تصاعد البطالة في المغرب... الجفاف هو السبب؟

تروِّج السلطات لما يسميه العاطلون عن العمل "حل مُسعِف لكنه ظرفي"، ولا تعتبره مؤقتاً، وسمّته "أوراش"، ويسعى – بحسبها - إلى تشغيل الأشخاص، الذين يجدون صعوبة في إيجاد شغل دائم وثابت، بغض النظر عن مستواهم التعليمي. وهؤلاء يجدون أنفسهم يعملون في أنشطة مهنية وشبه مهنية، يغلب عليها طابع الأشغال العمومية، مقابل أجر شهري قدره 2828 درهماً، مع إمكانية استفادة العامل من تأمين صحي وخدمات اجتماعية، كالتعويضات العائلية.
2024-06-10

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
عامل عاطل عن العمل، المغرب.

في مقهىً منسي على أطراف قرية جبلية قَصيَّة، جلس أحمد رفقة أصدقائه على كرسي بلاستيكي مهترئ، مُقطب الوجه وشاردَ الذهن، منتظراً فرصةَ عملٍ، ينالها تارة ولا ينالها تارة أخرى إلا بشق الأنفس، بعد كثير من البحث والانتظار المُضْنِيَّيْن. لم يعد الشاب الثلاثيني يطيق نقاشات رفاقه المتكررة حول أسباب البطالة المستشرية في البلد. وفي لحظة استثنائية، قرر أن يقاطعهم: "أودي... ماشي الجفاف بوحدو اللي هلكنا" (ماذا عساي أن أقول... لم يهلكنا الجفاف وحده).

المؤكد أن استنتاج أحمد ليس قطعياً، لكنه يعبِّر عن وضع اقتصادي صعب، يلقي بظلاله على قطاع مهم من المغاربة، جلهم من الشباب الذين يشاركونه محنة البطالة. فهي سجلت منحنى تصاعدياً خلال السنين الأخيرة وطالت 1.64 مليون إنسان، صاروا عاطلين عن العمل، بنسبة تصل إلى 13.7 في المئة من السكان، وهي الأعلى منذ بداية الألفية الثالثة. فما السبب؟

الجفاف ليس سبباً وحيداً

تعرّض أحمد للبطالة لأن نشاطه المهني الأخير كان زراعياً، فاقتصاد المغرب يعتمد بشكل كبير على الفِلاحة، إذ يسهم بنسبة 14 في المئة من الناتج الداخلي الخام، وهو يرتكز في الأساس على الأمطار التي تملأ سدود البلد والموجهة لسقي الأراضي الزراعية. لكن واقع الحال يؤكد أن المغرب سجل شحاً ملحوظاً في الأمطار خلال السنين الأخيرة، تسبب في جفاف قاسٍ، استهدف بشكلٍ رئيس مزارع الفلاحين الصغار، وبشكل نسبي "الضيعات" الزراعية التسويقية. وقد أدى هذا المعطى إلى فقدان 159 ألف وظيفة عمل في القرى، أغلبها مصنف ضمن القطاع الزراعي (وفق إحصاءات "مندوبية التخطيط" المغربية، وهي مؤسسة أبحاث حكومية).

وتسببت خسارة مناصب الشغلِ في القرى ـ خلال الربع الأول من السنة الجارية ـ في تراجعٍ كبير في التشغيل بـ80 ألف فرصةٍ للشغلِ. في المقابل تقول الإحصاءات الرسمية الصادرة عن "مندوبية التخطيط"، بأن الوضع مختلف عن القطاعات الأخرى، التي أسهمت في امتصاص البطالة على نحو نسبي. فقطاع الخدمات أوجد 63 ألف فرصة عمل، يليه قطاع الصناعة بـ 34 ألف فرصة عمل، ثم قطاع البناء والاشغال العمومية الذي وفر 25 ألف فرصة عمل. وعلى الرغم من أهمية هذه الأرقام، إلا أنها ليست كافية لامتصاصٍ كلي للبطالة المستشرية، في وقت قدمت فيه الحكومة وعداً بإيجاد مليون فرصة عمل، على مدى خمس سنوات، ضمن برنامجها الانتخابي لعام 2021.

قد يبدو الجفاف سبباً رئيسياً في استفحال هذه المعضلة، لكنه ليس الوحيد، إذ تحضر أسباب أخرى تسهم بشكل أو بآخر في سيادة هذا الوضع، من قبيل أن البلد لا يزال اقتصاده يعتمد على الاستثمارات الحكومية في قطاعات عديدة، أكثر من اعتماده على استثمارات القطاع الخاص، الذي يعاني من مشاكل هيكلية ومالية وتمويلية، خاصة المقاولات (الشركات) الصغرى والمتوسطة، التي سجلت ديوناً وحالات إفلاس غير مسبوقة خلال السنين الأخيرة (إفلاس 14 ألف مقاوَلة في عام 2023). كما أن المداخيل الريعية المتأتية عن امتيازات يحصل عليها مقربون من السلطة، كاحتكار النقل في المدن وفيما بينها، أو الصيد في أعالي البحار أو الاستثمار في المقالع الخ... تدرُّ أرباحاً طائلة على المستفيدين منها ولكنها لا تساهم في إيجاد أعمال لجيش العاطلين المتعاظم.

سجلت البطالة منحنى تصاعدياً خلال السنين الأخيرة، وطالت 1.64 مليون إنسان، صاروا عاطلين عن العمل، بنسبة تصل إلى 13.7 في المئة من السكان، وهي الأعلى منذ بداية الألفية الثالثة. فما الأسباب؟

تفتخر الحكومة ـ على لسان وزير العمل فيها ـ بأنها "نجحت" في توظيف 104 آلاف شخص ضمن مشروع "أوراش"، ينتمي 60 في المئة منهم إلى العالم القروي، و30 في المئة منهم من النساء، كما أن 70 في المئة من المستفيدين غير حاصلين على شهادات تعليمية.

بالموازاة، يحضر سببان إضافيّان، أثّرا على نحوٍ ملموسٍ في اقتصاد المغرب، وبالتالي على سوق الشغل، وهما: تداعيات كورونا، والتضخم الناتج عن الأزمة الأوكرانية، فهذان السببان أسهما في انخفاض حاد للنمو الاقتصادي خلال العام الماضي ، بمعدل وصل إلى 2.9 في المئة، ومعلوم أن نقطة واحدة من هذا النمو تعادل خلق 30 ألف منصب شغل (وفق تقديرات الخبراء الاقتصاديين).

علاوة على ما سبق، يندرج الاقتصاد غير المهيكل ضمن أسباب هذه الأزمة، إذ أفضى إلى عطالة قطاع مهم ممن يعملون في الغالب بشكل موسمي، وفي أنشطة غير مستقرة، وأخرى تندرج ضمن أعمال لـ"سد الرمق". وعلى الرغم من الوضع الاجتماعي الهش، الذي ينتجه هذا القطاع غير المنظّم إلا أنه يسهم بحوالي 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويظل الملجأ السهل والمتاح لمعظم العاطلين، سواء الحاصلون على شهادات جامعية أو بدونها. ومَرَدُّ ذلك أن القطاع العام والقطاع الخاص المهيكل، لا يزالان عاجزَيْن عن استيعاب وتوظيف جحافل ضخمة من العاطلين وإدماجهم بشكل قانوني في منظومة العمل، وبالتالي توفير خدمات اجتماعية متكاملة، كالتأمين الصحي، وسواها من الحقوق المكفولة لأي عامل وموظف. فهل هناك مخططات حكومية لإخراج هذه الفئة من براثن البطالة؟

"أوراش" و"فرصة"... هل انتشلت الشباب من البطالة؟

في كل مرة يرتاد فيها أحمد مقهاه المعتاد، يصادف أصدقاءه الخارجين للتو من عملهم المؤقت، فينصحونه بضرورة الاقتداء بحل، يصفونه بما يسمونه "الدِّيبَنًاج"((dépannage، بمعنى "حل مُسعِف لكنه ظرفي".

لا تعتبر الحكومة هذا الحل مؤقتاً، بل تراه مشروعاً قائماً، سمّته "أوراش"، إذ يسعى – بحسبها - إلى تشغيل الأشخاص الذين يجدون صعوبة في إيجاد شغل دائم وثابت، بغض النظر عن مستواهم التعليمي. وهؤلاء يجدون أنفسهم يعملون في أنشطة مهنية وشبه مهنية، يغلب عليها طابع الأشغال العمومية، مقابل أجر شهري قدره 2828 درهماً، مع إمكانية استفادة العامل من تأمين صحي وخدمات اجتماعية، كالتعويضات العائلية.

تفتخر الحكومة ـ على لسان وزير العمل فيها ـ بأنها "نجحت" في توظيف 104 آلاف شخص ضمن هذا المشروع، ينتمي 60 في المئة منهم إلى العالم القروي، و30 في المئة منهم من النساء، كما أن 70 في المئة من المستفيدين غير حاصلين على شهادات تعليمية. لكن واقع الحال يؤكد أن هذا الحل ليس كفيلاً بتجاوز البطالة على نحوٍ دائم، فالمناصب التي يخلقها هذا المشروع ليست حقيقية، بل هي أشبه ببطالة مقنعة، بغطاء قانوني معترف به من طرف الحكومة.

بالموازاة، أطلقت الحكومة مشروعاً آخر، سمّته "فرصة"، تم اعتماده بدءاً من نيسان/ أبريل عام 2022، ويرمي إلى دعم الشباب والنساء، خاصة في المناطق القروية، من خلال مَنح القروض الصغيرة والتدريب على مساعدتهم بغية تأسيس أو تطوير مشاريعهم، وبهدف تعزيز الاستقلال المالي وتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية للفئات الأكثر هشاشة.

تُحْصِي الحكومة إنجازات المشروع، وتؤكد بأن العدد الإجمالي من المستفيدين وصل إلى أكثر من 11 ألف مغربي، يمثل الشباب الحصة الأكبر بنسبة تصل إلى 76 في المئة، في حين بلغت نسبة النساء 32 في المئة. هذه الأرقام وغيرها كثير، تستشهد بها الجهات الرسمية لإبراز أهمية هذا المشروع، وإسهامه في التخفيف من البطالة. لكن تحضر على أرض الواقع مشاكل ومطبات تهم جزءاً من هؤلاء المستفيدين، إذ واجهوا اختلالات إدارية وإجرائية، تشمل تأخراً ومماطلة غير مبررة لعملية الاستفادة من هذا الدعم المالي، كما أن مستفيدين آخرين وجدوا أنفسهم مهددين بمتابعات قضائية، بسبب عدم سدادهم مستحقات مالية، وتراكم الديون عليهم، نتيجة تأخر التمويل الحكومي لمشاريعهم.

يعتمد اقتصاد المغرب بشكل كبير على الفِلاحة، التي تسهم بنسبة 14 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وهذه ترتكز في الأساس على الأمطار التي تملأ السدود الموجهة للسقي. لكن المغرب سجَّل شحاً ملحوظاً في الأمطار خلال السنين الأخيرة، فطال الجفاف القاسي مزارع الفلاحين الصغار بصورة رئيسة، وبنسبة أقل الضيعات التسويقية. وقد أدى هذا المعطى إلى فقدان 159 ألف وظيفة عمل في القرى.

أطلقت الحكومة مشروعاً آخر، سمّته "فرصة"، بدءاً من نيسان/ أبريل عام 2022، ويرمي إلى دعم الشباب والنساء، خاصة في المناطق القروية، من خلال مَنح القروض الصغيرة والتدريب على مساعدتهم، بغية تأسيس أو تطوير مشاريعهم، وبهدف تعزيز الاستقلال المالي وتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية للفئات الأكثر هشاشة.

هذا الوضع الصعب، وصفه "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي" (مؤسسة استشارية حكومية) بـ"غياب سياسة حقيقية خاصة بمواكبة حاملي المشاريع"، إذ أفاد بأن "معظم البرامج المعمول بها للنهوض بالتشغيل الذاتي، تعاني غياب دراسات دقيقة وعلمية لتقييم الأثر، حيث من المفترض أن يباشر بهذا التقييم فور بدء تنفيذ هذه البرامج"، مشيراً إلى غياب "آلية محددة لتقييم أداء هذا البرنامج". ولتجاوز هذا الإشكال أوصى المجلس بأهمية "تقديم المواكبة والاستشارة لحملة المشاريع وتكوين الشباب، وتحسين جودة خدمات المواكبة المقدمة لهم، إلى جانب تبسيط الإجراءات الإدارية".

لا تهمهم هذه الأرقام..

بالنسبة إلى أحمد وسواه من العاطلين عن العمل، لا يهمهم ما ذُكِرَ من أرقام وتحليلات اقتصادية وصفية وانتقادات وتوصيات الجهات المختصة، بقدر ما يهمهم أن يجدوا لأنفسهم موطئَ قدمٍ في إحدى المؤسسات، التي توفر لهم فرصة عمل حقيقية ومستقرة، وضامنة لحقوقهم الكاملة من دون تحايل على القانون... ويأملون بعيشٍ كريم، من دون بطالة.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه

مستشفياتٌ للبيع: نحوَ خصخصة مُقَنَّعَة للصحة في المغرب

تقوم الدولة باعتماد صيغة التمويل Lease back (البيع مع إعادة الإيجار)، أي أنها ستبيع الأصول العقارية للمستشفيات والمراكز الصحية الحكومية لهذه الجهات الاستثمارية الحكومية والخاصة، ثم ستقوم هذه الجهات لاحقاً...