مستشفياتٌ للبيع: نحوَ خصخصة مُقَنَّعَة للصحة في المغرب

تقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً بتأجير هذه المستشفيات للدولة. والغاية من ذلك هي حصول هذه الأخيرة على سيولة مالية فورية، مقابل سدادها أقساطاً مستحقة، على المدى الطويل، لفائدة المستثمِرين (سواء الخواص أو الحكوميين)، بنسبة فائدة مغرية، وضمانات أداء منخفضة المخاطر بشكل كبير.
2024-07-22

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
مشفى ابن رشد الجامعي في المغرب

"يحضر خطر ما، وهو إمكانية تحويل هؤلاء المستثمرين لمساحة كبيرة من حديقة المستشفى إلى مصحة خاصة، والدولة في هذه الحال ليس لديها الحق في أن تعترض". كان هذا كلام "عزيز غالي" الخبير الصيدلاني ورئيس "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان"، المنشور كمقطع مصور في إحدى منصات التواصل الاجتماعي.

بدا على وجه الراكب، الذي شاركني هذا الرابط فور استقلاله للحافلة وجلوسه إلى جانبي، من دون معرفة مسبقة بيننا، متجهاً إلى مستشفى عمومي (حكومي)، بدا عليه القلق والحنق والخوف تجاه مآلات سياسة بيع الأصول العقارية لبعض المستشفيات الحكومية في المغرب. سرد لي كلاماً مفككاً حول ظروفه الاقتصادية المزرية وحاجته إلى الاستشفاء المجاني، من مرض مستعصٍ استهدف كبده. سكت قليلاً ليفرج عن سؤال يقض مضجع السواد الأعظم من المغاربة: "هل فعلاً ستباع كل مستشفياتنا العمومية؟".

مستشفياتٌ حكومية بيعَتْ بـ 8 مليار دولار

بدأت هذا العام عمليات غير مسبوقة لبيع الأصول العقارية (بل تفويتها) لمستشفيات عمومية/ حكومية. قامت "مديرية أملاك الدولة"، التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، في تنفيذ صيغة جديدة لاستغلال أملاك الدولة، وتحصيل سيولة مالية لفائدة الميزانية العمومية، وذلك من خلال اعتماد عمليات "تأجير طويلة الأمد" لأصول عقارية، عبارة عن مستشفيات ومراكز صحية في جهات عديدة من المغرب، لفائدة هيئتين للتوظيف الجماعي للقيم المنقولة[1](OPCI) ، وتشمل مؤسسات حكومية أبرزها CMR Stone التابعة لـ"الصندوق المغربي للتقاعد"، إلى جانب شركات استثمارية، من القطاع الخاص، مثل شركة "التجاري ريم".

تبدو هذه التفاصيل التقنية والمالية المذكورة آنفاً غير واضحة لقطاع مهم من المغاربة، بما في ذلك الراكب الذي التقيته في الحافلة. فبكل بساطة، ستقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً بتأجير هذه المستشفيات للدولة، من أجل حصولها على سيولة مالية فورية، مقابل أقساط مستحقة على المدى الطويل، لفائدة المستثمِرين (سواء الخواص أو الحكوميين)، بنسبة فائدة مغرية وضمانات أداء منخفضة المخاطر بشكل كبير.

على الرغم من التطمينات الحكومية، ومن عرض المكاسب التي تجنيها الدولة من هذه العملية، التي توفر لها مداخيل مالية، تصل إلى 81 مليار درهم (حوالي 8.1 مليار دولار)، فإن هذا الحل "المبتكَر" لا يعدو أن يكون تحايلاً على الخصخصة، وبمعنى أدق: خصخصة مقنَّعة لهذا القطاع الحيوي.

وشمل هذا البيع مستشفيات وعقارات مملوكة للدولة وتابعة لوزارة الصحة، مثل مستشفى الأم والطفل "بانيو"، والمركز الصحي "تولال" في مدينة "مكناس"، ومستشفى "مولاي يوسف الصوفي" في "الدار البيضاء"، وأصول عقارات صحية تقع في جهة الدار "البيضاء – سطات"، وغيرها من المقرات الصحية والاستشفائية. لم تكن عملية "ليز باك" هذه وليدة السنة، بل بدأت منذ عام 2019، إذ تم بيع 5 مراكز استشفائية جامعية، أُجِّرت لاحقاً لـ"الصندوق المغربي للتقاعد" (مؤسسة حكومية)، جنت من خلالها الدولة تمويلاً فورياً، بلغت قيمته 4.5 مليارات درهم (حوالي 450 مليون دولار).

بيد أن هذه الصفقات المالية، أثارت تساؤلات حول مآلات الخدمة الصحية العمومية في المستشفيات الحكومية، وهل هي فعلياً تجسيد حرفي لمسار الخصخصة الصريحة لقطاع الصحة العمومية؟

ليست خصخصة، بل مجرد "تمويل مبتكر"

حاولتُ أن أطمئن الراكب الجالس إلى جواري، بأن أسرد عليه ما ذكرته جهات صحية مختصة، وكانت بعيدة عن المخاوف المطروحة في الفيديو، الذي شاركني إياه في البداية، فالصفقة تؤكد أنها ستضمن المحافظة على دوام تقديم الخدمة الصحية في المستشفيات العمومية، كما أن هناك تطمينات حكومية، على عدم تغير وضعية المراكز والمستشفيات الصحية، خاصةً ما يتعلق منها باستقبال المرضى وتقديم العلاجات الضرورية، مع استقرار الأجهزة والأطقم الإدارية للمرافق المذكورة.

"حبيب كروم"، رئيس "الجمعية المغربية لعلوم التمريض والتقنيات الصحية"، هو واحد من الأصوات المدافعة عن هذه الخطوة التمويلية، إذ أكد في أكثر من تصريح صحافي بأن هذه العملية لا تكرِّس آليات الخصخصة، بقدر ما هي صفقة، تتم بين أجهزة ومؤسسات الدولة، أي إدارة أملاك الدولة ومؤسسة "الصندوق المغربي للتقاعد". يرى أنه "تمويل مبتكر"، يوفِّر مداخيل مضمونة ومنتظمة على شكل إيجار، "يفوق مردودها ما يمكن جَنْيُهُ من أرباح مالية في سوق النقد والسندات، ويؤمّن الأموال المستثمرة من الإخفاقات في حال الأزمات المالية العالمية".

ولتأكيد أهمية هذه الخطوة التمويلية، تفتخر الحكومة الحالية بأنها "أنعشت" خزينة الدولة، بما يزيد على 81 مليار درهم (حوالي 8.1 مليار دولار) ناتجة عن عمليات بيع أصول الدولة المتنوعة (مستشفيات/ شركات حكومية/ مباني حكومية ...) لبعض الصناديق السيادية، مثل "الصندوق المغربي للتقاعد"، و"صندوق الإيداع والتدبير"، وغيرهما من المؤسسات الحكومية، وذلك بدعوى فك أزمة الدولة المادية، من خلال ما أسمته بـ"التمويلات المبتكرة".

هذه الخطوة "خدعة"، لأنها بحسب الخبير الاقتصادي "نجيب اقصبي"، يتم فيها شراء وعاء عقاري لمستشفى حكومي من قبل مؤسسة حكومية لتؤجره لها، من خلال استعانتها بأموال دافعي الضرائب، من دون أن تخبرهم بتفاصيل هذه الصفقة، التي تمت على نحو سريع وشبه سري، إذ لم تُفصِح بشكل مفصّل عن الثمن، الذي ستدفعه مقابل إيجار المقرات التي كانت تمتلكها.

لكن هذا الكلام لا يبدو مقنعاً لمعارضي هذا الطرح، على الرغم من حضور قوي لجهات استثمارية حكومية في هذه الصفقة المالية، إلا أنه يجب ألّا نغض الطرف عن الشركات الخاصة. وهنا يُطرح سؤال مآلات الخدمة الصحية العمومية، التي تشوبها كثيرٌ من الأعطاب المزرية.

خصخصة مٌقَنّعة للصحة العمومية

تنهد الراكب قليلاً، بعد أن عرضتُ عليه تطمينات الجهات المختصة حول مآلات الخدمة الصحية العمومية، إذ لم يقنعه هذا المعطى، هو وسواه من الأصوات المنتقدة لهذه السياسة التمويلية، التي تراها جهات نقابية صحية بأنها "مستجد خطير"، وخطوة تعكس "التوجه الليبرالي المتوحش الرامي إلى التخلي التدريجي عن القطاع الصحي وخدماته الحيوية التي تعتبر أساس الدولة الاجتماعية".

وبما أن الجهات الحكومية والمدافعين عن هذه الصفقة ("ليز باك") يستبعدون أن تكون شكلاً من أشكال الخصخصة الصريحة للصحة العمومية، فإن الحقيقة والواقع يؤكدان ــ بلا مواربة ــ بأن هذا الحل المبتكر، لا يعدو أن يكون سوى تحايُلٍ على الخصخصة، وبمعنى أدق: خصخصة مقنَّعة لهذا القطاع الحيوي.

يتفق الخبير الاقتصادي "نجيب أقصبي"، وسواه من المنتقدين على أن هذا "الحل المبتكر" المسمى بـ"ليز باك" هو ضرب من ضروب الخصخصة المقنعة، فـ"أقصبي" يعتبره "أسوأ قرار اقتصادي اتخذته الحكومة"، إذ "سيرهن أصول الدولة إما للخواص أو لبعض الصناديق، وسيتجاوز بذلك قرار الخصخصة المعتمدة من قبل "حكومة التناوب"، التي تزعمها في وقتها أكبر حزب يساري في البلد. كما يرى بأن هذه الخطوة "خدعة"، لأنه بحسبه يتم فيها شراء وعاء عقاري لمستشفى حكومي، من قبل مؤسسة حكومية، لتؤجره لها من خلال استعانتها بأموال دافعي الضرائب، من دون أن تخبرهم بتفاصيل هذه الصفقة، التي تمت على نحو سريع وشبه سري، إذ لم تفصح بشكل مفصل عن الثمن، الذي ستدفعه مقابل إيجار المقرات، التي كانت تمتلكها.

ويلف هذه الصفقة غموضٌ، يخص مسار بيع هذه الأصول العقارية، فهل سيكون استراتيجياً أم أنه مرحلي؟ فالبيع الاستراتيجي يكون نهائياً، أي أن الدولة تبيع عقارها ولا يكون في ملكيتها، أي خصخصة صريحة، أما إذا كان مرحلياً، فيجب على الحكومة أن "تُفصح عن المدة التي التزمت بها لأداء كراء العقار بكل تجهيزاته ومرافقه". لكن يظل السؤال المهم في هذه الصفقة هو: من الرابح فيها؟

الجواب الأهم هو أن الخسارة ستكون في كل الأحوال على حساب جيوب المغاربة، فـ"إذا كانت الحكومة قامت بصفقة مربحة، فسيخسر حتماً صندوق التقاعد أي المتقاعدون المغاربة، وهذا أخذاً بعين الاعتبار أنه مفلس، وأما إذا كان العكس، وكانت الصفقة مربحة للصندوق فإن ذلك سيكون على حساب المغاربة أيضاً"، يقول "أقصبي".

وبعيداً عن كلام المدافعين والمنتقدين، الذي لن يشفي بالضرورة غليل هذا الراكب المريض، إذ يتخوف، هو وسواه، من تغوّل كلي للمصحات الخاصة واضطراره للاستشفاء فيها، في ظل ظروف سوسيو-اقتصادية صعبة يمر بها، لا تتيح له الاستفادة من تأمين صحي مجاني دائم ودعم حكومي منتظِم ("الحماية الاجتماعية")، حيث تعتري المشروع الحكومي أصلاً مشاكل تقنية وإدارية، تسببت في عدم تعميمه على كل فقراء المغرب.

______________________

  1. Organisme de Placement Collectif Immobilier

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه