بدأت الأمطار في الهطول على مدينة درنة شمال شرق ليبيا طوال يوم 10 سبتمبر العام الماضي، لكنها لم تكن أمطارًا عادية. هذه المرة كان إعصارًا غير مسبوق ذي طبيعة استوائية، عُرف باسم «العاصفة دانيال».
بحلول الليل، تزايدت حدة السيول، مع اتجاه العاصفة مباشرة إلى منطقة «الجبل الأخضر».
تدفقت مياه الأمطار إلى «وادي درنة»، فتراكمت المياه خلف السديّن اللذين تم تشييدهما في سبعينيات القرن الماضي لحماية المدينة من الفيضانات. بعدها، بدأت المياه تتجاوز سد «البلاد»، أصغر السدين، والذي يقع على بُعد حوالي 2.25 كيلومتر من شاطئ مدينة درنة، عند منتصف الليل تقريبًا. وبحلول الواحدة والنصف صباحًا، انهار الجزء الشرقي من السد، ليندفع طوفان المياه نحو المدينة.
لكن، خطرًا أكبر كان يلوح في الأفق، فعلى بُعد حوالي 13 كيلومترًا من سد «البلاد» في الوادي، يقع سد «بو منصور» الذي يبلغ ارتفاعه 75 مترًا، وبه خزان يمكنه استيعاب 22.5 مليون متر مكعب من المياه. لكن العاصفة كانت أقوى من أن يتحملها السد. تقريبًا في نفس الوقت الذي تجاوزت فيه المياد سد «البلاد»، بدأت المياه تصل إلى منطقة «بو منصور» وتنفذ إلى قلب السد الطيني من خلال الشقوق التي لم يتم إصلاحها، والتي تضررت في فيضان عام 1986.
بحلول 2.40 صباحًا، بدأت المياه تخترق جسد سد «بو منصور». وعندما انهار السد، اندفعت موجة شاهقة بسرعة قصوى تبلغ 36 كيلومترًا في الساعة تجاه المدينة. اقتلعت الموجة «سد البلاد»، الأصغر حجمًا، واجتاحت المنازل والمساجد والجسور والطرق.
غرقت مدينة درنة وأهلها.
القاتل في ليبيا
13-09-2023
التقديرات الأوليّة للخسائر في الأرواح مُذهلة. قالت منظمة الصحة العالمية إن ما لا يقل عن 3958 شخصًا لقوا حتفهم، إلى جانب تسعة آلاف شخص في عداد المفقودين. وارتفع عدد القتلى إلى 5923 على الأقل، فيما تواصل السلطات الليبية حتى الآن محاولة التعرف على المفقودين.
وبمجرد انخفاض مستوى المياه في المدينة واتضاح حجم الكارثة، بدأ الحديث عن جمع التبرعات للإغاثة من الكوارث وعملية «إعادة الإعمار».
قدّرت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي الأموال اللازمة لمُعالجة الدمار بحوالي 1.6 مليار دولار أمريكي، في تقييم نُشر في يناير الماضي.
وصل المال بالفعل إلى ليبيا، لكن لا أحد يعرف أين ذهب بالضبط، ولا حتى المصادر القريبة من «الصندوق» الذي أصبح يُهيمن على عملية إعادة الإعمار. وفي الأسابيع التي سبقت الذكرى السنوية لكارثة تغير المناخ الأسوأ في المنطقة، أكد حمد الشلوي، عضو لجنة الأزمات البرلمانية الليبية المُكلفة بالإشراف على الوضع في درنة، على هذا، قائلًا إنه لم يتم صرف أي مبلغ من أموال الميزانية المُخصصة لإعادة الإعمار من قِبل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومجلس النواب وحكومة الوحدة الوطنية، والتي تُقدر بنحو 15 مليار دولار.
من المسؤول عن هذا؟ بحسب الشلوي، فإن «القيادة العامة» -كناية عن عائلة المشير خليفة حفتر، قائد ما يُعرف بـ«الجيش الوطني الليبي»- هي التي لم تحقق وعودها بإعادة الإعمار لأسباب مجهولة، في حين أن «صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا»، الذي تم إنشاؤه في أعقاب الفيضانات ولم يشارك في مؤتمر إعادة الإعمار، قام بمشروعات ضخمة من خلال شركات ليبية ومصرية.
يترأس بلقاسم حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، هذا الصندوق. في محاولة لفهم عملية إعادة إعمار درنة والمنافسة السياسية التي احتدمت حول مليارات الدولارات التي تدفقت على ليبيا، قالت مصادر تحدثت لـ«مدى مصر» إن بلقاسم وحده هو من يعرف أين ذهبت هذه الأموال.
بدأت المنافسة الشديدة للسيطرة على إدارة الكوارث في درنة تتكشف بعد ساعات قليلة من وقوع الكارثة في الثالثة صباحًا. قطعت السلطات التابعة لحفتر الكهرباء والاتصالات في المدينة، ولم يعلم المواطنون حجم الدمار حتى وصل بعضهم إلى المناطق المتضررة. الناجون الذين تمكنوا من الوصول إلى المناطق الآمنة هم من أبلغوا عن حجم الكارثة، ونشروا صورًا ومقاطع فيديو للأضرار الجسيمة والجثث التي تم انتشالها ونقلها إلى المناطق الجافة في المدينة بعد تصريف مياه الفيضانات في البحر الأبيض المتوسط.
مع توافد الصحفيين على المدينة لتغطية الحدث، بدأت عائلة حفتر وتشكيلة واسعة من قوات الأمن التي تسيطر عليها في قمع الأصوات المُنتقدة. وطُلب من الصحفيين مُغادرة المدينة. وبعد حوالي أسبوع من وقوع الكارثة، قال متحدث باسم الأمم المتحدة لوسائل الإعلام إن فريق الأمم المتحدة «غير مُصرح له بالتوجه» إلى درنة.
في ليبيا، حكم العائلة لم ينته بسقوط القذافي
20-07-2022
بعد أسبوع من وقوع الكارثة، وبينما تواصل الفرق المحلية والدولية جهود البحث والإنقاذ، جرت مظاهرة غير مُتوقعة مساء 18 سبتمبر أمام مسجد الصحابة، أحد المعالم الرئيسية وسط درنة. طالب المتظاهرون بحل مجلس النواب وتوحيد ليبيا. وقال مصدر محلي من درنة لـ«مدى مصر»، إن الاحتجاج تم بالتنسيق مع «صدّام خليفة حفتر»، نجل المشير صاحب النفوذ وذراعه التنفيذية، والذي يُتوقع أن يخلفه. في مايو الماضي، عُين رئيسًا لأركان القوات البرية لقوات ما يعرف بـ«الجيش الوطني الليبي»، وفي أغسطس تمت ترقيته إلى رتبة فريق.
يمثل الاحتجاج، الذي شارك فيه العشرات من سكان درنة، العلامات الأولى للتوتر بين عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي، وخليفة حفتر، اللذين كانا حليفين ذات يوم ثم دارت بينهما معركة سياسية في السنوات الأخيرة على النفوذ السياسي. وأصبح من الواضح أن حفتر يعتزم إحكام قبضته على جهود إعادة الإعمار.
إصرار حفتر على السيطرة على عملية إعادة الإعمار أزعج عقيلة صالح ومجلس النواب. وبعد أسبوع من الكارثة، بدأ برلمان الشرق مناقشة مُقترح إنشاء جهاز لإعادة إعمار وتأهيل المناطق المُتضررة من الفيضانات. وكان الهدف من هذه الجهاز، المُمول من الميزانية الوطنية، هو مُعالجة الأضرار الجسيمة التي لحقت بالبنية التحتية مثل الطرق والجسور والممتلكات العامة والخاصة، وتم الترخيص له بإنشاء فروع في المناطق المُتضررة. وكان من المتوقع أيضًا وضع معايير لإدارة هذا الجهاز، على نحو يضمن مُشاركة خبراء محليين ومُتخصصين من المناطق المُتضررة بحسب الحاجة. وكان من المُقرر أن تقوم لجنة بقيادة صالح، تضم محافظ مصرف ليبيا المركزي وممثل عن القيادة العامة رشّحه حفتر، بفتح حساب في المصرف المركزي للتعامل مع أموال المساعدات المحلية أو الدولية، كما صرّح المتحدث باسم البرلمان عبد الله بليحق في 18 سبتمبر الماضي. وكان الهدف هو قيام البرلمان بإنشاء جهاز لإعادة الإعمار يرأسه أحد سكان المناطق المُتضررة.
في هذه الأثناء، بدأت القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة، التعاون مع حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لتنسيق عمليات الإغاثة ومساعدة الناجين من الكوارث. وسُرعان ما دخلت روسيا على الخط، مع وصول نائب وزير الدفاع، يونس بك يفكيروف، إلى بنغازي في 16 سبتمبر مع فرق إنقاذ من موسكو. عقد يفكيروف اجتماعات مع حفتر وأبنائه لتنسيق الجهود الروسية في درنة، حيث وصلت بالفعل فرق تركية، ومالطية، ويونانية، وإيطالية، وفرنسية.
ومع استمرار عمليات البحث والإنقاذ وبدء المشاورات الثنائية بين حفتر والدول المعنية، أعلن أسامة حماد، رئيس الوزراء المُعين من قِبل البرلمان والموالي لعائلة حفتر، عن عقد مؤتمر لإعادة إعمار درنة.
كان من المُقرر عقد المؤتمر في أكتوبر، إلا أنه تم تأجيله مرتين، قبل أن يُعقد في نهاية المطاف في نوفمبر الماضي.
أحد مستشاري حماد قال لـ«مدى مصر» إن التأخير يرجع إلى خلافات بين حفتر وعقيلة صالح من جهة، والقوى الغربية من جهة أخرى، حول الجهة التي ستتولى الإشراف على إعادة الإعمار. طبقًا له، فإن حفتر أصر على أن تكون هذه العمليات تحت إشرافه.
اتضح هذا عندما أصدر حماد، في 27 سبتمبر، قرارًا دخل حيز التنفيذ في الأول من أكتوبر، بإنشاء صندوق لإعادة إعمار درنة والمناطق المتضررة من الفيضانات، متجاهلًا الجهاز الذي كان مجلس النواب يناقشه وتأسس بالفعل في 3 أكتوبر الماضي. وصدر قرار لاحق بتعيين بلقاسم خليفة حفتر مديرًا تنفيذيًا لصندوق حماد الجديد، والذي مُنح سلطة كاملة لجهود إعادة الإعمار، وحظى بصلاحيات واسعة لإدارته. وفقد الصندوق الذي أسسه البرلمان أهميته في ظل قرار حماد الذي دعمته القيادة العامة.
لكن بلقاسم لم يكن يقنع بمدينة درنة ومنطقة الجبل الأخضر فقط.
بقية التقرير على موقع "مدى مصر".