فنّانة.. صامِدة.. شهيدة

هي بقعة عجيبة فعلاً من العالَم، لم ينطفئ نشاطها حتى في عزّ الموت، رغم أنّ المطلوب من أهلها أن يسعوا ليبقوا على قيد الحياة لا أكثر، إلا أن كثيراً منهم أبوا إلا أن يكملوا الطريق بما استطاعوا، بذلك العناد الغزّي المحبب الذي لا ولن يفهمه عدوّهم وعدوّ الإنسان والحياة..
2024-10-24

شارك
الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب
إعداد وتحرير: صباح جلّول

"محاسِن من غزة… صامدة بالشمال". اختارت الفنانة الغرافيكية من غزة "محاسن الخطيب" التعريف عن نفسها على صفحتها على انستغرام بهذه الكلمات فقط، كأنّ ذلك كلّ ما يحتاجُ الدالف إلى صفحتها أن يعرفه عنها. يكفي أنها "من غزّة"، وأنها "صامدة في الشمال" لنرى محتوى صفحتها في ضوءٍ آخر، لنفهم مَن وماذا خلفَ هذه الأعمال..

ترسمُ محاسن إذاً فيما هي محاصَرةً، مجوّعة، مهدّدة بالموت كلّ لحظة، معرّضة للتهجير القسري، وتحت وطأة الخوف والقلق الدائمين. تصعدُ سطح بيتٍ ما زال واقفاً، تختلي بنفسها وبأدوات عملها وأفكارها وسط صخب حرب إبادة تحملتها عاماً وأكثر، وترسم مشاهد من يومها ومن أيام غزّة الأحلك.

من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، صمدت محاسِن في الشمال، صابِرة محتسبة، إلى أن قتلها القصف الإسرائيلي على مخيم جباليا.. في تلك الفترة التي عاشتها حِصاراً وجوعاً، استخدمت موهبتها لنقل معاناة أهل الشمال المحاصرين، وأملِهم أيضاً، وللإضاءة على مشاهِد من حياة الغزيين تحت الإبادة. بل كان آخر ما شاركته صباح يوم استشهادها رسماً يحاكي ليلة قصفِ وحرق خيم النازحين في دير البلح، وسألت "قل لي ماذا تشعر عندما ترى إنساناً يحترق حيّاً؟"

آخر ما شاركته الرسامة الشهيدة محاسن الخطيب على صفحتها على فيسبوك.

بعد استشهادها، بدأ فنانو القصص المصورة الإيطاليون مبادرة لمنح محاسن الخطيب جائزة مهرجان "لوكا" (Lucca) للقصص المصورة في فينيسيا.. جائزة لن تستلمها محاسِن على أي حال.

في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، كانت محاسن شاركت على صفحتها على موقع "إكس" رابطاً لدورة تصميم رسوم كانت تعطيها في صفوفها لتعليم رسم الشخصيات، وكتبت: "السلام عليكم، رابط دورة من دوراتي السابقة بشكل مجّاني بنيّة الدعاء والفرَج لغزّة، وبنيّة إن متُّ تبقى صدقة جارية عن روحي... عِلمٌ يُنتفَع به. كثّفوا الدعاء وسامحوني". تقول إحدى صديقاتها: "كانت [محاسن] تريد مشاركة معرفتها وخبراتها قدر الإمكان، لأنها إذا قُتِلت، فإن معرفتها على الأقل ستعيش من خلال الآخرين". هذه قِصة واحدة من حياة هذه الشابة، تذكِّرنا بالمجهود الذي ينبغي علينا أن نبذله مراراً وتكراراً لكي نستحضر دوماً أنها ليست رقماً وأن الشهداء ليسوا أرقاماً، وأنّ الكثر منهم يستحقّون أن يُذكروا ويُعرفوا ويُكرّموا، وأنهم كانوا يستحقون أكثر أن يعيشوا، ألّا يقتلهم جيش الاحتلال الهمجي! قصصهم تُفهمنا صُعوبة نعيِهم بجدّية، بما يفيهم حقهم، وبسفالة هذا العالَم الذي يقوم فيه جنود برقصات التيكتوك والعبث بملابس النساء الداخلية، ولا يقيمون وزناً للأحياء، يخطف حياة شابةٍ مبدعة تفكّر أثناء تعرضها لإبادة في طريقة تنفع فيها الناس، بعدَ موتها حتى!

فيديو وثقت فيه الشهيدة لقاءها بجدّة من معسكر جباليا، ورسمها لها.. "وإحنا بنات الشاطئ ما نخافش من هدير البحر":

هذه الشابة التي قارعت ظروف الإبادة التي تفوق الخيال رعباً بالأمل والألوان وحسّ الفكاهة والتمسك بالحياة، والتي حاولت بيع تصاميمها على الانترنت لإعالة عائلتها، والتي استمرت بالتوثيق والتخفيف عن الناس، تقبع الآن جثّة في مستشفى كمال عدوان، لا يقدر أهلها على دفنها بسبب الوضع شديد الخطورة، ومع تهديد الاحتلال بتحويل المشفى إلى مشرحة كبيرة كما فعل بغيره من المستشفيات.

تلك غزّة الصغيرة التي تعشش في كلّ زاوية منها موهبة وفِطنة ومحبة ونشاط وسعي للحياة، على الرغم من سنوات الحصار الطويلة قبل بدءِ هذه الإبادة. هي بقعة عجيبة فعلاً من العالَم، لم ينطفئ نشاطها حتى في عزّ الموت، رغم أنّ المطلوب من أهلها أن يسعوا ليبقوا على قيد الحياة لا أكثر، إلا أن كثيراً منهم أبوا إلا أن يكملوا الطريق بما استطاعوا، بذلك العناد الغزّي المحبب الذي لا ولن يفهمه عدوّهم وعدوّ الإنسان والحياة..


وسوم: