أغنية العيد في اليمن: مهادنةُ الواقع واجتراحُ السعادة

تنوّعت مضامين أغاني العيد في اليمن، بِتَنَوُّعِ واقعها الاجتماعي ومحيطها الإنساني المتزامِن مع حلول العيد، إذ تعمل من خلال ارتباطها بتفاصيل الواقع على تجاوز إشكالاته، والتعاطي معه بنوعٍ من احتفاء السعادة والمسرة. كما تتعاطى مع كل معضلةٍ ــ لا سبيل إلى التغاضي عنها ــ بإحلال معانيها غير العيدية، أيّاً كانت، محل ما اعتادت عليه الأغنية من دلالات العيد وفرحة أيامه ولياليه.
2024-06-13

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
مجموعة فنانات وفنانين في صورة مشتركة يغنون للعيد

لا تقتصر مضامين أغنية العيد في اليمن على الاحتفاء بالعيد وتفاصيله، وإنما تشمل الإحالة على العادات والتقاليد الاجتماعية، التي تتواءم مع خصوصية العيد، وتمتد إلى استيعاب الواقع بإشكالاته المختلفة، ومن ثم تتجاوزه إلى أجواء العيد وما يليق به من صناعة الفرحة والسعادة.

"آنستنا يا عيد"

على تعدد أغاني العيد في اليمن، إلّا أن أغنيته الرسمية هي "آنستنا يا عيد"! على امتداد نصف قرنٍ من الزمن، ومنذ اللحظة الأولى التي تخلّقتْ فيها فكرةً، في ليلةٍ عيدية عام 1964، على هامش مقيلٍ جمَع الشاعر الراحل "عباس محمد المطاع" (1928 ــ 1993)، والفنان الراحل "علي بن علي الآنسي" (1933 ــ 1981)، والمذيع "حسين الجبري".

وبحسب إشارة الدكتور "إبراهيم أبو طالب" إلى تلك الليلة، فقد ناقش فيها ثلاثتُهم (الفنان، والشاعر، والمذيع) حاجة الجمهور اليمني إلى أغنية خاصة بالعيد، فكتب الشاعر "المطاع" كلمات الأغنية، وقام الفنان "الآنسي" بتلحينها في الليلة نفسها، ثم تم بثُّها من إذاعة صنعاء صباح اليوم التالي، الذي كان صباحَ يوم عيد.

بعدها اعْتُمدت هذه الأغنية في التلفزيون والإذاعات الرسمية، التي داومت على بثها كل عيد، حتى رسخت في الذهنية الجمعية، واستمرتْ طقساً عيديّاً رئيساً، وأيقونةً فنية تبثُّها وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، ويتردد صوتُها احتفاءً بالعيد في المنازل، ووسائل النقل، والهواتف المحمولة، ولقاءات التهاني العيدية.

مقالات ذات صلة

ولهذه الرمزية العيدية التي وصلت إليها هذه الأغنية في الذائقة الاجتماعية، فقد أعاد كثير من الفنانين والمنشدين غناءها، كالفنان "فؤاد الكبسي"، و"حسين محب"، و"فؤاد عبد الواحد"، و"عمر ياسين"، وعدد من الفرق الفنية. وعلى ذلك، فقد ظلّت أكثر تجليّاً في أدائها الأول بصوت الفنان "علي الآنسي".

نسيج القِيَم العيدية

تقوم أغنية "الآنسي" على خطابٍ موجّهٍ إلى الفرد، مع ضِمْنِيّةِ الغاية الجَمْعيَّة الشاملة؛ إذ تبدأ بالحثّ على التأمُّل في توالي الأيّام والسخرية منها، والتعالي على ما تحْمِلُه من معاناة وهموم، وانتهاز العيد في اجتراح فرحته وسعادة أيّامه:

"اضحكْ على الأيام ** وابْرِدْ([1]) من الأوهامْ

وامْرَحْ مع الأنغام ** وافرحْ بهذا العيدْ

آنسْتَنا يا عيدْ"

ثم تنطلق إلى تفاصيل العيد، وما ينبغي أن تسير عليه العلاقة بين أفراد المجتمع، من التزاور بين الأهل والأصدقاء، والتسامح بين المتخاصمين:

"عَدُوَّك اضْحكْ لِهْ ** وانْ كانْ عَدِيْمْ دِلّه([2])

ومَنْ حِنِقْ قُلّهْ ** مُشْ وقتْ يا اخيْ عِيدْ"

وإلى ذلك، تتعدد العادات والتقاليد والقيم العيدية والاجتماعية، التي تحيل عليها مضامين الأغنية، كإحياء عدد من الممارسات الإيجابية، وتمثُّل مشاعر السعادة، والمحافظة على بشاشة اللقاء، والألفة بين الناس، وبثّ روح المحبة والسلام، والدعوة إلى الأخلاق الكريمة، كصلة الأرحام والعطف على المحتاجين.

خصائص موضوعية وفنية

تحظى هذه الأغنية بمكانةٍ خاصة لدى اليمنيين، فهي على مستوى عالٍ من الشيوع والانتشار والحضور المتجدد في مناسبة العيد. وتقف وراء ذلك عددٌ من الخصائص الموضوعية التي اتسمت بها، وفي مقدمتها ملامسة المعاني الإنسانية والروحانية ذات العلاقة الجوهرية بالمناسبة، من خلال تفاصيل الحياة اليمنية، والتعبير عن يوميات الناس وما يعيشونه من معاناةٍ وهمٍّ وكآبة. وتأسيساً على هذه التفاصيل، تأتي غايتها المتمثّلة في الحث على تجاوز صور المعاناة المختلفة، وتأجيلها والاستئناس بنقيضها من ألوان السعادة والفرحة.

وفي سياق ذلك، تأتي خصائصها الفنية، كاعتمادها اللهجة الصنعانية البسيطة الواضحة، واختيار مقامها الموسيقي "البيات" المتصل بالغناء التقليدي، بما هو عليه من بساطةٍ في إيقاع اللحن المستمد من تراث الغناء الصنعاني. وهي ترتبط بعيدي "الفطر" و"الأضحى".

تنوُّع الدلالة العيدية

يقوم الاحتفاء في أغنية العيد اليمنية، على التنوع بين الفرحة الخالصة، والفرحة الموحية بارتباطٍ واقعي وثيق، والفرحة ذات الامتداد الوطني العام. ومثلها اجتمعت، بنسبٍ متفاوتة، في أغنيات العيد الأخرى، التي تمايزت فيما بينها. في أغنيته "عيدك مبارك"، أقام الفنان "محمد الحرازي"، بُنيتها اللحنية على إيقاعٍ متنوعٍ بين الحزن والفرحة، كما تدرج مضمونها من الفرحة والسعادة الذاتية، إلى الفرحة العامة في سياقها الشعبي، وحيِّزها الوطني، الذي تغنّت بسعادته وعزّته.

ويتجلّى البُعد الاجتماعي في أغنية "العيد عيد العافية"، للفنان "محمد العماد"، إذ تتعاطى مع صورة الفقر الحائل دون اكتمال سعادة الفقير بالعيد، فاتخذت من هذه الحال مُنطلقاً إلى المعنى الكامن في نعمتي الصحة والعافية، اللتين لا تتجسد السعادة الحقيقية من دونهما في العيد وغير العيد.

كما يقوم الاحتفاء بالعيد في أغنية "اليوم عيد الهنا"، للفنان "محمد عبده زيدي"، على تعزيز قِيَم التزاور بين الأقارب والأصدقاء. والأمر ذاته في أغنية "يا عيد الأنس حيا بك"، التي اشترك في أدائها الفنان "حمود السمة"، والفنانة "ماريا قحطان".

وفي أغنية الموسيقار أحمد فتحي "يا فرحة العيد"، التي كتب كلماتها الشاعر والإعلامي "محمود الحاج"، تتجلّى الصيغة اللحنية بالأغاريد. كما تتكاثف فيها الدلالة على الفرد وسعادته.

وفي أغنية الفنان "كرامة مرسال (1946 ــ 2014)، التي كتب كلماتها الشاعر "غالب باعكابة"، تجسّدَ الاحتفاء بالعيد من خلال العاطفة بين حبيب وحبيبته، مع التعريج على سياقاتٍ اجتماعية معتادة.

وارتبط الاحتفاء بالعيد في أغنية "الله أكبر"، للفنان "أحمد بن أحمد قاسم"، بالبُعد الروحي، من خلال المعنى الديني، الذي تضمّنَتْه جملة العنوان التي تكررت في الأغنية. كما تتجلّى فيها قيمة التصالح والتسامح بين المتخاصمين.

وأحالت أغنية العيد عند الفنان "حسين محب"، على نوعٍ من الارتباط العيدي بالمكان/ الوطن، وفاعليته في إضفاء السعادة على طقوس العيد، فقامت أغنيته "ما عِيدْ إلّا في اليمن" على هذه الإحالة المكانية، التي ظهرت بصورةٍ تفصيلية في أغنيته العيدية الأخرى "قرّبي المبخرة"، التي يقوم الخطاب فيها على حديث الزوج مع زوجته، طالباً منها إعداد "المَبْخَرَة"، للاحتفاء بالعيد، في لحظةٍ متماهية مع الاحتفاء الاجتماعي .

وانتشر "زامل العيد"، في سياق الطفرة الفنية الحديثة، التي حظي بها هذا الفن الشعبي، واستوعب من خلالها مستجدات الصراع السياسي والحرب الدائرة في اليمن، فكان لهذه المستجدات بعضُ تجليّاتها في زامل "عيدك مبارك يا شعب اليمن عيد"، إذ ارتبط العيد فيه بمعاني النصر والتحرير.

كما انتشر في السنوات الأخيرة عدد من أغاني العيد في اليمن التي يغلب عليها الطابع الشبابي، ويؤديها فنانون صاعدون، وتتميز بحداثتها، التي تقوم على توظيف عنصر الصورة والمشاهد العيدية، والاستفادة من التقنيات الحديثة في عمليات الإنتاج الغنائي وإخراجه.

"كورونا" وأغنيته العيدية

من إشكالات الواقع التي تستوعبها أغنية العيد في اليمن، ما لا يمكن تجاوُزهُ بالتغاضي عنه. من ذلك أزمة "كوفيد 19" التي أفزعت الحياة البشرية عام 2020، فانعكس التعاطي معها في الحد من عادات العيد الاجتماعية وهو ما انعكس بدوره في معاني أغنية العيد، فبعد أن كانت تحث على التزاور والتماسك الاجتماعي صارت تحث على النقيض من ذلك، اتقاءً لتلك الكارثة الصحية؛ إذ كتب كلماتها الجديدة الشاعر عبد المجيد التركي، وغناها الفنان عبد الله الصعدي، ويبدأ مطلعها بالحث على البقاء في المنازل والابتعاد عن الناس:

"غلّقْ عليكْ بابَكْ ** وابعدْ من احبابَكْ

وقلْ لأصحابكْ ** ما بُشْ([3]) سلامْ في العيد

آنسْتَنا يا عيد"

"غزة" عيدٌ وأغنية

مع ما استجد من أحداث مأساوية في "غزة"، بعد السابع من تشرين الاول/ أكتوبر 2023، انعكس تأثيرُ ذلك في أغنية العيد في اليمن، فحملت معانٍ مُتَّسِقة مع تداعيات الألم الفلسطيني. إذ كتب كلمات أغنية العيد التضامنية مع "غزة" الشاعر أبو لوزة الفرزعي، وغناها مجموعة من الفنانين اليمنيين، بينهم اليوتيوبري "مصطفى المومري"، عنوانها "ما فيشْ فرَحْ يا عيدْ"، ومنها هذا المقطع:

"نضحكْ ونتْبَسّم ** والقلبْ يتْأَلّمْ

وحينْ نِتْسالَمْ ** غزةْ سلام العيدْ

ما فيشْ فرحةْ عيد.

في غزة الرُّضّعْ ** أشلاءْ تتْقَطّعْ

والله ما يُوْقَع ** نفرحْ ولو هُوْ عيدْ

ما فيْشْ فرَحْ يا عيدْ".

ويتضح أن التحوير المُتّسق مع متغيرات الواقع وأحداث اللحظة الصحية ومثلها المأساة الغزاوية، لم يستهدف سوى أغنية "آنستنا يا عيد"؛ وذلك بما هي عليه من شهرة وذيوعٍ، وترديدٍ يطّردُ طيلة أيام كل عيد في اليمن.

عيد الغربة والفراق

حينما لا يكون من الممكن مهادنة الذات لبؤس واقعها، وليس في مستطاعها اصطناع الفرحة، فإن أغنية العيد تتخلى عن التصالح مع الواقع إلى إفصاحها عن مرارة الحقيقة. من ذلك أغنية "العيد وصل"، للفنان "أيوب طارش العبسي":

"العيدْ وصَلْ كيف السرور يا عيد؟! ** خِلِّيْ بعيدْ ما فائدةْ من العيد؟!

أمْسِيْ وحيدْ وفي الفؤادْ ترديدْ ** آهاتي محروقةْ ودمعيْ مسكوبْ.

أمْسِيْ غريبْ، مَنْ للغريبْ يا ناسْ؟! ** قلبي تقطّع من زفير الأنفاسْ

يكاد يخرجْ من ضلوعي أنفاسْ ** ضُمُّوا على صدْريْ أكاد انا اموتْ.

فقد جسّدت معاني هذه الأغنية ما يتعلق بمرارة العيد، في الذات المسحوقة بتداعيات الغربة، سواءٌ في مفهوم الغربة العام المتعلق بالهجرة خارج الوطن، أو في مفهوم الغربة الخاص، الذي يحيل على الفراق والبعد بين الأحبة.

وبذلك، فقد تنوّعت مضامين أغنية العيد في اليمن، بِتَنَوُّعِ واقعها الاجتماعي ومحيطها الإنساني المتزامِن مع حلول العيد، إذ تعمل من خلال ارتباطها بتفاصيل الواقع على تجاوز إشكالاته، والتعاطي معه بنوعٍ من احتفاء السعادة والمسرة. كما تتعاطى مع كل معضلةٍ ــ لا سبيل إلى التغاضي عنها ــ بإحلال معانيها غير العيدية، أيّاً كانت، محل ما اعتادت عليه الأغنية من دلالات العيد وفرحة أيامه ولياليه.

______________________

  1. "ابْرِدْ": تأتي في المحكية اليمنية بمعنى "اتركْ".
  2. "عَدِيْمْ"، صفة تُطلق في المحكية، على الشخص النزق ذي الطباع الشرسة. والأغنية تحث على تبصيره بطريق الفرحة والسعادة العيدية.
  3. "ما بُشْ سلام": ليس هناك سلام، أي تصافح.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة...