الجفاف والبطيخ والأفوكادو وعصابة لصوص الماء في المغرب

ثلثي المنطقة العربية على رأس الدّول الأكثر عرضة للإجهاد المائي في العالم. فمن هم لصوص الماء في المغرب؟ ومن المذنب؟ ومن الضّحية في زمن العطش؟ يؤدي نقص المياه إلى تراجع الإنتاج الزّراعي، وهو ما يهدد الأمن الغذائي، ويؤثر في دخل الفلاحين، الذين كانوا صامدين من قبل، وبدأت أعداد كبيرة منهم بالهجرة إلى المدن. لكن العطش كائنٌ متمدّد، والمدن لا تسبح في الماء، بل تعاني هي أيضاً من قلته.
2024-09-09

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
أراض عطشى في المغرب

أفردت الحكومة للماء وزارة، وأحدثت له قسم شرطة متخصص، وأطلقت حملات متفرّقة لترشيد استهلاكه. حضر الماء في جلّ المشاكل الاجتماعية، والأزمات الاقتصادية، خالقاً بؤرة توتر مستمرة، لكنها لم تجد حلاً يليق بخطورتها الوشيكةَ الفَادحة. وخصّص الملك المغربي ثُلثيْ خطابٍ محوري في فترة ملكه، عند احتفاله برُبع قرن من المُلك، للماء. هل من دليلٍ آخر على وقوف المغرب على حافّة العطش؟

نعم، تصنيفه مؤخراً في "المنطقة الحمراء" في سلّم العطش، بعد أن سكن طويلاً "المنطقة البرتقالية". صحيح أنّه ليس الأسوأ وضعاً، بما أنه يحتل الرتبة الثانية عشرة عربياً في سلم العطش، لكنه الثاني والعشرون عالمياً. بمعنى أن ثلثي المنطقة العربية على رأس الدّول الأكثر عرضة للإجهاد المائي في العالم. فمن هم لصوص الماء في المغرب؟ ومن المذنب؟ ومن الضّحية في زمن العطش؟

إهدار دم البطيخ الأحمر

يستهلك القطاع الزراعي في المغرب حوالي 85 في المئة من الموارد المائية، بسبب الاعتماد الكبير على الزراعة التقليدية، التي تتطلّب كمّيات كبيرة من المياه. لنقل إنّ أبرز أسباب الشّح المائي، الذي يهدد المغاربة، هي قلة الإنتاج وسوء التوزيع، ويكفي أحد السببين وحده، لينشئ أزمة.

في باب سوء التدبير، ما يفعله البطيخ الأحمر بماء المغاربة، لم تفعله السّنوات العجاف بمصر أيام "عزيزها". لكن لا ماءَ في وجهِ من تنادي. فلا تزال البلاد ثالث مُصدِّر للبطيخ الأحمر" في العالم، ولا يزال الفاكهة الصيفية الأولى، فالعرض موجود والسّعر منخفض. لكن ماذا يفعل العطشى أمام دمويّة الفاكهة، وشجعِ ضيعاتها (مشاريعها الزراعية) الكبرى، التي لا يدَ تمتد لنَهرِها عن نهب الماء؟

لم تهز الاحتجاجات الشعبية شعرةً من عرش البطّيخ الدموي. فأهلُ منطقة تعاني من شح المياه جراء استنزاف الفرشة المائية من قِبل ضيعات البطيخ الأحمر، هي "زاكورة"، في الجنوب الشّرقي للبلاد. ثاروا على ديكتاتورية مزارعي البطيخ عام 2017، بعد جفاف مياه بعض الآبار، التي كانوا يعتمدون عليها، وإبقائهم خارج مخططات إمدادات الماء والتطهير.

فيما احتج آخرون ضد غلاء فواتير المياه الصالحة للشرب، الأمر الذي أدى إلى مواجهات بين المحتجّين والسّلطات، أسفرت عن عددٍ من الاعتقالات والمحاكمات. مع العلم، أن البلاد كانت قد شهدت عدداً من الاحتجاجات المتفرقة في عشرات المناطق، بسبب قلة الماء الصالح للشرب أو انعدامه. لكن ثورة العطش في "زاكورة"، التي قادتها النساء منذ سبع سنوات، واستمرت عدة أشهر، لتكون الأضخم في زخمها، انتهت أو أُنهيت، ولا يزال البطيخ يمتصّ عروق الأرض.

يستهلك القطاع الزراعي في المغرب حوالي 85 في المئة من الموارد المائية، بسبب الاعتماد الكبير على الزراعة التقليدية، التي تتطلّب كمّيات كبيرة من المياه. لنقل إنّ أبرز أسباب الشّح المائي، الذي يهدد المغاربة، هي قلة الإنتاج وسوء التوزيع، ويكفي أحد السببين وحده، لينشئ أزمة.

المفارقة الملفتة، هي أن تكون نواحي "الجنوب الشّرقي"، التي هي في الأصل منطقة صحراوية يقلّ فيها منسوب الماء، هي عاصمة زراعة البطيخ الأحمر، الذي يُعتبر من المزروعات الأكثر استهلاكاً للماء، إلى جانب الأفوكادو.

سبب إقبال المزارعين في المنطقة على زراعة البطيخ، هو أنه ينمو بشكل جيد، بسبب المناخ الدافئ في فصل الشتاء. الأمر الذي يسمح للمنطقة بزراعة محصولين قبل بداية الموسم، في مدن مثل: "أكادير"، و"مراكش". ومن جهة أخرى، فزراعة هكتار مالبطيخ، مربحة أكثر من أي منتوج آخر، بسبب سرعة نموّه، مما حسّن من مستوى معيشة أهل المنطقة، كما لم يحدث من قبل.

وقصة الأفوكادو هي نفسها قصة البطيخ. فاكتشاف الأرباح التي تدرّها زراعة هذه الفاكهة، التي لا يتجاوز عمر توطينها في المغرب العقدين، جعل الفلاحين يهرولون إلى زراعتها. خاصة أن معظم المحصول يُصدَّر إلى الخارج. لكنها مثل البطيخ، تستهلك كميات هائلة من الماء، في إنتاج كيلو غراماً واحد منها.

ماذا فعل "الحشيش" بالماء؟

لننظر إلى الجانب الآخر من البلاد، إلى "شفشاون" و"تاونات"، أقصى "منطقة الشمال"، بجبالها وخضرتها الخصبة. كلنا نتذكّر مأساة "ريان"، الطفل الذي سقط في الجب، ولم يخرج حيّاً منه، بالرغم من أدعية عشرات الملايين من جمهور النقل المباشر لجهود إنقاذه المَسرحية، وجرى تأخير إعلان الخبر المأساوي وامتصاص الغضب. لماذا الغضب؟ ليس سوى معرفة السبب: زراعة "القنّب الهندي"، تمتص مياه منطقة واسعة شمال المغرب، ومعظمها في محيط "شفشاون".

إذاً "الحشيش" لا يخرب عقل الإنسان فقط، بل يمتص ماءه. فأهل "ريان" حفروا البئر ثلاثين متراً، ولم يجدوا الماء، في منطقة تعرف تساقط الأمطار، وكانت تتّصف بوفرة المياه الجوفية. ذلك لأن زراعة "الحشيش" عرفت عدة متغيرات، مع دخول أنواع وأصناف أجنبية عالية الإنتاجية، كما تمّ إدخال تقنيات الري الحديثة، وهو ما أدى إلى زيادة الضغط على موارد المياه في المنطقة، إلى أن تم استنزافها.

الاحتجاجات ضد غلاء فواتير المياه الصالحة للشرب، أدت إلى مواجهات بين المحتجّين والسّلطات، أسفرت عن عددٍ من الاعتقالات والمحاكمات. شهدت البلاد عدداً من الاحتجاجات المتفرقة في عشرات المناطق، بسبب قلة الماء الصالح للشرب أو انعدامه. لكن ثورة العطش في "زاكورة"، التي قادتها النساء منذ سبع سنوات، واستمرت عدة أشهر، لتكون الأضخم في زخمها، انتهت أو أُنهيت.

ترتفع الأصوات بشكل متواتر، مطالِبة بالإعلان عن حالة طوارئ مائية، من أجل خلق قدر من التأهب لمواجهة خطر العطش، الذي لا يهدد الأمن الغذائي وإمدادات الماء الصالح للشرب فقط، بل الصحة العامة بسبب قلة الماء أو اللجوء إلى مصادر ملوثة.

تُظهر صورٌ نُشرت في بعض المواقع، الكيفية التي يتمّ بها استنزاف الموارد المائية لمناطق زراعة "الكيف"، من طرف مزارعي "القنب الهندي". فنرى مجموعةً من المضخّات على جانبي وادٍ تُسحب مياهه بشراهة، لسقي أراضي زراعة "القنب الهندي"، التي تبلغ آلاف الهيكتارات. وبسبب ذلك، لم تعد اليوم لمدنِ "تاونات"، و"شفشاون"، و"الحسيمة"، فرشةً مائية (الموارد المائية الجوفية)، كما أكد ذلك وزير التجهيز والماء.

مذنبون اعتياديون

خلفَ كلِّ عطشٍ ماءٌ كثير، لذا تعطَش الأرض لسببين: إذا استُنزف ماؤها، أو جفّت السماء فوقها. والمغرب يعيش الحالين، فتتفاقم أزمة نقص المياه، إحدى أكبر التحديات البيئية والاجتماعية التي تواجه البلاد، بسبب عدة عوامل طبيعية وبشرية.

المُلام الأوّل هو تأثير سنوات الجفاف المتكرّر على أزمة الماء في المغرب. وهو ما يقلل من موارد المياه السطحية والجوفية معاً، مع اعتماد البلاد على الأمطار الموسمية التي تقلّ بالتدريج. وهي إحدى تأثيرات التغيّرات المناخية، التي أدت إلى شحّ الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، فقلّ العرضُ وكثر الطلب على الماء. كما يزيد ارتفاع درجة الحرارة من تبخر المياه من السّدود والأنهار، ويقلّل من إعادة تغذية المياه الجوفية.

"الحشيش" لا يخرب عقل الإنسان فقط، بل يمتص ماءه. فأهل "ريان" حفروا البئر ثلاثين متراً، ولم يجدوا الماء، في منطقة تعرف تساقط الأمطار، وكانت تتّصف بوفرة المياه الجوفية. ذلك لأن زراعة "الحشيش" عرفت عدة متغيرات، مع دخول أنواع وأصناف أجنبية عالية الإنتاجية، كما تمّ إدخال تقنيات الري الحديثة، ما أدى إلى زيادة الضغط على موارد المياه في المنطقة، إلى أن استنزفت.

سوء التدبير مع النموّ السّكاني المستمر، الذي يضع مزيداً من الضّغط على الطلب على المياه، في كل من الشرب والزراعة والصناعة، خاصة في المدن الكبرى، والمناطق الزراعية. فيزيد سوء إدارة الموارد المائية التي تقل مع الزمن، الطّين جفافاً. ومع سوء الإدارة، يأتي الفساد، الذي يُبطل بعض الإجراءات التقشّفية، وقلّة الوعي الشّعبي بخطورة الوضع.

المُلام الثاني، هو سوء التدبير مع النموّ السّكاني المستمر، الذي يضع مزيداً من الضّغط على الطلب على المياه، في كل من الشرب والزراعة والصناعة، خاصة في المدن الكبرى، والمناطق الزراعية. فيزيد سوء إدارة الموارد المائية التي تقل مع الزمن، الطّين جفافاً. ومع سوء الإدارة، يأتي الفساد، الذي يُبطل بعض الإجراءات التقشّفية، وقلّة الوعي الشّعبي بخطورة الوضع.

في ظل نقص المياه السّطحية، ازداد الاعتماد على المياه الجوفية، مما أدى إلى استنزاف طبقاتها، وانخفاض مستوياتها بشكل خطر في بعض المناطق، حتى أن بعضها لم تعد له فرشة مائية، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، لأنّه آخر مصدر للماء. وبعده ما من شيء غير العطش التام، والهجرة الجماعية إلى المناطق الأقل جفافاً.

ما ينتج عن كل ذلك

بسبب كل ما سبق، يؤدي نقص المياه إلى تراجع الإنتاج الزّراعي، وهو ما يهدد الأمن الغذائي، ويؤثر في دخل الفلاحين، الذين كانوا صامدين من قبل، وبدأت أعداد كبيرة منهم فعلاً بالهجرة إلى المدن. لكن العطش كائنٌ متمدّد، والمدن لا تسبح في الماء، بل تعاني هي أيضاً من قلته. وبشكل خاص بعض المناطق الأكثر جفافاً، التي يجد أهلها صعوبة في الوصول إلى مياه الشرب، مما يؤثر على جودة الحياة والصحة العامة.

وليس خفياً أنّ ندرة المياه، يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص شديد في المياه.

حلول مستعجلة

ترتفع الأصوات بشكل متواتر، مطالِبة بالإعلان عن حالة طوارئ مائية، من أجل خلق قدر من التأهب لمواجهة خطر العطش، الذي لا يهدد الأمن الغذائي وإمدادات الماء الصالح للشرب فقط، بل الصحة العامة بسبب قلة الماء أو اللجوء إلى مصادر ملوثة.

أمام المسؤولين تحديات التطبيق الفعال لحلول سبقت إليها بلدان عريقة في العطش، وتدبير أزمة الماء، من خلال ترشيد استهلاك الموارد المائية في مستويات الاستهلاك كلها. وفي ظل التجارب العالمية، فأكثر الحلول نجاعة في الوقع الحالي، هو زيادة الاستثمار في مشاريع تحلية المياه، لتأمين موارد جديدة لمياه الشرب. وتسريع عملية إنشاء محطات تحلية مياه البحر، التي لا يتجاوز عددها الخمس عشرة محطة.

في ظل نقص المياه السّطحية، ازداد الاعتماد على المياه الجوفية، مما أدى إلى استنزاف طبقاتها، وانخفاض مستوياتها بشكل خطر في بعض المناطق، حتى أن بعضها لم تعد له فرشة مائية، وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، لأنّه آخر مصدر للماء. وبعده ما من شيء غير العطش التام، والهجرة الجماعية إلى المناطق الأقل جفافاً.

وكذلك، وبشكل أساسي، تطوير تقنيات الري الموفِّرة للمياه. بما أن معظم أصابع الاتهام تتجه إلى الزراعة، التي تمتص الكمية الأكبر من مياه البلاد، فتشجيع الزراعة الذكية، التي تعتمد على كميات أقل من المياه. وتكثيف جهود تخفيض عدد ضيعات "البطيخ"، التي هاجر بعضها بالفعل إلى "موريتانيا"، بحثاً عن موطن أكثر غزارة في المياه، وترحيباً بالفاكهة الشرهة.

ولا شك في أن على السلطات تكثيف حملات التوعية بأهمية الحفاظ على المياه، وتقليل الهدر في الاستخدام اليومي، خاصة في المدن الكبرى، مع المراقبة الدائمة للانتهاكات الكثيرة لإجراءات الترشيد... وذلك قبل فوات الأوان، وقبل بلوغ المراحل الأشد في الأزمة، خاصة في ظل انعدام أي مؤشر على أن الشتاء المقبل سيكون ممطراً، أم أنه، على الأرجح، سيضيف عاماً سابعاً إلى سنوات الجفاف العِجاف.

مقالات من المغرب

مستشفياتٌ للبيع: نحوَ خصخصة مُقَنَّعَة للصحة في المغرب

تقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً...

المغرب: البحر مشغول في الشمال

ابتداءً من شهر تموز/ يوليو، يتحوّل الشمال إلى الوجهة الشاطئية المنشودة لدى النسبة الأكبر من المغاربة، ولا يكاد يُسأل أحدهم إلى أين في الشمال، بالضبط، تشد الأسر رحالها؟ فالمهم أنه...

للكاتب نفسه

المغرب: البحر مشغول في الشمال

ابتداءً من شهر تموز/ يوليو، يتحوّل الشمال إلى الوجهة الشاطئية المنشودة لدى النسبة الأكبر من المغاربة، ولا يكاد يُسأل أحدهم إلى أين في الشمال، بالضبط، تشد الأسر رحالها؟ فالمهم أنه...

"ششش" يا غزالي .. لستُ ذئباً

النساء أكثر عرضة لسلوك الملاحقة المهووسة بنسبة تفوق الثمانين في المئة، ولا توجد أيَّةُ إحصائيات عندنا، سوى ما يتعلق بالعنف والتحرش الجنسي عامة. وغالباً يحدث ذلك في فترة قصيرة، مثل...