يأتون خفافاً .. ونحن ثمة احتمال أن نعود قبل أن نرحل

أما هم، فيأتون خفافاً. هؤلاء الشهداء والجرحى والأيتام والثكالى، ممن تسقط على رؤوسهم في كل صباحٍ "كربلاء"، يأتون على الرغم من هذه الأحمال العجاف والهول، يأتون أحياءً على الرغم من الموت. أما نحن، فمدفونون في أعماق الجب، مدفونون بعظامٍ منخورة حد الرعب، ودُفنت معنا أحلام "يناير" في أعماق الطين، الذي يُخشى أن يَضِن عليه النهر. الحزن علامتنا الصحية للرغبة في العصيان، حتى لو غابت الإرادة، علامتنا للرغبة في الحياة، ولو كستنا الكآبة.
2024-10-17

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
هاني علقم - الأردن

لم يبقَ لي ككاتبة مصرية في زمن الإبادة والقضية العادلة الحرَّة، إلا الكتابة عن الشيء الوحيد الذي أكاد أجزم أنه لا يزال حياً داخل بلدي في هذه اللحظة المُرّة.

اتحدث عن وجدان أهل مصر يا أهل فلسطين ولبنان، هذا الوجدان الذي يكتوي الآن بوجعه الخاص والعام، اذ يختلطان: دماءٌ مهدورة، وثورة مغدورة. ورجع الانتماء إلى "حلم التحرير"، الممتد من الميدان القائم في "وسط القاهرة" حتى آخر حدود دولة فلسطين الجسورة، الدولة التي ستأتي حتماً ويوماً ما، حين تنتصر قيم الثورة، وينتهي - إلى الأبد - هذا "الطوفان".

..

أما عن الوقائع... فنحن بلا وقائع تستحق الذكر. عمّا أحكي؟! عن رئيس وزراء مصر، الذي يبشر الملايين، أنه وفي حال امتدت الإبادة، فسوف يُعاد صياغة الميزانية العامة للدولة وفق اقتصاد الحرب!!

أحكي عن الخبر نفسه، وفحواه، ومآلاته، أم عن ردود الفعل؟ أم أحكي عن هذه الحملات الإلكترونية الموجَّهة، التي صارت سمة من سمات العصر، حيث تتهافت الكتابات المصطنَعة إلى مهاجمة أطروحة المقاومة، مع الادّعاء أن موقفها هذا يأتي انحيازاً لحقن الدماء، وسعياً لإنهاء الاحتلال والجوع، وحفاظاً على الأمن القومي للبلاد!!

اتحدث عن وجدان أهل مصر يا أهل فلسطين ولبنان، هذا الوجدان الذي يكتوي الآن بوجعه الخاص والعام، اذ يختلطان: دماءٌ مهدورة، وثورة مغدورة. ورجْع الانتماء إلى "حلم التحرير"، الممتد من الميدان القائم في "وسط القاهرة" حتى آخر حدود دولة فلسطين الجسورة، الدولة التي ستأتي حتماً ويوماً ما، حين تنتصر قيم الثورة، وينتهي - إلى الأبد - هذا "الطوفان".

لم يخرج المصريون إلى الشوارع ضد الإبادة والدعارة الدولية. لم تخرج على السطح إلا بعض الوقفات الاحتجاجية، ورجلٌ مسن يتعلق بطرف جلبابه الملايين، وهو يقذف حبات البرتقال فوق حافلات "تحيا مصر"، التي اتجهت إلى معبر "رفح"، في بداية الشتاء، مع انقضاء الربع الأول من العام الأول للإبادة.

كيف أتحدث عن هذا السياق، الذي انتهى إلى السخرية من مخاوف مئات الآلاف من طرح فكرة "اقتصاد الحرب"؟ هاجمهم الذباب الإلكتروني مدفوع الأجر، اتهمهم بـ"الجعجعة"، وادّعاء الرغبة في النصرة والذود عن المحاصَرين، وهم لا يصمدون أمام احتمال تحمل خطة تقشف تمتد فقط شتاءً وصيفاً. كيف يمكن الحكي عن هؤلاء، وعوار منطقهم الذي لا يرقى إلى مستوى الانجرار للقول والرد، وتفنيد هذا الكم المرعب من الزيف.

..

نحن بلا وقائع تستحق الذكر أو إحياء ذلك النصر والذكرى.

فاختصار الوقائع أننا في مصر قد زاد الطين بلّة، فتحول إلى وحلٍ عميق، وكأنه بلا حدود، وكأننا في نقطة اللارجعة. شعب لم يُبتلَ فقط بعلقم القهر باسم الحفاظ على الدولة، بل تجرع أيضاً صديد الادِّعاء، وزنخ الرياء إثر خيبات ونزوات النخبة .

مثلُنا كمثل من فكروا في تعذيبه من دون جلبة، فتركوه معلقاً تحت الشمس، أملاً في أن يسقط لحمه عن عظمه، ولا يتبقى منه غير الجلد.

نحن أيضاً، في وضح النهار، وفي حضور الشمس المسماة بـ"الاستقرار"، عشنا سنواتٍ طويلة، عجيبة الهزل والجد، حيث كل شىءٍ مباح، ما دمنا لم نصل إلى الحد، الذي تمّ تصديره لنا بصفته النصل الحاد ، وهو تكرار مآسي سوريا والعراق وتمدد شبح الحرب.

هكذا كانت المعادلة التي أرسيت إرساءً، منذ البدء، و تأرجحت الغالبية بين درجات القبول بها، تواطؤاً وتجاهلاً وإذعاناً. لم نصل الى حد "النصل الحاد" ولله الحمد. لكن إلى أين وصلنا؟ وما اسم ما نقف عنده الآن من حد؟

مقالات ذات صلة

كانت الأسئلة تدور على مدار أعوامٍ عشرة، تتأرجح على الرغم مما دُفع من دماء، وما استُنزف من سنوات آلاف البشر داخل الحبس. لكن على الرغم من ذلك، فقد كانت الأسئلة تتأرجح وتنتظر، وفي عامٍ واحد، من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي وحتى تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، تجلت الإجابة التي تقصف كل إجابة، تجلت باتجاه الشرق، لدى القطاع المحاصَر المقاوِم المحتل، تجلت وهي تشير إلى "مصر الجديدة" وفق كل ما قدمه شعبها وما حصد، وفق كل ما قبِله وما رفض، وفق امتداد السراب وانحسار الألق.

أما هم، فيأتون خفافاً. هؤلاء الشهداء والجرحى والأيتام والثكالى ممن تسقط على رؤوسهم في كل صباحٍ "كربلاء"، يأتون على الرغم من هذه الأحمال العجاف والهول، يأتون أحياءً على الرغم من الموت.

أما نحن، فمدفونون في أعماق الجب، مدفونون بعظامٍ منخورة حد الرعب، ودُفنت معنا أحلام "يناير"، في أعماق الطين، الذي يُخشى أن يَضِن عليه النهر.

أما عن الوقائع... فنحن بلا وقائع تستحق الذكر. نحن أيضاً، في وضح النهار، وفي حضور الشمس المسماة بـ"الاستقرار"، عشنا سنواتٍ طويلة، عجيبة الهزل والجد، حيث كل شىءٍ مباح، ما دمنا لم نصل إلى الحد الذي تمّ تصديره لنا بصفته النصل الحاد ، وهو تكرار مآسي سوريا والعراق وتمدّد شبح الحرب.

هكذا كانت المعادلة التي أرسيت إرساءً، منذ البدء، وتأرجحت الغالبية بين درجات القبول بها، تواطؤاً وتجاهلاً وإذعاناً. لم نصل الى حد "النصل الحاد" ولله الحمد. لكن إلى أين وصلنا؟ وما اسم ما نقف عنده الآن من حد؟

لا خبز لا عدالة لا حرية . ومن بعدها حلّ الوجع الأكبر، غاب ما كنا ننتظره في تلك اللحظة التاريخية من قرار وطني عادل حازم معتدّ، غاب على الرغم من معرفة القاصي والداني كيف يقرأ العقل الجمعي المصري فصول القصة، وأنه قلباً وفكراً ومصلحة مع واجب وضرورة الدفاع عن فلسطين وتحرير الأرض. وأنه الآن - ويا للفداحة ـ تمخض مساره الذي بدأ برفض الأسلحة الفاسدة عام 1948 فلم يُنتج إلا جمهورية الخوف.

لم يخرج المصريون إلى الشوارع ضد الإبادة والدعارة الدولية. لم تخرج على السطح إلا بعض الوقفات الاحتجاجية، ورجلٌ عجوز يتعلق بطرف جلبابه الملايين، وهو يقذف حبات البرتقال فوق حافلات "تحيا مصر"، التي اتجهت إلى معبر "رفح"، في بداية الشتاء، مع انقضاء الربع الأول من العام الأول للحرب.

هل في ظل كل هذا، تستقيم الوقائع التي تدور داخلياً فى مصر لتعبِّر؟! هل تُسعف من يقرأ ومن يكتب ومن يفكر؟

هل هناك من معلومة مهنية محْكَمة، تستحق أن تطفو على الذاكرة؟ فعل رسمي أو غير رسمي، يضمد ولو قليلاً من كل هذا الكمد؟

لا خبز لا عدالة لا حرية . ومن بعدها حلّ الوجع الأكبر، غاب ما كنا ننتظره في تلك اللحظة التاريخية من قرار وطني عادل حازم معتدّ، غاب على الرغم من معرفة القاصي والداني كيف يقرأ العقل الجَمعي المصري فصول القصة، وأنه قلباً وفكراً ومصلحة مع واجب وضرورة الدفاع عن فلسطين وتحرير الأرض. وأنه الآن - ويا للفداحة ـ تمخض مساره الذي بدأ برفض الأسلحة الفاسدة عام 1948، فلم يُنتج إلا جمهورية الخوف.

من خيركِ يا مصر، وجدان لا يفرِّق بين من شارك ومن لم يشارك في حلم "يناير"، طالما هو الآن وغداً في صف كل فعل ينتصر للقضية حاملاً ختم النسر .وجدان يبدو وكأنه لا مبالياً بينما هو مستعصٍ، متجلّدٌ، غاضبٌ، يرفض الانغماس في وقائع كالغثاء، تزيده موتاً فيما يريد هو أن يحيا. يحيا ولو بالحزن.

لا شيء، لا شيء يمكنني أن أخبر به وأحتمل معه ـ كما أحتمل الآن ـ مجازفة نشر كل حرف، لا شيء، غير أن أقول وأبشِّر أن هناك وجداناً - على الرغم من فداحة عجزه وجلال حزنه ورقة حال أهله - لم يحتضر بعد.

لا يزال ينبض على الرغم من مشاعر الخزي والمهانة، على الرغم من ثقل القهر والبلادة، على الرغم من خذلان من خذلوا، وزيف من ادّعوا، على الرغم من فجيعة ما تلقّاه من دفعوا الثمن ولم يترددوا، وعلى الرغم من أن الحرب مستمرة من دون أفق، وبلا هوادة..

..

نعم أن أكتب، فما وجدتُ غير وجدان "لونه قمحي". من خيركِ يا مصر، وجدان لا يفرِّق بين من شارك ومن لم يشارك في حلم "يناير"، طالما هو الآن وغداً في صف كل فعل ينتصر للقضية حاملاً ختم النسر .

وجدان يبدو وكأنه لا مبالياً بينما هو مستعصٍ، متجلّدٌ، غاضبٌ، يرفض الانغماس في وقائع كالغثاء، تزيده موتاً فيما يريد هو أن يحيا. يحيا ولو بالحزن.

فالحزن علامتنا الصحية للرغبة في العصيان، حتى لو غابت الإرادة، علامتنا للرغبة في الحياة، ولو كستنا الكآبة، علامتنا لعدالة عذاب ضميرنا إثر الغياب، لمشروعية وصول برتقالنا على الرغم من السياج، لمشروعية الضجر من ميتات البلادة المجانية، غرقاً بـ"العبّارة"، وحرقاً بالقطار. علامة أننا لا نزال أحياء معانِدين، على الرغم من الواقع السياسي الكسيح، الذي بسببه، فشلنا وانكشفت سوءتنا، لكننا لا نزال في بعض الأرجاء المظلمة منا أحياء، ولا يزال ثمة حلم واحتمال يضوي في نفوسنا، بأنه سيأتي يوم يشبهنا، نسعفه ويسعفنا، يوم نبذل فيه ما علينا أن نبذل من جهد ودم، وأن نأتي القضية وفق حدود قامتنا وقيمتنا وما تمليه علينا من دور .

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...