أرسل إليَّ عمر رسالة، يقول فيها إن الحديقة أمام منزل جدته في القاهرة قد أزيلت تماماً. شعرتْ جدة عمر وجميع سكان البناية بالتعدي السافر على استثمارهم الأخضر طوال سنوات عيشهم في هذه المنطقة. هي منطقة "شيراتون"، في "مصر الجديدة". تنقلت جدة عمر بين سكن ابنتها في مدينة من بلد أخر وبين منزلها في القاهرة. عندما وصلت سيارة الأجرة إلى أمام البناية في القاهرة، قالت الجدة: "لم نصل بعد، الحديقة ليست هنا". ثم تأكدت أنها قد وصلت عندما تعرّفت على مدخل البناية، المكتوب عليه الرقم. ارتبك عمر، وهو برفقتها، حيث ظن أنها مشوشة لوهلة، لكنه هو الآخر لم يتعرف على المنطقة المحيطة ببناية جدته، ولم يكن متأكداً من وصولهم، لأنه هو الآخر لم يتعرف على المحيط به. بدأ عمر بعدها رحلة اكتشاف ما حدث، وقرر تسجيل عدد من المقابلات مع الجيران، ومع باحثين لمحاولة فهم ما يدور حول هذا التدمير، ونشر حلقته عن اختفاء الحديقة من أمام منزل جدته.
نزع الأشجار
يصف جيران عمر المسطّح أمام بنايتهم، الذي كان أصفرَ وصحراوياً، وأنهم قرروا في أوائل الألفية الثالثة أن يجعلوه أخضرَ تماماً، فجمعوا المال، وبدأوا باختيار الأشجار والأزهار التي يريدون أن يروها من شرفاتهم. وبدأ المنظر يظهر في أفلام السينما، وبدأوا يرون مقاطع الأفلام ومواقع التصوير تحت بنايتهم. وانتشرت الصور مع موجات الحر الشديد في مصر، التي أودت مؤخراً بحياة عدد من الاشخاص من دون وجود أرقام مؤكدة عن مجموع الوفيات في مصر بسبب تلك الموجة.
كيف تدير القاهرة مساحاتها الخضراء؟
21-06-2024
طبقاً لصورة تمت مشاركتُها في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، وهي من إنتاج "حلول للسياسات البديلة"، ومبنية على نتائج أبحاث علمية، نشرت في 2021 و2023. تظهر تراجع المساحات الخضراء في مصر، من 7.8 مليون متر مربع إلى 6.9 مليون متر مربع ما بين عامي2017 و 2020، ونحن في 2024، ونعلم فقط بالمشاهدة أنه تمّ تدمير أكثر من ذلك بكثير.
سبب أمني؟
يبحث كثيرون عن منطق لهذه الإزالة المتكررة للمسطحات الخضراء. وجاءت كثيرٌ من التفسيرات، وأولها أن هناك سبباً أمنيّاً، بعد الانقلاب العسكري في 2013 وتولي الجيش المصري إدارة البلاد بشكل غير مباشر، ثم بشكل مباشر، مع تحوّل "السيسي" إلى شخصية مدنية وتولّيه الحكم. وهي فترة تصاعدت فيها التظاهرات السريعة ضد النظام، من مؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين. وعليه تصاعدت الأقاويل حول أن هناك سبباً أمنيّاً، يرتبط بالأساس بوضوح الرؤية وزواياها، وعدم السماح لأحد بالاختباء. الأشجار تمنع الرؤية عن كاميرات المراقبة. وقد جاب عدد من التظاهرات الاعتراضية، رغم صدور قرار منع التظاهر رقم 107 لسنة 2013، وانتشرت في أنحاء البلاد، وفي عدد من المناطق في القاهرة والمحافظات، منها "حي المطرية"، وأحياء أخرى.
شهدت أحياء مصر ثورة 2011 ليس فقط بشكل سياسي، وإنما بإعطائها للناس نوعاً من التحكم في حياتهم اليومية، ونوعاً من تقرير المصير والاختيارات. عندما تكونت اللجان الشعبية في الأحياء المختلفة في مصر، في جميع أنحاء الجمهورية، كان هدفها الأول هو الحماية الفورية للأحياء من السرقات أو التعدي الإجرامي في فترة اختفاء الشرطة من الشوارع، خاصة بعد اندلاع عدد من الحرائق والسرقات.
يقول أحد جيران عمر، الذي أجرى معه مقابلة في بناية جدته: "خسرتُ الجنينة، ومبقاش عندي حاجة، بقه عندي الشقة بس".
هذه جملة مهمة، ومدلولها حقيقي. حيث تَجمّع السكان للاستثمار في فعل جماعي في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة في أحياء مثل: "شيراتون"، و"المقطم"، و"المعادي" و"القطامية"، على أن يشجّروا المناطق المعمرة حديثاً، ونجحوا في جمع المال، وفي تعيين شخص متخصص في الزراعة والعناية بالأشجار والزرع ولو بشكل مؤقت، ونقل إليهم الخبرة، سواء لأنفسهم أو لحارس العقار وعائلته. وهذا كله مجهود جماعي، وشَكّل علاقة السكان بالمكان. الشعور أن الملكية تنتقل من مجرد وحدة أو "شقة" سكنية في البناية إلى الامتداد إلى المحيط العمراني المُجرّد، وتحويله إلى محيط بيئي يتمتع به الناظرون والسكان والمارة.
لا أقصد بالملكية هنا، ملكية رأس المال، أو الامتلاك بشكل مادي، على الرغم من أنه مادي، لأن الحدائق والأشجار لها طبيعة وجود مادية، ولكن المقصود هنا هو نوع من الانتماء والاهتمام العميق بالبيئة وجعل المحيط في بناية مكاناً يسر الناظرين، ويحمي من حرارة الجو، ويحمي من الأمطار، كما يلطّف الأجواء ويجلب الطيور، ويساعد على توازن البيئة وزيادة "الأكسجين".
توفي حوالي ٥٠ سودانياً في مصر، وعلى الحدود المصرية مع دولة السودان، جراء موجات الحر الأخيرة في شهر حزيران/ يونيو 2024. هذا يعني احتمال وفاة أعدادٍ في "أسوان"، و"الأقصر"، و"قنا"، نظراً لوقوعهم في الدائرة الجغرافية نفسها، واحتمال إصابتهم بالحرارة الشديدة، وهذا قد يحدث في القريب العاجل.
تجمع السكان للاستثمار في فعل جماعي في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة في الأحياء، على أن يشجّروا المناطق المعمرة حديثاً، وجمعوا المال، وعينوا شخصاً متخصصاً في الزراعة والعناية بالأشجار والزرع، نقل إليهم الخبرة. وهذا مجهود جماعي، شكّل علاقة السكان بالمكان: الشعور أن الملكية تنتقل من مجرد "شقة" سكنية في البناية إلى المحيط العمراني المُجرّد، وتحويله إلى محيط بيئي يتمتع به الناظرون والسكان والمارة.
منذ تولي "السيسي" السلطة في حزيران/ يونيو عام 2014، حدثت تغييرات جغرافية وعمرانية وبيئية شديدة في مصر. ولا يمكن فصل تحليل وفهم ذلك عن السياق السياسي للفترة التي سبقتها، حين حدثت ثورة عام 2011 المصرية، التي أزاحت الرئيس "محمد حسني مبارك" وسلطته.
تقطع السلطة الأشجار، في أفعال مضادة لعدد من مواد الدستور المصري، وهي المادتان: 44 و45، والمادة 162 من "قانون العقوبات"، التي تقضي بمقاضاة الأفراد الذين يتلفون الأشجار في الأماكن العامة. ونلاحظ في خرائط الأقمار الصناعية التالية، الفروق في الشوارع والميادين الرئيسية، منها "ميدان الحجاز" حيث أزيلت الأشجار في عام 2020، لصالح مشروع توسعة الطرق في أحياء "مدينة نصر" و"مصر الجديدة". كما تم تغيير "ميدان التحرير" تماماً، بحيث لا يشمل بعد على أشجار ومسطحات خضراء مثلما كان في السابق. ونلاحظ ذلك في "حديقة الميريلاند"، ومنطقة "الشيراتون" في القاهرة.
نزع الأهلية
منذ تولي "السيسي" السلطة في حزيران/ يونيو عام 2014، حدثت تغييرات جغرافية وعمرانية وبيئية شديدة في مصر. ولا يمكن فصل تحليل وفهم ذلك عن السياق السياسي للفترة التي تسبقها، والتي حدثت فيها ثورة عام 2011 المصرية، التي أزاحت الرئيس "محمد حسني مبارك" وسلطته.
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/1)
25-01-2021
القاهرة في عشر سنوات... هل نعرفها؟ (2/2)
01-02-2021
شهدت أحياء مصر وشوارعها ثورة 2011 ليس فقط بشكل سياسي، وإنما بإعطائها للناس نوعاً من التحكم في حياتهم اليومية، ونوعاً من تقرير المصير والاختيارات. عندما تكونت اللجان الشعبية في الأحياء المختلفة في مصر، في جميع أنحاء الجمهورية، كان هدفها الأول هو الحماية الفورية للأحياء من السرقات أو التعدي الإجرامي في فترة اختفاء الشرطة المصرية من الشوارع، خاصة بعد اندلاع عدد من الحرائق والسرقات، مثل تلك التي حدثت في "حي بولاق أبو العلا" في "المركز التجاري أركيديا" في الأيام الأولى للثورة.
امتدت أدوار اللجان الشعبية في أنحاء مصر، لتشمل اهتماماً داخلياً بالحي والسكان والمناطق. يعتبر الدور الذي قام به السكان سوياً عبر اجتماعات، تغييراً سياسياً واجتماعيّاً في مصر، حيث قرر هؤلاء المشاركة في إدارة شؤون المجتمع المحلي. وفي اجتماعات عدة، حضرتُ بعضها بنفسي في عامي 2011 و2012، حصل نقاش حول دور اللجان الشعبية وكيف يمكنها القيام بعدة مهام، منها: التوعية بدور المحليات، التوعية بالحقوق من مرافق ونظافة وخدمات عمرانية مختلفة في كل شوارع الأحياء، رصد لمشاكل المنطقة والقصور العمراني فيها، التفكير في حلول للمشاكل العمرانية بشكل سياسي، ويتضمن ميزانيات واقتراحات فعالة للوضع القائم. كما جرى نقاش أيضاً في تجميع وحصر المهارات المتاحة محلياً على مستوي المنطقة، ولعب دور في التنسيق مع الأحزاب الفعالة، ومطالبة هؤلاء بتقديم استجوابات وطلبات في مجلسي "الشعب"، و"الشورى". وكان هناك أيضاً دور سياسي واضح في خلق قواعد بيانات عن مشاكل المحليات لوضع برنامج انتخابي لها. حدث بالفعل تشبيك بين عدد من المستويات المحلية والوطنية في الدور السياسي الفعال، الذي يمكن أن يقوم به كل مستوى، بحسب المهام المطلوبة والتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي المطلوب.
صار إنهاء هذه الظاهرة أمراً ضرورياً مع وقوع الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013، وقد أيقنت السلطة أنه يجب إنهاء هذا النوع من الحريات التنظيمية المدنية. وبدأت بسحبها ومنعها واحدة تلو الأخرى، بدءاً من التظاهر، إلى العقوبات المستمرة بالسجن من دون محاكمات عادلة، أو من دون محاكمات بالمرة.
العاصمة الإدارية في مصر: مدينة النخبة المغلقة
03-08-2023
بانيين مخالف ليه؟
28-09-2021
"المنفعة العامة": حين لا يملك المواطن شيئاً في وطنه
14-04-2022
ثم وُضعت خطة كبرى لتغيير وجه مصر، تتضمن مشاريع عملاقة، منها توسيع قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة، ومدينة العلمين الجديدة، وعدد من مدن الجيل الرابع في العديد من محافظات مصر. هذا إلى جانب انتزاع عدد من الأراضي والعقارات، سواء بدعوى أنها ملك للدولة، أو بدعوى أنها عقارات مخالفة في البناء. ولم تكن هذه فقط هي المشاريع المطروحة. وكان هناك مشروع ضخم لتوسعة الطرق يضم تنفيذ خمسة آلاف كيلو متراً، وهو ما تم تنفيذه بحجة توفير سيولة مرورية للسيارات، وهذا حدث خصوصاً في الأحياء التي سوف تساعد على الوصول إلى المدن الجديدة. وهو ما أدى إلى نزع كمية الأشجار الموجودة في أنحاء المدينة والمدن الأصغر، التي تتضمن "الإسكندرية"، و"المنصورة" وغيرهما. أما داخل حديقة "الميريلاند"، أو حديقة "قصر عابدين"، فقد أُعطيت الأولوية للخرسانة بشكل مباشر. الخرسانة بكامل مسطحاتها لبناء أكشاك تجارية لنوع معين من الشركات، ومعظمها هي استثمارات للجيش.
هذا ما حدث في مصر. ولم يهتم مسؤول واحد في السلطة بتوضيح سبب إزالة الأشجار والمسطحات الخضراء. وهو تهاون واستهتار مباشر بالمواطنين وبالمواضيع التي تشغلهم. لكننا نستطيع أن نرى النتائج المباشرة على البيئة جراء هذه القرارات، من ارتفاع لدرجات الحرارة، والأحوال النفسية السيئة، التي تصيب الناس جراء النظر إلى مسطحات صفراء، تحمل معها كل معاني الهدم والتدمير، ولا يوجد ما يُبنى لحياتهم اليومية أو الاهتمام بما يشهدونه في حياتهم اليومية في مناطقهم.
امتدت أدوار اللجان الشعبية في أنحاء مصر، لتشمل اهتماماً داخلياً بالحي والسكان والمناطق. الدور الذي قام به السكان سوياً عبر اجتماعات، هو تغيير سياسي واجتماعي، حيث قرر هؤلاء المشاركة في إدارة شؤون المجتمع المحلي. دار النقاش حول التوعية بدور المحليات، وبالحقوق من مرافق ونظافة وخدمات عمرانية مختلفة، ورصد لمشاكل المنطقة والقصور العمراني فيها، والتفكير في حلول للمشاكل العمرانية بشكل سياسي، يتضمن ميزانيات واقتراحات فعالة.
صار إنهاء ظاهرة اللجان الشعبية أمراً ضرورياً مع وقوع الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013، وقد أيقنت السلطة أنه يجب اجتثاث هذا النوع من الحريات التنظيمية المدنية، وبدأت بسحبها ومنعها واحدة تلو الأخرى، بدءاً من التظاهر، إلى العقوبات المستمرة بالسجن... ثم وضعت خطة كبرى لتغيير وجه مصر، تتضمن مشاريع عملاقة، منها توسيع قناة السويس، والعاصمة الإدارية الجديدة...
ما يحدث هو نزع مباشر لأهلية المواطنة، بمعناها الأوسع. من أن المواطنين يمكنهم اختيار شيء، بل والتحكم بعض الشيء في حياتهم اليومية. نزع صفة التحكم، والقول لهم بكل الأشكال المباشرة إن أهليتهم غير مهمة، بل ليس لهم أهلية. هم سجناء في وطن، لا يمتلكون فيه حق قرارات مصيرية ويومية في حياتهم العمرانية والبيئية المباشرة، وقد تم انتزاع أهليتهم، أو اعتبار آرائهم ليست ذات قيمة.
يعيش هؤلاء المواطنون تحت رحمة تغيير الأسعار، والبيئة، وعدم توافر الكهرباء، وتعريض حياتهم للخطر كل يوم، من دون القدرة على الاعتراض أو اللجوء إلى أيّ قوى سياسية مجتمعية يمكنها الاعتراض بشكل مباشر على قرارات السلطة. ولا تفسير لما يحدث إلّا بالاستعانة بفكرة "التراكم بالتهجير" لـ"ديفيد هارفي"، وهو الشق المادي الرأسمالي للجملة، حيث إن تراكم رأس المال لدى وزارة الدفاع بفضل ممتلكاتها يزداد من خلال الاستثمار في علامات تجارية، تحل محل كل الأشجار والمسطحات الخضراء. أو تحل محلها طرق وكباري تزيد من السيولة المرورية لتفعيل وتشغيل المدن الجديدة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، التي تصب أيضاً مكاسبها لصالح هيئة وزارة الدفاع المصرية.