في ليبيا، حكم العائلة لم ينته بسقوط القذافي

ما بين المعارك بين الدبيبة وباشاغا وعودة سيف الاسلام القذافي للظهور بقوة، يثار سؤال تداعيات هذه "اللعبة" على مسارات الأزمة السياسية والأمنية الخطيرة في بلد يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية واجتماعية وصراع طاحن عليه، دولي واقليمي، على الرغم من - أو ربما بسبب - الثروات الهائلة التي يتمتع بها.. ولقد احتلت ليبيا المرتبة 171 من 180 دولة في مؤشر الشفافية الصادر عام 2017.
2022-07-20

صغيّر الحيدري

صحافي من تونس


شارك
ميليشيات بمسمى جيوش

لا تزال ليبيا تُكابد للخروج من نفق المراحل الانتقالية التي دخلتها عقب الإطاحة بالعقيد معمر القذافي إثر انتفاضة على حكمه في 2011 وتدخل واسع من حلف شمال الأطلسي (الناتو). ما زال الليبيون يعجزون عن إيجاد بدائل للوضع الراهن الذي يتسم بتنافس محموم بين عدة قوى دولية واقليمية تتدخل في بلدهم لتعزيز نفوذ كل طرف فيها، كما يتسم باعتماد قادة ليبيا الجدد على العائلة كملاذ لترسيخ حكمهم ونفوذهم.

مقالات ذات صلة

وتلك كانت أيضاً خاصية تسم حكم القذافي نفسه. يقول عبد السلام جلود رئيس الوزراء الليبي الأسبق (16 تموز/يوليو 1972- 2 أذار/مارس 1977) أن القذافي رفض ارسال الليبيين للدراسة في الخارج: "كنت أقول حينما يعود الطلبة إلى ليبيا بعد إنهاء دراستهم الجامعية والعليا سوف يحولون البلاد إلى جنة على وجه الأرض، لكن الطاغية (القذافي) تنبه إلى ذلك وأعلن أن النفط ملك له ولأولاده وتبنى سياسة التخويف والتجهيل والإفقار"(1).

وعلى الرغم من أن شهادة جلود لا يمكن الاعتماد عليها كثيراً، خاصة أن الرجل تنكر للقذافي دون أن يلمح لأي مسؤولية تقع عليه ودون القيام مراجعات تُذكر، إلا أن القذافي مكّن فعلاً أبنائه من مناصب مرموقة ونفوذ أفضيا في نهاية المطاف إلى مزيد من تفشي الفساد.

الدبيبة وصهره وإبن صهره

يُجسّد رئيس "حكومة الوحدة الوطنية"، عبد الحميد الدبيبة، الذي ظهر كطرف بارز في المعادلة السياسية في البلاد، أبرز مثال على بقاء حكم العائلة في ليبيا، حيث نجح الرجل - الذي يتهمه خصومه بالفساد وبتكريس الاستقواء بالميليشيات المتمركزة غرب البلاد بمواجهتهم - في تثبيت نفسه في منصبه على الرغم من تصويت البرلمان على سحب الثقة منه وتكليف وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا بخلافته.

ومن المفارقات أن الدبيبة قد تعهد خلال تقديم ترشحه لرئاسة الوزراء بعدم الترشح للانتخابات التي ستعمل حكومته على تأمينها، لكنه قدّم أوراق ترشحه لرئاسة البلاد في الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021.

وفَشِلَ خصمه باشاغا (60 عاماً) في دخول العاصمة طرابلس وتسلّم السلطة على الرغم من أنه مدعوم داخلياً من الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر، ومن البرلمان في طبرق شرقي البلاد، وخارجياً من روسيا ومصر.. ما سلط الضوء على الدبيبة (63 عاماً)، وعلى الأسباب الكامنة وراء نجاحه في تثبيت نفسه في السلطة على الرغم من أنه على أرض الواقع لم يعد يُسيطر إلا على العاصمة وأجزاء قليلة من المنطقة الغربية.

عائلة الدبيبة من أبرز العائلات التي استغلت فورة المشاريع الصناعية والاقتصادية في مدينة مصراتة المتميزة بموقع استراتيجي كونها تقع في مفترق طريق التجارة عبر الصحراء، ولكونها أيضاً مهمة على مستوى التجارة البحرية، ما أهّل المدينة للعب دور حيوي في تشكيل المشهد العام والسياسي في البلاد.

فالرجل الذي يتحدر من مدينة مصراتة (208 كلم عن العاصمة طرابلس) المعروفة بثقلها الاقتصادي والعسكري في المشهد الليبي، نجح في استمالة تشكيلات مسلحة بارزة، ويعتمد بشكل كبير على العائلة في تثبيت أركان حكمه، وخاصة صهره علي الدبيبة الذي شغل في وقت سابق عدة مناصب في الدولة الليبية، وشارك في ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس – جنيف كعضو فيه، وهو الملتقى الذي عُقد برعاية أممية وصوت لصالح القائمة التي ضمت عبد الحميد الدبيبة، وأفرز القيادة الحالية في ليبيا.

ولم يعد خافياً على الليبيين من المعسكرين، الداعم لحكومة طرابلس أو الداعم للحكومة المنبثقة عن البرلمان، تدخل عائلة الدبيبة في إدارة الشأن العام مستفيدة من الثورات التي كدستها والعلاقات الداخلية والخارجية التي نجحت في توطيدها.

وبدا ذلك جلياً عندما خرج علي الدبيبة في أيار/مايو 2022 أمام أهالي مدينة الزاوية غربي البلاد ليشكرهم على دعم رئيس الحكومة في طرابلس في مواجهة خصومه قائلاً "أسرتنا لن تنسى لأهالي الزاوية وقوفكم مع عبد الحميد الدبيبة".

لكن اعتماد الدبيبة على أفراد أسرته لم يتوقف عند حدود صهره بل هو يعتمد كثيرا على إبن صهره إبراهيم الذي سارع رئيس حكومة الوحدة الوطنية إلى تعيينه مستشاراً لديه منذ توليه السلطة في أذار/مارس 2021. وذكرت مواقع أجنبية أن إبراهيم خاض مفاوضات غير معلنة مع ممثلين عن حفتر من ضمنهم ابن هذا الأخير، بلقاسم، في وقت سابق من العام الجاري في العاصمة الفرنسية باريس حول الأزمة السياسية المرتبطة بالصراع على السلطة التنفيذية (2).

وعائلة الدبيبة هي من أبرز العائلات التي استغلت فورة المشاريع الصناعية والاقتصادية في مدينة مصراتة المتميزة بموقع استراتيجي كونها تقع في مفترق طريق التجارة عبر الصحراء، ولكونها أيضاً مهمة على مستوى التجارة البحرية، ما أهّل المدينة للعب دور حيوي في تشكيل المشهد العام والسياسي في البلاد.

وكان الدبيبة، وهو مهندس، قد بدأ بالعمل في قطاع البناء والمقاولات ما مكّنه من مراكمة ثروته بالتعاون مع صهره. ودرس الرجل تقنيات التخطيط والبناء في جامعة تورنتو الكندية حيث نال هناك الماجستير التي اتهمه خصومه بتزويرها عند تقديم أوراق ترشحه إلى الرئاسة.

وكان قد تولى عدة مناصب حكومية خلال فترة القذافي، من أهمها إدارة "الشركة الليبية للتنمية والاستثمار"، وأشرف من خلالها على عدة مشاريع من ابرزها مشروع بناء ألف مسكن في مدينة سرت التي تربط شرق البلاد بغربها، وهي مسقط رأس العقيد الراحل.

باشاغا وحفتر على خطى الدبيبة

في الواقع، ليس الدبيبة وحده من يعمل على ترسيخ حكم العائلة مجدداً في ليبيا، فحفتر يعتمد على أبنائه، وفي مقدمتهم صدام حفتر، لمساعدته في أداء دوريه السياسي والعسكري، في حين لا يختلف باشاغا في شيء عن هؤلاء، وهو كذلك يتحدر من مصراتة ويُعتبر أحد أبرز منافسي عائلة الدبيبة الثرية، ويحاول تقديم نفسه كبديل عن رئيس الحكومة الحالية.

وعكس ذلك بوضوح محاولة باشاغا الأخيرة الدخول إلى طرابلس في ساعات مبكرة من السابع عشر من أيار/مايو 2022، حيث اعتمد الرجل على مصطفى قدور، آمر "كتيبة النواصي" (كتيبة "القوة الثامنة" المعروفة بالنواصي والمتمركزة في العاصمة طرابلس)، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس جهاز الاستخبارات، والذي يمتلك صلات وروابط عائلية بحافظ قدور المعيّن من قبل باشاغا وزيراً للخارجية في حكومته الجديدة. وهناك عدد كبير نسبياً من وزرائه من أقرباء نواب في البرلمان وهو ما يعكس خضوع حكومته للمقايضة التي قام بها بعض النواب مقابل التصويت له.

أصاب ليبيا شرخ اجتماعي عميق بعد الإطاحة بالقذافي، ومهاجمة وتهجير أهالي عدة مناطق على غرار تاورغاء (غرب) التي هوجمت من قبل مصراتة المجاورة، ما تسبب بتهجير أكثر من 75 ألف من سكان المدينة إلى شرق البلاد أو إلى مخيمات في طرابلس وغيرها. الروابط العائلية والنزعة القبلية بالغة التمكن في البلاد، وهو ما يفسر المخاوف من عودة الحكم الاستبدادي لأن الأقرباء والمستشارين يشجعون عادة القادة على الجنوح نحو الاستبداد (3).

ليس الدبيبة وحده من يعمل على ترسيخ حكم العائلة مجدداً في ليبيا، فحفتر يعتمد على أبنائه، وفي مقدمتهم صدام حفتر، لمساعدته في أداء دوريه السياسي والعسكري، في حين لا يختلف باشاغا في شيء عن هؤلاء، وهو كذلك يتحدر من مصراتة ويُعتبر أحد أبرز منافسي عائلة الدبيبة الثرية، ويحاول تقديم نفسه كبديل عن رئيس الحكومة الحالية.

وطُرحت هذه المسألة بشدة عند عودة سيف الإسلام القذافي (50 عاماً) إلى الواجهة بإعلان ترشحه إلى الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021، لكنها قُوضت. فعودة القذافي وورفع صوره من قبل أنصاره في مدن مثل سبها (جنوب) - إلى جانب الرايات الخضراء التي ترمز لحقبة الـ 42 سنة من حكم أبيه - أثارت أسئلة حول إمكانية عودة حكم عائلة القذافي، لاسيما وأن الرجل مدعوم دولياً بقوة من قبل روسيا التي تفرض نفسها رقماً صعباً في المعادلة الليبية.

تعميق الأزمة

ما هي تداعيات هذه اللعبة على مسارات الأزمة السياسية والأمنية الخطيرة في بلد يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية واجتماعية على الرغم من الثروات الهائلة التي يتمتع بها؟ ولقد احتلت ليبيا المرتبة 171 من 180 دولة في مؤشر الشفافية الصادر عام 2017 (4).

أصاب ليبيا شرخ اجتماعي عميق بعد الإطاحة بحكم القذافي، حين هوجم وهجّر أهالي عدة مناطق، على غرار تاورغاء (غرب) التي هوجمت من قبل مصراتة المجاورة، ما تسبب بتهجير أكثر من 75 ألف من سكان المدينة إلى شرق البلاد أو إلى مخيمات في طرابلس وغيرها. فالروابط العائلية والنزعة القبلية بالغة التمكن في البلاد. 

وقد فشلت المحادثات الدستورية كما غيرها من جولات الحوار السياسي بين الفرقاء في تعبيد الطريق أمام الانتخابات بشقيها الرئاسي والبرلماني، وانتهى في 22 حزيران/ يونيو الفائت العمل بخارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي في تونس-جنيف، والذي رعته الأمم المتحدة دون تحقيق هدفه في إجراء الانتخابات، ما يعزز الصراع داخل البلاد في ظل انسداد افق تام يتيح لعدد من الفاعلين على الساحة الترويج لفكرة العودة إلى الفيدرالية والملكية ودستور 1951 أو الحنين إلى حكم الرجل الواحد حيث الاستقرار والامتيازات الاقتصادية. وهذه تعد أخف الحلول ضرراً بنظر الداعين إليها في ظل حالة الانسداد الراهنة، ولكنها تصطدم بعدة عقبات تحول دون تحققها في مقدمتها تبدل الظروف وغياب قابلية هذه الفكرة لدى القوى الدولية والاقليمية المتدخلة في الشأن الليبي، ناهيك على أن العودة إلى الدستور المذكور يحتم المرور باستفتاء سيكون من الصعب نجاحه... 

______________

1 –عبد السلام أحمد جلود، الملحمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021، ص 73.
2 –https://bit.ly/3ROjgzy
3 – https://www.hrw.org/ar/news/2019/01/24/326430
4 – https://bit.ly/3ziZdSJ

مقالات من ليبيا

القاتل في ليبيا

2023-09-13

الليبيون يعرفون أن المشكلة تكمن في مكان آخر: تنبأ بها عام 2022 تقريرٌ كتبته إدارة ليبيّة شبحيّة: "يجب علينا بشكل عاجل صيانة وتقوية سدَّي درنة، وهناك حاجة إلى سدّ ثالث،...

للكاتب نفسه