ناقدةً أفلام الخيال «الأبوكاليبسية» في السينما الأمريكية، كتبت المخرجة والناقد الثقافية سوزان سونتاج قبل عقودٍ عن المجتمع الأمريكي: «نحن نعيش تحت تهديد مستمر من مصيرين مخيفين بنفس القدر، ولكن يبدو أنهما متعارضان: التفاهة المستمرة والرعب الذي لا يمكن تصوره. إنه خيال تقدمه السينما بحصص كبيرة، وهو ما يسمح لمعظم الناس بالتعامل مع هذين الشبحين التوأمين». تضع سونتاج، في مقالتها المرجعية «خيال الكارثة» (1965)، يدها على نقطة مركزيةٍ في النظام الفكري للرأسمالية، وربيبتها السينما التجارية، وهي الخوف والتخويف. فقد لعب بث الخوف دورًا أساسيًا في السيطرة على المجتمعات الليبرالية، حيث يكون للدولة وأجهزتها القمعية مجال ضيق للسيطرة المباشرة، لذلك تستند إلى الخوف بوصفه وسيلةً نفسية للسيطرة.
لكن الموجة الجديدة من أفلام النهايات في السينما الأمريكية ليست مجرد أدوات فنية شعبية للتخويف فقط، أو مجرد «جماليات دمارٍ» تترجم متعة شديدة في رؤية الصخب والضجيج، والجدران التي تتشقق والفوهات التي تنفتح بين الشوارع. بل تعبر أيضًا عن هاجس أمريكي باقتراب النهاية. لذلك تحاول دمج نهاية أمريكا بنهاية العالم، ذلك أن العالم في المتخيل الأمريكي، لا يعدو أن يكون كونًا أمريكيًا، ولا يمكن أن يتواصل وجوده في غياب الإمبراطورية الأمريكية. لكن هذا الهاجس بقرب النهاية يأخذ أحيانًا شعورًا بالتفكك الداخلي لأمريكا دونما أن تكون الإمبراطورية مهددةً بغزو خارجي أوفضائي أو إرهابي، كما تصور بعض الأفلام.
في الآونة الأخيرة، وبشكل أكثر من المعتاد، أصبح الشعور العميق بالانحدار والتفكك هو الذي يحدد المزاج الأمريكي. وذلك مع تزايد الاستقطاب السياسي، واعتقاد 43% من الأميركيين أن نشوب حرب أهلية حقيقية أمر محتمل. كما أظهر استطلاع للرأي، نشر في تشرين الأول الماضي، عن دعم واسع للعنف السياسي، حيث اتفق ما يقرب من ربع الأمريكيين على أن «الوطنيين قد يضطرون إلى اللجوء للعنف من أجل إنقاذ البلاد». فقد تركت سنوات ترامب، وطريقة مغادرته السلطة، صدمةً في نفوس الأمريكيين، ونزوعًا نحو توقع النهاية في شكلها البدائي وهو الحرب الأهلية. سيما وأن بزوغ الإمبراطورية كان بعد حربٍ أهليةٍ قاسية (1861-1865)، وربما تكون النهاية على يد حرب أهليةٍ جديدة، تحقق «كارما مكر التاريخ الدائري» للإمبرطوريات كما ترويه الكتب.
مجنونٌ أم ممثلٌ لأحد وجوه أمريكا
07-01-2021
لكن اللافت والطريف في الوقت نفسه، أن الحرب الأهلية الأمريكية الأولى، كانت مسبوقة بعدد كبير من الروايات التي توقعت حدوثها وتخيلت أحداثها، مثل رواية «الزعيم الحزبي» لبيفرلي تاكر (1864)، و«المشاهد الجنوبية البرية :قصة الانفصال وحرب الحدود» التي كتبها جون بوشامب جونز(1859). وربما تكون هذه الموجة الجديدة من أفلام الحرب الأهلية المتخيلة، التي نعرض عددًا منها، توقعًا بنهاية الإمبراطورية الأمريكية، تنطلق من حدس شعبي عامٍ مستندًا إلى الواقع الملموس.
الحرب الأهلية الثانية (1997) (The Second Civil War)
فيلم تلفزيوني ساخر من إخراج جو دانتي، تم بثه عام 1997. تدور أحداثه «في وقت ما في المستقبل القريب»، حيث غمرت الهجرة الولايات المتحدة الأمريكية مما أدى إلى ولادة مجتمع متعدد الثقافات لكنه منقسم، لتتحول السياسة بشكل علني إلى مجرّد مسألة تلبية احتياجات المجموعات العرقية المختلفة من أجل الحصول على أصواتها، كما أدى الاستقطاب الذي غذته وسائل الإعلام إلى انتشار القلق والخوف.
تؤدي التوترات حول الهجرة وتوزيع اللاجئين القادمين من الشرق الأقصى، بعد حرب نووية بين الهند وباكستان، إلى صراع بين الحكومة الفيدرالية، التي يريد رئيسها استغلال الوضع للبقاء في السلطة من جهة، وحاكم ولاية أيداهو الرافض لتدفق اللاجئين. ما يؤدي إلى معركة كبيرة بين الجيش الأمريكي والحرس الوطني في أيداهو. يتخذ الرئيس قرارًا بغزو أيداهو، لتبدأ الحرب الأهلية الأمريكية الثانية. تبدو تجربة إعادة مشاهدة الفيلم اليوم، بعد حوالي ربع قرن، أمر مذهلًا نوعًا ما. يشعر فيها المرء بأن ما كان مبالغًا فيه، والهجاء الوقح والساخر في ذلك الوقت للعنصرية أو للسلطوية يبدو الآن معقولًا وقابلًا للتحقق في الأمد القريب.
بوشويك (2017) (Bushwick)
فيلم أمريكي من إخراج جوناثان ميلوت وكاري مورنيون وديف باتيستا وبريتاني سنو. يروي قصة الفتاة لوسي التي تغادر برفقة صديقها مترو الأنفاق في بوشويك، أحد أحياء نيويورك، في طريقها لزيارة جدتها فتجد نفسها عالقة في حرب أهلية. حيث يتحول الحي، الذي كان ذات يوم جزءًا من تاريخ الطبقة العاملة من السود واللاتينيين في نيويورك، إلى ساحة حربٍ انفصالية بين السكان وميليشيات تكساس الراغبة في غزو نيويورك لجعلها قاعدة عملياتهم على الساحل الشرقي.
يسقط العنصريون.. ولو بعد حين
11-06-2020
في خضم هذه الفوضى، تمكنت لوسي من اللجوء إلى قبو رجل يدعى ستيوب، حيث سيساعدها هذا المحارب القديم في عبور بوشويك للعثور على جدتها. يستغرق الأمر ثلثي الفيلم لمعرفة سبب اندلاع هذه الحرب، لكن الأحداث المثيرة والمتسارعة تدور في منظور ألعاب الفيديو، وتكشف عن حالة بدائية من العنف القبلي في مدينة شديدة الحداثة.
اترك العالم خلفك (2023) (Leave The World Behind)
فيلم اجتماعي ساخر، من تأليف وإخراج سام إسماعيل. مقتبس عن رواية 2020 للكاتب رومان علم. من بطولة جوليا روبرتس وماهرشالا علي وإيثان هوك. يحكي الفيلم قصة زوجين من الطبقة المتوسطة في بروكلين وطفليهما يصلون إلى منزل فخم في لونغ آيلاند لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، معتقدين أنهم وصلوا أخيرًا إلى الرفاهية التي يستحقونها. لكن فرحتهم لن تدوم طويلًا. تتعطل الهواتف والتلفزيون والإنترنت فجأةً وتبدأ الأحداث في التسارع نحو الهاوية. وعندما تتجلى حقيقة الموقف، وهي هجوم سيبراني ضخم يؤثر على الاتصالات السلكية واللاسلكية فضلًا عن أنظمة النقل وإمدادات الطاقة، تنكشف حقيقة الشخصيات كالشمس، والتي تبدو من خلال خلفياتها الثقافية والعرقية المختلفة وكأنها ترمز إلى الولايات الأمريكية غير المتجانسة.
يطرح الفيلم الكثير من الأسئلة، دون أن يجيب عليها إلا نادرًا، وهذا ليس بالأمر السيء. تتوالى الأحداث من خلال عيون العائلة، تمامًا مثل المتفرجين في مواجهة ما يحدث لهم. اللافت أن فيلمًا من هذا النوع يحكي إمكانية انهيار الإمبراطورية قد تم إنتاجه من قبل شركة مملوكة للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وهو ما كان كافيًا للكثير من المدونين الأمريكين للقول: «إنهم يعرفون ما سيحدث!». لكن الفيلم وبعيدًا عن منبته الأمريكي يسمح لنا بالتفكير في سلوكنا المحتمل في حالة انهيار العالم، ولاسيما عندما تختفي التكنولوجيا.
يعاني الفيلم من كونه طويلًا، (طوله ساعتان و20 دقيقة)، وفيه حوارات أطول مما يجب، يبدو بعضها بلا فائدة.
الحرب الأهلية (2024) (Civil War)
هذا الفيلم الذي صنعه المخرج البريطاني أليكس غارلاند، قد يكون أسوأ من أي حرب أهلية أمريكية يمكن أن تحدث، لكنه في الوقت نفسه أقرب أفلام موجة الحرب الأهلية المتوقعة تعبيرًا عنها.
تدور الأحداث في مستقبل يبدو قريبًا، لتحكي قصة فريق من الصحفيين يسافرون عبر الولايات المتحدة خلال حرب أهلية سريعة التصاعد تجتاح البلاد بأكملها، ويكافحون من أجل البقاء في بلد أصبحت حكومته دكتاتورية في مواجهة ميليشيات انفصالية في تكساس وكاليفورنيا. ولايتان لا علاقة لهما ببعضهما على الإطلاق من وجهة نظر التاريخ السياسي الأمريكي، إحداهما تقدمية تقليديًا والأخرى محافظة ومؤيدة للغاية لترامب.
من خلال تبني وجهة نظر هذا الفريق الصحفي، يتجنب المخرج شرح أسباب الحرب الأهلية ويطمس التشابه المباشر مع السياق الأمريكي الحالي للابتعاد عن النقد وكذلك الاستقطاب السياسي. فنحن لا نعرف حقًا من أين تأتي هذه الحرب، ولا نعرف من هم الأشرار ومن هم الأخيار. هي حرب أهلية منزوعة السياق تمامًا. لكنه مع ذلك يطرح أسئلة أساسية حول دور الصورة، والصحافة، والتشكيك في التعاطف، والأخلاق، والمسؤولية. كما يقدم جرعةً عاليةً من العنف، مصورًا الحرب الأهلية في أبشع أشكالها، من حيث سيطرة نزعة العنف العبثي، خاصة لدى الميليشيات المناهضة للحكومة المركزية، حتى يشعرك أحيانًا بنوع من العنصرية، أو الارتباط المفرط بأمريكا البيضاء.
البعد السينمائي الحربي الناجح لا ينفي عن الفيلم خفته السياسية، ومع ذلك فهو يحاكي الانقسامات السياسية في الولايات المتحدة وما تعنيه بالنسبة للمصير الجماعي للأمريكيين، لكن ذلك لا يولد من الخيال المحض، ولا من العدم. في شهر شباط الماضي، نشرت «مؤسسة يوغوف» نتائج استطلاع للرأي سأل أكثر من 35 ألف أميركي عما إذا كانوا يؤيدون الانفصال، فوجد المحللون أن 23% يؤيدون انسحاب ولايتهم من الولايات المتحدة، و28% يؤيدون انفصال ولاية أخرى، وقال 27% إنهم غير متأكدين. وقد تباين الدعم للانفصال بين الولايات، حيث تصدرت القائمة ألاسكا (36%) وتكساس (31%) وكاليفورنيا (29%).