الصلف وحده هو الذي دفع إسرائيل إلى محاولة احتلال مدينة "بور فؤاد"، أقصى شمال "سيناء"، شرق "بور سعيد"، وهي الجزء الوحيد الذى لم تكن إسرائيل قد تمكنت من احتلاله عقب هزيمة الجيش المصري في الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967 . في جنوب المدينة، دارت معركة "رأس العش" الشهيرة، بعد أسابيع قليلة من وقوع الهزيمة، والتي فشلت خلالها القوات الإسرائيلية مرتين في محاولتها احتلال المدينة، فلم تحاول احتلالها بعد ذلك قط. بعد وقت قليل من ذلك، لم يتوقف هدير المدافع المصرية وعملياتها القتالية على طول جبهة قناة السويس، وأطلقت مصر حينها ما عُرف بـ"حرب الاستنزاف"، وهي تلك العمليات العسكرية، التي انطلقت ضد القوات الإسرائيلية من آذار/ مارس عام 1968 إلى آب/ أغسطس عام 1970، وكان هدفها المباشر هو استنزاف العدو مادياً وبشرياً ومعنوياً، بتدمير قواته، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر داخل صفوفه، وعدم ترك فرصة مواتية له لتثبيت مواقعه ودعم تحصيناته.
دارت خلال تلك الحرب عشرات المعارك، وتكبدت القوات الإسرائيلية خسائر جسيمة، واستعاد المقاتل المصري ثقته في قدراته العسكرية، التي لم تُختبر قط في حرب الخامس من حزيران/ يونيو. ومهدت تلك المعارك الطريق - بشكل كبير - لانتصار القوات المصرية، في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973 .
كتب كثير من القادة العسكريين شهاداتهم على "حرب الاستنزاف"، ولكن تلك الشهادات ظلت قاصرة عن رؤية تلك المعارك على الأرض كما رآها الجنود، وظلت تشبه رصد الطائر المحلِّق، الذى يمكنه رؤية الصورة، في إجمالها وأبعادها الاستراتيجية، من دون تفاصليها الدقيقة. لذا فقد اكتسبت مذكرات الجندي / طبيب "أحمد حجي"[1] أهمية بالغة، لرصدها تفاصيل بعض ما جرى في تلك المعارك. وتمثل شهادته واحدة من تلك الشهادات بالغة الندرة التي كتبها الجنود.
انتقل "حجي" مع كتيبته، من القاهرة إلى إحدى القرى، التي لم يذكر اسمها، بالقرب من مدينة "القنطرة" غرباً، على جبهة قناة السويس، تماماً على خط المواجهة مع العدو الإسرائيلي، في الثاني من نيسان / إبريل عام 1969. كانت القرية حينها عامرة بحقول القمح، الذي ينتظر الحصاد، وكان الفلاحون فيها يقومون على رعاية مواشيهم ومزارعهم، وكأنه ليس ثمة حرب.
بعد عده أيام من وصول الكتيبة إلى موقعها الجديد، وعندما قام العدو برصد مكانها، أطلق سيلاً كثيفاً من نيران مدفعيته في اتجاهها، لوقت بدا ـ لأفراد الكتيبة ولسكان القرية ـ طويلاً للغاية. يقول أحمد، وهو يصف ذلك الهول الذى عاجلهم قبل أن تنتظم صفوفهم: "الرجال يهرولون مسرعين وهم يسوقون مواشيهم أمامهم. النسوة يصرخن في رعب باحثات عن أطفالهن . الكلاب تجري مذعورة . العصافير وطيور السمان تمرق مسرعة بعيداً إلى البحيرة[2]. طلقات الصواريخ تقترب من مباني القرية". نتج عن القصف تحطيم كل الأشجار التي كانت تحتمي بها الكتيبة، و حرق حقول القمح وقتل بعض الماشية.
وبعد انتهاء القصف، لم يكن أمام السكان إلا جمع ما تبقى من أمتعتهم ومغادرة القرية، ووداع أفراد الكتيبة المرابِطة وهم يوصونهم بالثبات." ترك الفلاحون كل شيء. بعض الحقول ما زال بها محصول قمح في انتظار حصاد فات أوانه. ترك الفلاحون كل شيء خوفاً من ضربات العدو".
في اليوم التالي، واصل العدو ضرباته الصاروخية، وكان واضحاً في تلك المرة أنه يريد تدمير سرية المدفعية الملاصقة لمبنى الكتيبة. كان القصف كثيفاً إلى الحد الذى دفع جميع الجنود إلى الابتعاد عن الموقع، لتجنب الشظايا المتطايرة. بدا ساعتها وكأن الجنود يستجيبون لغريزتهم في حب البقاء أكثر من استجابتهم لواجبهم في الثبات. جنديٌّ واحدٌ ظل محتفظاً بموقعه وراء مدفعه مواصلاً إطلاق القذائف في اتجاه العدو بلا هوادة، ليركز العدو نيرانه في اتجاه ذلك المدفع الوحيد، فيسقط الجندي شهيداً وهو يحتضن مدفعه.
اكتسبت مذكرات الجندي / طبيب "أحمد حجي" أهمية بالغة، لرصدها تفاصيل بعض ما جرى في تلك المعارك. وتمثل شهادته واحدة من تلك الشهادات بالغة الندرة التي كتبها الجنود.
عاد "أحمد حجي" إلى قريته ليقضي إجازته الميدانية بين أهله وأصدقائه، بعيداً عن مشاهد الدماء، التي عاينها على مدى شهور طويلة. ولكن تلك المشاهد تابعته في رحلة العودة: "كنتُ جالساً بجوار نافذة القطار عندما سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئاً بها على حافة النافذة. لم ألقَ بالاً للأمر أول مرة. ثم سقطت قطرة ثانية حفزتني لاستطلاع مصدرها...
الغضب والحزن اللذان أصابا الجنود دفعاهم إلى سرعة العودة إلى مواقعهم، وهم يُحمِّلون أنفسهم مسؤولية ما حدث: "جرى الجميع بسرعة وارتمى كلٌ على مدفع، وانطلقت القذائف مدوية مجنونة، وجاء عبر التليفون الميداني أن مدفعيتنا قد دمرت مواقع العدو".
يقول أحمد حجي: "في تلك الليلة لم ننم. كان هناك شيء أكبر من الفرح يبيت معنا في خنادقنا. لقد انتقمنا لزميلنا. لقد وهبنا دمه شجاعة ونوراً كنا نحتاج إليهما".
في مستهل أيلول/ سبتمبر، بدا أن القرية المهجورة على موعد مع قفزة عبقرية في اتجاه الحياة بعد أن أضناها الموت. عاد الفلاحون وهم يحملون فؤوسهم وأدواتهم، يريدون الاستعداد لزراعة المحاصيل الشتوية. أخبروا الجنود أنهم سيقومون بإصلاح "التِّرَع" التي أصابها التخريب.. قالوا إنهم سوف يصلحونها مرة ثانية وثالثة وعاشرة إذا لزم الأمر. وعلى الرغم من تجدد الاشتباكات في ذلك الصباح، إلّا أن الفلاحين واصلوا عملهم في محاولة استنبات أرضهم من جديد.
كان على الكتيبة، ضمن مهماتها القتالية الأخرى، أن تقوم بتنفيذ ضربات استباقية بواسطة القوات الخاصة. الضربات التي كانت تنطوي على جسارة مذهلة ومخاطرة، يمكن أن تحملهم مباشرة إلى الموت، إذ كان يتحتم عليهم عبور قناة السويس في زوارقهم المطاطية، تحت جنح الظلام، للوصول إلى "سيناء"، والقيام بعمليات زرع المتفجرات داخل خطوط العدو، والاشتباك مع جنوده بالأسلحة البيضاء، ثم العودة من جديد. في تلك الأثناء، كان يجب أن تصمت المدافع في الجانب المصري، مهما بلغت شدة قصف قوات العدو، حفاظاً على جنودنا الذين يقومون بتنفيذ مهمتهم هناك. وفى تلك العمليات، التي كانت تكبد العدو خسائر جسيمة، لم يكن هناك بد من سقوط شهداء، في كل مرة، أثناء انسحابهم بعد إتمام المهمة.
بعد عده أيام من وصول الكتيبة إلى موقعها الجديد، وعندما قام العدو برصد مكانها، أطلق سيلاً كثيفاً من نيران مدفعيته في اتجاهها، لوقت بدا ـ لأفراد الكتيبة ولسكان القرية ـ طويلاً للغاية. يقول أحمد، وهو يصف ذلك الهول الذى عاجلهم قبل أن تنتظم صفوفهم: "الرجال يهرولون مسرعين وهم يسوقون مواشيهم أمامهم. النسوة يصرخن في رعب باحثات عن أطفالهن.
الغضب والحزن اللذان أصابا الجنود دفعاهم إلى سرعة العودة إلى مواقعهم، وهم يُحمِّلون أنفسهم مسؤولية ما حدث: "جرى الجميع بسرعة وارتمى كلٌ على مدفع، وانطلقت القذائف مدوية مجنونة، وجاء عبر التليفون الميداني أن مدفعيتنا قد دمرت مواقع العدو".
في 2 تشرين الأول/ أكتوبر، استقبلت الكتيبة عدداً كبيراً من طلبة الجامعات المصرية، الذين تطوعوا للعمل بشكل مؤقت على الجبهة في مهمات غير قتالية . قام هؤلاء الطلاب بحفر الخنادق وتعميقها وتمويهها، وتوزيع الطعام والماء على الجنود والمشاركة في أعمال المطبخ. وكان لمشاركة هؤلاء الطلاب أثر كبير في رفع الروح المعنوية لدى الجنود. وسيكون لهؤلاء الطلاب - فيما بعد - دور بالغ التأثير في الضغط من أجل استصدار قرار الحرب، وصناعة ذلك الزخم الذى أسهم في تكوين جيل جامعي، ربما يكون هو الأكثر تأثيراً في تاريخ الجامعات المصرية. يقول أحمد: "حول الضوء الخافت المنبعث من مصباح صغير، يجلس الطلبة والجنود ويدور بينهم حديث حميم عن مشاعر الشعب وثقته في جنوده، عن جرح مصر الغائر، عن قضية فلسطين، وكيف أن الوطن يُسخِّر كل إمكاناته من أجل معركة الخلاص" .
وفي القرية، كان الفلاحون قد اعتادوا على القصف المتكرر، لم يعودوا يفرون خوفاً من الانفجارات كما كان يحدث في السابق: "بل كان يمكن أن ترى فلاحاً يحرث قطعة الأرض الباقية من حقله بعد أن احتلت مدفعيتنا أغلب مساحتها، أو بعض النساء وهن يحصدن الزرع، أو الأطفال وهم يعملون في صيد الأسماك من البحيرة. وقد يتوقف البعض أحياناً عن عمله – لا خوفاً – ولكن ليطمئن عما إذا كانت ضربتنا للعدو مؤثرة .
الثلاثاء 16 كانون الأول/ ديسمبر.. بدا أن صبر العدو قد نفد عندما قامت قواته الجوية بتنفيذ مجموعة من الطلعات المتتالية، بطائرات "الفانتوم" السريعة والمراوغة، وهى فخر سلاح الجو الإسرائيلي في ذلك الحين، وكانت قد زودته بها أمريكا قبل ذلك بوقت قصير. كانت الطائرات تقذف بحمولتها الكبيرة من المتفجرات فوق الكتيبة. ثم تحوم مرتفعة، كي تتجنب نيران المدفعية المصرية، ثم تعود لتلقي بحمولتها من جديد وتفر هاربة. في نهاية تلك الغارات المحمومة "كان الموقع قد دُمِّر تماماً، وتحوّل إلى حفرة غائرة في عمق الأرض، وتمّ تدمير كل المدافع ما عدا مدفع واحد، فيما تمزقت أشلاء الجنود وتناثرت في كل اتجاه. وكان قائد الكتيبة قد فقد ذراعه اليسرى وأصيب كتفه الأيمن بشظية كبيرة..".
في مستهل أيلول/ سبتمبر 1969، بدا أن القرية المهجورة على موعد مع قفزة عبقرية في اتجاه الحياة بعد أن أضناها الموت. عاد الفلاحون وهم يحملون فؤوسهم وأدواتهم، يريدون الاستعداد لزراعة المحاصيل الشتوية. أخبروا الجنود أنهم سيقومون بإصلاح "التِّرَع" التي أصابها التخريب.. قالوا إنهم سوف يصلحونها مرة ثانية وثالثة وعاشرة إذا لزم الأمر.
استقبلت الكتيبة عدداً كبيراً من طلبة الجامعات المصرية، الذين تطوعوا للعمل بشكل مؤقت على الجبهة في مهمات غير قتالية. قام هؤلاء الطلاب بحفر الخنادق وتعميقها وتمويهها، وتوزيع الطعام والماء على الجنود، والمشاركة في أعمال المطبخ. وكان لمشاركتهم أثر كبير في رفع الروح المعنوية لدى الجنود. وسيكون لهؤلاء الطلاب فيما بعد دور بالغ التأثير في الضغط من أجل استصدار قرار الحرب
شيء ما في تلك اللحظة حدث كأنه اجتراح لمعجزة. رفض القائد العلاج، آمراً الطبيب أن يقوم بعلاج الجنود. كانت الطائرات المعادية قد تأكدت من تدمير الموقع، فابتعدت مطمئنة للبحث عن موقع جديد. في تلك اللحظة، رقد القائد على ظهره وثبّت أطراف المدفع بقدميه! ثم قام بإطلاق قذائف متواصلة من فوهة المدفع الوحيد التي كانت تطل من بين الدمار. أصابت واحدة من تلك القذائف جناح واحدة من طائرات "الفانتوم" المغيرة إصابة مباشرة كي تجرى مسرعة قبل أن تسقط وتتحطم في "سيناء".
وعلى طول جبهة القناة، لم تتوقف معارك الاستنزاف لحظة واحدة. كانت "كتيبة أحمد حجي" صورة مصغّرة لمئات الكتائب والسرايا من مختلف الأسلحة، التي انتشرت على طول جبهة القناة بطول 190 كيلو متراً. كانت البداية في "رأس العش"، ثم تدمير وإغراق المدمرة "إيلات"، وتدمير السفينتين "هيدروما" و"داليا"، وهي أول عملية قتالية تقوم بها الضفادع البشرية. ثم أُغرقت الغواصة "داكار"، ودُمِّرت السفينتان "بات يام" و"بيت شيفع"، والتي عُرِفت بعملية "إيلات الثانية". وأثناء ذلك وبعده، جرت معركة "شدوان"، ومعركة "لسان بور توفيق"، ومعركة "سدر"، ومعركة "رمانة"، ومعركة "وادى النيران"، ومعركة "بالوظة"، وعملية "الإبرار البحري" لرجال كتيبة الصاعقة... وغيرها من عشرات المعارك، التي وضعت المقاتل المصري في وضع الأهبة والجاهزية، طوال تلك السنوات بين الحربين.
الخلاف حول ثغرة الدفرسوار
28-12-2023
عن فرقة "أولاد الأرض" ومدينة السويس وآلة السمسمية
27-10-2022
في الثامن من آب/ أغسطس عام 1970، توقف دوي المدافع، بعدما وافقت مصر على قبول مبادرة وزير الخارجية الأمريكي "وليام روجرز"، من أجل أن يدخل طرفا الحرب في مفاوضات جديدة، لتنفيذ القرار 242. لكن سرعان ما فشلت تلك المفاوضات، نتيجة تعنت الجانب الإسرائيلي كالعادة، لتسقط المبادرة في 4 شباط/ فبراير 1971، وتعلن مصر رفضها وقف إطلاق النار. كما أنها كانت قد تمكنت خلال فترة الهدنة، من تعزيز أنظمة الدفاعات الصاروخية التي كانت قد خرجت من الحرب، وإعادة تنظيم أوضاع القوات على الأرض من جديد.
عاد "أحمد حجي" إلى قريته ليقضي إجازته الميدانية بين أهله وأصدقائه، بعيداً عن مشاهد الدماء، التي عاينها على مدى شهور طويلة. ولكن تلك المشاهد تابعته في رحلة العودة، لتذكره بجرح الوطن النازف وألمه المستمر: "كنتُ جالساً بجوار نافذة القطار المسرع نحو قريتي عندما سقطت قطرة من الدم على يدي التي كنت متكئاً بها على حافة النافذة. لم ألقَ بالاً للأمر أول مرة. ثم سقطت قطرة ثانية حفزتني لاستطلاع مصدرها، فأخرجت رأسي من النافذة ونظرت إلى أعلى، فوجدت خيطاً من الدم ينساب من فوق سقف العربة التي أطلت من فوقها أطراف حذاء عسكري. كان واضحاً أنه لجندي مصاب. عندما توقف القطار، أخبرت المسؤولين أنني طبيب، فسمحوا لي بالصعود معهم إلى سطح القطار. كان رأس الجندي مهشماً تماماً إثر ارتطامه بجسم صلب، وملابسه غارقة في الدماء. حملناه إلى المحطة وقمنا بتسليمه للشرطة العسكرية، التي بدأت في جرد محتويات ملابسه لتحديد شخصيته. أمكن معرفة اسم الجندي، ورقم كتيبته وأمام مهنته كُتب : "فلاح"، وفي جيبه وجدناً منديلاً وثلاث سجائر وسبعة عشر قرشاً وبرقية مكتوب فيها.. "احضر حالاً". تُوفّيَ والدك".