهرة البستان" و"الندوة الثقافية".

فإن كنت تنتظر حضور فاعلية في مسرح "روابط"، يمكنك الانتظار فى مقهى صغير خفي عن الأعين، زينت حوائطه برسومات فنية من إبداع رواده، يسمّى "الخن"، أما إذا أردت الابتعاد قليلاً فيمكنك المرور على دار الأوبرا المصرية، حيث مقهى "نقابة الفن التشكيلي"  و"المجلس الأعلى للثقافة"، وبالقرب منهما منفذ لبيع مطبوعات "المجلس الأعلى للترجمة" المتنوعة الغنية.

مثقفون وأدباء وشعراء وسياسيون من أجيال مختلفة ومتعددة استفادوا من الفضاء المتسع الديناميكي ب"وسط البلد"، بدون خوف من نظام كان يشد قبضته ويرخيها أملاً في عدم وصول غضب الشارع إلى درجة الغليان، نتيجة للمشكلات المتراكمة على كافة الأصعدة، والتي  كان اقلها سيناريوهات التوريث –نقل السلطة الى جمال مبارك.

حتى المخبرين و المدفوعين من الأمن وقتها كانت وجوههم محفوظة عن ظهر قلب، وكان يسهل التلاعب بهم وتغيير مواضيع النقاش عند وجودهم. وكنت تجد في وسط البلد كافة التيارات والاتجاهات والتوجهات، وكانت الصداقات والنقاشات الساخنة هي أغلى ما يمكن الحصول عليه.

التماثيل الاربعة المحيطة بالمسلة

اغلب المقاهي والمراكز الثقافية التي سبق ذكرها أغلقت ولم يعد لها وجود، والأسوأ من ذلك: كنت أجري العام الماضي بحثاً حول نوادي السينما في مصر، ووجدت أن اغلب تلك المتواجدة بمنطقة وسط البلد والمناطق التي تقع على أطرافها، سواء الزمالك أو جاردن سيتي، أغلقت جميعها، أما بسبب نقص التمويل أو بسبب التضييقات الأمنية، بينما منعت التجمعات الثقافية بشكل تام، ومن أهمها "مهرجان الفن ميدان"، وأغلقت مقاهي منطقة البورصة بزعم الحفاظ على التراث العمراني.

يطال التشديد الأمني مناسبات بعينها، كذكرى "محمد محمود"، التي شهدت مواجهات دامية بين أهالي الشهداء والثوار وبين رجال الداخلية نهاية العام الأول للثورة، والتي أطلق فيها شعار لا يمكن نسيانه: "يسقط كلُ مَن خان.. عسكر، فلول، إخوان"، لتنضم جماعة الإخوان المسلمين إلى باقي أعداء الثورة، بسبب تحالفهم مع المجلس العسكري والداخلية، فى محاول للاستيلاء على المساحات الخالية في لعبة السلطة. 

مقرات الأحزاب بمنطقة وسط البلد واجهت أيضا نصيبها من التفكيك، بعد أن أيدت النظام ظالماً ومظلوماً، ما ساهم في تآكل دورها، فعلتْ أغلب الأحزاب ذلك نكاية في تيار الإسلام السياسي، الذي حاول الاستحواذ على السلطة بانتهازيته الشديدة، بمجرد وصول احد فصائله - جماعة الإخوان - إلى الحكم. أحزاب المعارضة المدنية أيضاً تعرضت لعامل إضافي من الضعف والتفكك، تمثّل في تجميد حراك أعضائها من الشباب، بعد تجميد النشاطات الطلابية في الجامعات.

وتزامن ما سبق مع تراجع دور الصحافة، والعزوف عن قراءة الصحف الورقية، التي كان انتشار بائعيها في وسط البلد يضفى زخماً محبباً، وكانت مصدرا للمعرفة والسجال. فما الذي بقي لجيل الثورة في منطقة وسط البلد؟ حتى عربات الأكل الشعبية لن تصمد كثيراً أمام إغواء المطاعم الفاخرة، التي تُكثِّف دعايتها على الوسيلة الأكثر رواجاً بين الشباب: وسائل التواصل الاجتماعي.

وبالعودة لعبارة جمال حمدان عن التاريخ والجغرافيا، نجده يقول أيضاً أن التاريخ إذا تكرر أصبح جغرافيا، في عملية استقطاب وتركيز له. فهل تشهد منطقة وسط البلد والميدان، تجمعات أخرى على الرغم من كل التغيرات؟ فمن عاش "ثورة يناير"، يصعب عليه تخيّل ميادين أخرى قادرة على احتواء دعوات التغيير والاحتجاج، علماً بأن ميدان التحرير سبق أن شهد مواجهات عديدة، بدأت منذ أحداث ثورة 1919 ومظاهرات 1935 ضد الاحتلال الإنجليزي، وانتفاضة الخبز خلال كانون الثاني/ يناير عام 1977 وصولاً إلى "يناير 2011"، الحلم.

______________________

  1. دار الهلال القاهرة 1999

مقالات من مصر

للكاتب نفسه