مررتُ مع طفلتي التي بلغت عاميْن قبل أسابيع قليلة، أمام مكبٍ كبير من النُفايات لا يُشبه المكبات العادية، فيه أطنان من القُمامة المرميّة في الشارع وعلى الجدران وداخل ساحةٍ كبير تنشر البعوض والحشرات والروائح السيئة، والأمراض بطبيعة الحال. اضطّرتْ الطفلة إلى أن تضع يدها على أنفها من سوء الرائحة. هذا المكب الكبير، يوجد في الشارع الذي نزحتُ إليه داخل خيمة في بلدة "الزوايدة"، من قطاع غزة.
في الطريق نفسها، وقد قررتُ أن آخذ "سلوان" في مشوارٍ سريع، مررتُ بشوارع رملية مهترئة، أتعبها المشي فيها تحت الشمس، لتقول لي "شوب": "احملني". فيه أيضاً، منازل مُدمّرة ورُكام، وخيام كثيرة للنازحين، نساء يطبخن تحت الشمس على النار، عربات تجرُّها دواب، ومشاهد لم أتوقّع أن تراها طفلتي يوماً.
عند رؤيتها للبيت المُدمّر، أوّل ما سألتُ نفسي: كيف ستستوعب الطفلة الصغيرة أنّ هذا الشيء ليسَ هو العادي؟ أن هذه ليست هي الحياة الطبيعيّة. أنّ البيت المُدمّر هو الحالة الشاذة، والقُمامة المتراكمة في الشارع شيءٌ استثنائي، وأن تركب على عربة بحمار مع والدها ووالدتها، شيءٌ غير طبيعي.
بلد القبعات..
04-07-2024
معايشة الحرب في "غزَّة" - شهادة
13-06-2024
كذلك تعلّمتْ هي أن تُمسك بغالونات المياه الكبيرة وتجُرها، داخل أرض النزوح بجانب الخيمة، كما ترى والدها ومن حولها من الأشخاص يأتون بهذه الغالونات لتعبئة المياه، بسبب الشحّ الكبير فيها، وهو ما يجبر النازحين على الانتظار في طوابير كبيرة أمام سيارات المياه والعربات التي تبيعها. بالطريقة نفسها، تلعبُ بالرمل وتلوّث نفسها عدّة مراتٍ في اليوم، لا تعرف شكلاً لبيت، ولا لجدرانه، فتحب التلوين على جدران الخيمة. لا تعرفُ للخصوصيّة وجهاً، فتسمعُ ابن خالتها يبكي في الغرفة الملاصقة، وهي تبكي في الخيمة، فيسمعُها الجيران في خيمةٍ مُقابلة.
السؤال الذي أسألهُ نفسي دوماً: كيف سأجعل ابنتي تستوعب، أن للحياة شكلاً آخر، وأن هذا النمط المعيشي ليسَ هو الطبيعي، هذا النمط شاذّ، طارئ، يجب أن يكون عابراً، لتعود الحياة إلى آدميتها. وأسأل نفسي أكثر: كيف ستستوعب وأنا من قبلها، أنّ لنا كرامة ونحنُ نقوم بهذه الأفعال المُختلفة، ونعيش في هذه الأماكن المُدمَّرة؟
في تصريحاتهِ المُتكرّرة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، إنّ الجيل الجديد من الفلسطينيين يجب ألا يتعلم كراهية اليهود بل العيش بسلام معهم. هذا الشخص ذاته، كرّر مراراً أنهُ يسعى إلى تغيير مضمون المنهاج الذي يتعلّمهُ الفلسطينيون في غزّة خاصة، مُعْزياً أحداث "السابع من أكتوبر" إلى هذا المنهاج، وإلى هذه العقيدة، التي تشرّبها أطفال فلسطين منذُ سنوات، لا إلى الجرائم المُتكرّرة التي عاشوها، وكبروا وهي تحدثُ أمامهم.
الكذب بوقاحة مضاعَفة إذ تَدّعي البراءة
08-08-2024
كرّر "نتنياهو" القول إنه يجب أن يكون هُناك "منهاج فلسطيني جديد في التعليم"، وظهرت كثيرٌ من الأفكار عن خُطط اليوم التالي التي تسعى إسرائيل إلى فرضها أو التفكير فيها - على الأقل - كُلها تتضمّن إعادة تأهيل العقل الغزّي، هذا على اعتبار أنّهُ أصلًا عقل لا يتفق مع معايير هذا العالم، أو بمعنى آخر: لا يتفق مع معايير الأمريكيين ومن خلفهم الإسرائيليون.
وهذا ليسَ جديداً ولا غريباً. ففي أيلول/ سبتمبر 2024، يبدأُ عامٌ دراسي جديد في فلسطين -أو البقع الحيّة الباقية منها- وفي باقي أنحاء العالم، بينما يضيع على أطفال غزّة عامٌ دراسيٌّ ثانٍ، بلا مدارس وبلا تعليم، وحتى بلا أي أُفق لاستكمال هذه المنظومة المهمّة والرئيسيّة في الحياة، وفي بناء الأجيال.
لكن أيُّ أجيال؟ تلك الأجيال التي انتقلت من طوابير المدرسة في الصباح، إلى طوابير تعبئة المياه، وطوابير الانتظار أمام توزيع الطرود والكابونات، والطوابير الطويلة أمام المراحيض في الخيم، وحتى في قلب الشوارع على الطُرقات، بلا دليل، وبلا وُجهة، عدا أولئك الذين انطلقوا إلى سوق العمل من طفولتهم المبكّرة، إما ليُعيلوا أسرةً فقدت والدها، أو ليُساعدوا أباً يعملُ على سيارة أو في السوق.
هذه هي طريقة إعادة رسم الواقع، وهذه هي إعادة تكوين العقل الغزّي، وإعادة برمجة الإنسان الفلسطيني بطريقةٍ لا يُحكى عنها في الإعلام ولا تُذكر أساساً في المؤتمرات العديدة، التي يعقدها المسؤولون الأمميون والدوليون عن الواقع الكارثي والصعب.
يتفاوضون على دمنا
12-09-2024
ينشأ الآن جيلٌ جديد من الفلسطينيين، الذين لا يعرفون شكل الحياة الطبيعي، أطفال صغار نشأوا وتربوا بين الدمار والرُّكام والقمامة، وشاهدوا من حولهم كُل هذه المأساة، لا يستوعبون النمط العادي للحياة. وجيل آخر أكبر سناً، انفصل بالكامل عن واقعه البشري، وانتقلَ إلى نمطٍ يمتهنُ كرامته، ويُنسيه حصيلته التعليميّة والفكرية، التي تعبَ المُعلمون في تأسيسها سنواتٍ طويلة.
لا أحد يعرفُ حجم الكارثة. فأكثر من 120 مدرسة دُمّرت بالكامل وأكثر من 300 أُخرى مُدمّرة جزئياً، والآلاف الأُخرى هي مأوى للنازحين، ولا يُعرف مصير من فيها حتى لو انتهت الحرب. وإن تحدّثنا عن التعليم الإلكتروني، فإنّ الإنترنت شيء لا يعرفهُ أغلب السكان، وأجهزتهم الإلكترونية انتهت ودُمّرت، عدا عن أن موادهم الدراسية وكُتبهم، إمّا جرى استخدامها لإشعال النار للطبخ، أو بقيت مُمزقة تحتَ الرُّكام.
هذه الكارثة تتسع في كُلّ يومٍ تستمرُ فيه الحرب، ويبعتدُ الطُلاب عن مدارسهم. فمنذُ هذا الشهر سيفقدُ جيلٌ آخر نفسه، إذ لم يتخرّج طلبة الثانوية العامة العام الماضي من غزّة، ولن يتخرّجوا هذا العام إن استمرّ الواقع كما هو.
انهيار التعليم العام في منطقتنا
25-04-2024
أجيالٌ بأكملها تفقدُ حياتها وسنواتها. وأطفالٌ صغار يستيقظون على واقعٍ غير بشري. هذا هو كيّ الوعي الجديد الذي تقوم به إسرائيل، ويوافق عليه العرب. العرب الذين يُريد "نتنياهو" مُساعدتهم، في تأهيل المُجتمع الغزّي، وإعادة تأليف المنهاج الجديد، على مقاس "السلام الإبراهيمي"، ووفق مبادئه!