طاولة مستديرة وثلاثة كراسي رئاسية فقط، للتشاور حول أوضاع تجمع إقليمي، يضم رسمياً خمس دول. هكذا كان المشهد في تونس يوم 22 نيسان/أبريل 2024، خلال اجتماع نُظِّم بدعوة من تونس، وحضره بالإضافة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي.
ولئن حُسبت المبادرة على تونس، فهي في الحقيقة جزائرية، إذ احتضنت العاصمة "الجزائر" اللقاء التمهيدي في 5 آذار/ مارس 2024، بعد يومين من اختتام "منتدى الدول المصدِّرة للغاز"، الذي حضره من الجانب المغاربي كلٌّ من: تونس، وليبيا، وموريتانيا، علاوة على البلد المُضيف. ويبدو أن موريتانيا لم تتحمس للمشاركة في قمة مغاربية لم يُدعَ إليها المغرب، ورفضت أن تكون الضلع الرابع فيها. وكانت الغاية من اللقاء التمهيدي، بحسب الخطاب الجزائري الرسمي، هي تباحث "الأوضاع السائدة في المنطقة المغاربية، وضرورة تكثيف الجهود وتوحيدها لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، بما يعود على شعوب البلدان الثلاثة بالإيجاب". تمّ الاتفاق في الجزائر بين الدول الثلاث، على عقد اجتماع تشاوري كل ثلاثة أشهر، في واحدة من العواصم المعنية، على أن يكون أول اجتماع في تونس بعد نهاية شهر رمضان، وهذا ما حدث.
لم يخرج اجتماع تونس بإعلان تاريخي أو قرارات عملية فارقة. عموميات فحسب، وإن كان بعضها مُهمّاً جدّاً، ويمكن أن يشكل قاعدة لتعاون طويل ومثمر: "تكوين فرق عمل مشتركة تُعهد إليها أحكام تنسيق الجهود لتامين حماية أمن الحدود المشتركة"، و"توحيد المواقف والخطابات في التعامل مع كل الدول المعنية بالهجرة غير النظامية في شمال المتوسط وجنوب الصحراء"، و"التعجيل بتنفيذ مشروع الربط الكهربائي بين الدول الثلاث"، و"صياغة آليات لإقامة مشاريع واستثمارات كبرى في قطاعات ذات أولوية"، و"تركيز مناطق تجارية حرة".
ليست القرارات هي الحدث، بل الاجتماع في حد ذاته، والأطراف المشاركة فيه، والسياق العام. اجتماع يطرح عدة أسئلة لها علاقة بمدى جدية "التحالف" الجديد، وإمكانية استدامته، وكذلك تأثيره على موازين القوى داخل المنطقة المغاربية، والملف الليبي، والعلاقة بين ضفتي المتوسط.
"تحالف" غير متوازِن
يُفترض ـ في الحديث عن أي تحالف ـ توافر حد أدنى من الندية بين الأطراف المتحالفة، وإلاّ تحول الأمر إلى ما يشبه التبعية. فهل هناك ندية حقيقية بين أطراف "الترويكا" الجديدة؟ أغلب الحقائق الميدانية تُظهر عكس ذلك. على المستوى الجغرافي والديمغرافي نتحدث عن ثلاث دول بسمات مختلفة: 45 مليون نسمة في الجزائر موزعون على 2.8 مليون كيلو متراً مربعاً، و12 مليون نسمة في تونس موزعون على 169 ألف كيلو متراً مربعاً، و6.5 مليون نسمة موزعون على 1.7 مليون كيلو متراً مربعاً. اقتصادياً، هناك فوارق كبيرة بين دولتين، يقوم اقتصادهما أساساً على ريع المحروقات (الجزائر وليبيا)، ودولة تعتمد على اقتصاد متنوع الأنشطة لكنه ذو مردودية مالية محدودة (تونس). وفي حين لا تعاني الجزائر وليبيا من ديون خارجية، فإن تونس ترزح تحت ثقل خدمة ديون خارجية، تناهز قيمتها ال40 مليار دولار. أما على المستوى السياسي والمؤسساتي، وعلى الرغم من الإرث التسلطي المشترك، فإن هناك فروقات واضحة، في بُنى الأنظمة الحاكمة في البلدان الثلاثة، هذا إذا كان من المنطقي الحديث عن نظام سياسي حاكم في ليبيا، التي تديرها أكثر من حكومة وعدة مجالس نيابية ورئاسية، منتخبة وغير منتخبة، وجيوش وميليشيات لا يمكن حصر عددها وعدادها.
ولئن حُسبت المبادرة على تونس، فهي في الحقيقة جزائرية، إذ احتضنت العاصمة "الجزائر" اللقاء التمهيدي في 5 آذار/ مارس 2024، بعد يومين من اختتام "منتدى الدول المصدِّرة للغاز"، الذي حضره من الجانب المغاربي كلٌّ من تونس، وليبيا، وموريتانيا، علاوة على البلد المُضيف.
الاختلال واضح، وهو موضوعياً لصالح الجزائر. هذه الأخيرة لديها حدود مشتركة مع كل دول المنطقة المغاربية، بالإضافة إلى تماسها مع دولتين من جنوب الصحراء (مالي والنيجر)، وهي تسعى في السنوات الأخيرة إلى العودة إلى واجهة المشهد في المنطقة والإقليم والعالم، بعد عقود طويلة من الغياب الذي بدأ في التسعينيات بسبب "العقد الأسود"، واستمر بعدها خوفاً من تبعات احتلال العراق في 2003 و"الربيع العربي" في 2011. وقد تكون أولى الخطوات لعب دور قيادي في المنطقة المغاربية، وحضوراً أقوى في الدول الأفريقية القريبة منها.
هل حصلت الجزائر عما تريد من تونس؟
15-09-2022
أما السلطة الحاكمة في تونس، فهي على أغلب الظن ترى في المبادرة الجزائرية إمكانية لتحقيق مكاسب اقتصادية – الطاقة، والاستثمارات، ومواطن الشغل - يمكن ترجمتها إلى مكاسب سياسية: في الداخل (تخفيف آثار التأزم الاقتصادي)، وفي الخارج (ضغوط المؤسسات المالية). وتبقى الانتظارات الليبية هي الأكثر غموضاً، فلا حاجة اقتصادية ملحة، ولا رغبة في التوسع ولعب أدوار اقليمية، فضلاً عن أن "محمد المنفي" والمجلس الذي يترأسه لا يمثلان كل الليبيين، ولا يتمتعان بسلطة مطلقة على الأراضي الليبية. ربما هو سعي من "المنفي" إلى اكتساب حلفاء جدد، قد يوفر له بعض الحماية في حال انزلاق الأوضاع في ليبيا، أو دعماً سياسياً في حال التوصل إلى تسوية سياسية شاملة ومستقرة.
تكتل مغاربي ضد المغرب؟
الخصومة الجزائرية المغربية من "كلاسيكيات" الدراما السياسية في المنطقة المغاربية والعالم العربي، وهي لا تتوقف قطعاً عند مسألة الصحراء الغربية و"البوليساريو". صدام، فجفاء، فلحظات من خفض التصعيد، وأمل حذر في إمكانية فتح صفحة جديدة، ثم صدام، فجفاء، إلخ... قطعت الجزائر العلاقات الديبلوماسية مع المغرب في صيف 2021، على إثر تصريحات المبعوث الدائم للمغرب في الأمم المتحدة "عمر هلال"، الذي اعتبر أن "شعب القبائل الشجاع يستحق أكثر من أي شعب آخر التمتع الكامل بحق تقرير المصير"، وهو ما رأى فيه الجزائريون استفزازاً، ودعماً صريحاً للحركة الأمازيغية الانفصالية. سحب المغرب سفيره في الجزائر، في كانون الثاني/ يناير 2022، وبقيت الأمور على حالها إلى اليوم.
الاختلال في توازن أطراف الاجتماع واضح، وهو موضوعياً لصالح الجزائر التي لديها حدود مشتركة مع كل دول المنطقة المغاربية، بالإضافة إلى تماسها مع دولتين من جنوب الصحراء (مالي والنيجر). وهي تسعى إلى العودة إلى واجهة المشهد، بعد غياب بدأ في التسعينيات بسبب "العقد الأسود"، واستمر بعدها خوفاً من تبعات احتلال العراق في 2003 و"الربيع العربي" في 2011.
لم يعبر المغرب الرسمي، عن موقف من الاجتماعات الثلاثية المنعقدة أخيراً، لكن كثيراً من وسائل الإعلام المغربية هاجمتها، واعتبرتها استهدافاً للمملكة والتفافاً حول مكانتها في الاتحاد المغاربي، خدمة للنظام الجزائري. لكن، حتى إذا ما سلمنا بصحة هذه القراءة، فهل يحق فعلاً للمغرب أن يغضب؟ المملكة المغربية كانت سباقة في إطلاق جملة من المبادرات والمسارات الديبلوماسية خارج الإطار المغاربي وحوله، وحتى ضد مصالحه. في 2016 عبر المغرب عن رغبته في الانضمام إلى "مجلس التعاون الخليجي"، ثم طلب رسمياً في 2017 العضوية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وأطلق في كانون الأول/ ديسمبر 2023 "الاستراتيجية الأطلسية لدول الساحل"، الهادفة إلى تشكيل "تكتل إقليمي"، مهمته "تعزيز وصول دول الساحل إلى المحيط الأطلسي"، وذلك في إطار تعاوني جنوب- جنوب، يشمل: المغرب، وتشاد، والنيجر، ومالي، وبوركينا فاسو. لكن المسار الأخطر هو ـ بكل تأكيد ـ اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني في كانون الأول/ ديسمبر 2020، مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. لم يكن الاستقواء بالأمريكيين في الصراع حول الصحراء هو ما أثار غضب الجزائريين فقط، بل كان كذلك في منح موطئ قدم للكيان الصهيوني على حدود الجزائر، وهو ما تعتبره ـ هذه الأخيرة ـ تهديداً حقيقياً لأمنها القومي ووحدة أراضيها.
حتى العلاقات المغربية التونسية ـ التي لطالما كانت هادئة وحتى دافئة ـ دخلت في أزمة خلال السنوات الأخيرة. منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بدأ التوتر إثر امتناع تونس عن التصويت لقرار مجلس الأمن الخاص بالتمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية، ووصل إلى أوجه في صيف 2022 مع الاستقبال الرسمي لإبراهيم غالي زعيم "البوليساريو"، ورئيس الجمهورية الصحراوية - العضوة في الاتحاد الأفريقي - الذي قدم للمشاركة في القمة اليابانية - الأفريقية، التي أقيمت في تونس. انسحب المغرب من القمة، وسحب سفيره من تونس التي ردت بالمثل. ولا يزال هذا الوضع قائماً إلى اليوم. وعلى الرغم من تأكيد تونس عدة مرات التزامها بالحياد في قضية الصحراء الغربية، إلّا أن المغرب غير مقتنع، وينظر بقلق بالغ إلى التقارب الواضح بين الرئيسين التونسي والجزائري.
أما فيما يتعلق بالجانب الليبي، فلا يوجد ما يبرر أصلاً وجود خصومة، فلا تنافس اقتصادي، ولا مناطق نفوذ مشتركة، ولا نزاعات حدودية. على العكس من ذلك، يلعب المغرب، على الرغم من بعده الجغرافي عن ليبيا، دوراً يمكن وصفه بالإيجابي. إذ احتضنت المملكة المغربية ـ خلال العقد الأخير ـ النصيب الأكبر من جولات الحوار بين الفرقاء الليبيين، بداية من اتفاق الصخيرات (الاتفاق السياسي الليبي) في 2015 . ودرءاً لأي سوء فهم أو غضب مغربي، سارع "محمد المنفي" بعد ساعات قليلة من مغادرته تونس إلى إيفاد شقيقه، "سامي المنفي"، إلى المغرب محملاً برسالة توضيح وتطمين للملك المغربي.
الصداع الليبي
من المفارقات، أن الدول الشمال أفريقية، التي تمتلك حدوداً مباشرة مع ليبيا (مصر، وتونس، وليبيا) كانت الأضعف حضوراً في الملف الليبي، خاصة الدولتان المغاربيتان. في حين تلعب دول خليجية وأوروبية، بالإضافة إلى تركيا وروسيا، أدواراً متقدمة في دولة تبعد عنها آلاف الكيلو مترات. وإذا ما كانت هناك عوامل موضوعية، قد منعت تونس من لعب أدوار متقدمة في الملف الليبي، مثل عدم الاستقرار السياسي ما بين 2011 و2021، والاضطراب الأمني وتفاقم الأزمة الاقتصادية، ومحدودية القدرات العسكرية والاستخباراتية، فإن ضعف الدور الجزائري غير منطقي. ويبدو أن البلدين اللذين تقاربت قيادتاهما بشكل ملحوظ، بعد ما حصل في تونس في "25 تموز 2021" قررا في المدة الأخيرة لعب أدوار أكبر في ليبيا، إما من أجل إنهاء الصراع، وإمّا على الأقل من أجل تخفيف أضراره عليهما. ومهما كانت الأهداف، يستوجب التدخل الناجع تمتين العلاقات مع أطراف ليبية فاعلة، ولربما هذا ما يفسّر حرص البلدين على إشراك المجلس الرئاسي الليبي، في المبادرة "المغاربية الجديدة".
هل يحق للمغرب أن يغضب؟ وهو كان سبّاقاً في إطلاق مبادرات خارج الإطار المغاربي وحوله: في 2016 عبّر عن رغبته في الانضمام إلى "مجلس التعاون الخليجي"، ثم طلب في 2017 العضوية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وأطلق في كانون الأول/ ديسمبر 2023 "الاستراتيجية الأطلسية لدول الساحل". لكن المسار الأخطر هو اتفاقية التطبيع مع الكيان الصهيوني في كانون الأول/ ديسمبر 2020.
ما زلنا نتحدث عن "مغرب الأنظمة" الرسمي، الذي لا يقيم وزناً كبيراً لمصالح شعوب المنطقة حاضراً ومستقبلاً. وفي انتظار هبوب ريح "مغرب الشعوب" الديمقراطي والسيادي والتعددي، يستمر الناس في تهريب السلع عبر الحدود، ويتشاركون "قوارب الموت"، وغيتوهات المهاجرين في الضواحي الأوروبية، ويواصلون الاستماع إلى أغاني "الراي"، و"الشعبي"، و"المالوف"، وطبخ "الكسكسي"، واستذكار المعارك والنضالات المشتركة ضد الاستعمار.
تقدِّر الأمم المتحدة عدد الأسلحة الموجودة في ليبيا بحوالي 30 مليون قطعة، في حين تتفاوت تقديرات عدد المقاتلين ما بين ربع مليون ونصف مليون مقاتل. ولا يمكن تقديم حصر دقيق وشامل لعدد الجماعات المسلحة شبه النظامية والميليشيوية، في بلاد لا تخضع حالياً لسلطة مركزية، وتُعدّ من المواقع الاستراتيجية بالنسبة إلى المجموعات الجهادية. باختصار، ليبيا برميل بارود لا تتوقف مديات انفجاراته على الواقع المحلي، بل تخترق الحدود. حدود حيوية جداً، بالنسبة إلى تونس، التي كانت قبل "الربيع العربي" تعوِّل بشكل قوي على ليبيا، في تشغيل العمال والحرفيين التونسيين، وفتح السوق الليبية أمام السلع والخدمات التونسية، وكذلك في تنشيط السوق المحلية، بفضل توافد مئات الآلاف من الليبيين للتداوي والسياحة والزيارات العائلية.
أما الجزائر، وإنْ لم تكن بحاجة اقتصادية ملحة إلى ليبيا، فإنها تسعى بكل تأكيد إلى حماية حدودها الجنوبية-الشرقية معها. فعلى بعد كيلو مترات من المنطقة الحدودية، توجد أكبر منشأة جزائرية للغاز المسال ("عين امناس")، وغير بعيدٍ عنها نجد مدينة "حاسي مسعود"، أغنى المناطق الجزائرية نفطاً وغازاً. بالإضافة إلى المخاوف الأمنية والاقتصادية، هناك مسألة المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، الذين يعبر جزء منهم ليبيا باتجاه تونس والجزائر للبقاء فيهما، أو لركوب البحر باتجاه السواحل الإيطالية، مع ما يعنيه ذلك من تزايد الضغوط الأوروبية.
أضلاع ومثلثات
أهم الأوليات التي اتفق عليها الثالوث المغاربي في تونس، هي: الطاقة، والأمن، والهجرة غير النظامية.. ومن "محاسن الصدف"(!) أنها تقريباً الأولويات نفسها لدى جيراننا في الضفة الأخرى من المتوسط.
المتأمِل في الطاولة التي جلس إليها الرؤساء الثلاثة، يكاد يلمح كرسياً رابعاً، يجلس عليه طيف سيدة إيطالية: "جورجيا ميلوني" رئيسة مجلس الوزراء الإيطالي. لم تُستدع "ميلوني" للاجتماع، لكنها كانت وبلادها حاضرتَين بكل تأكيد في أذهان المجتمِعين.
في السنتين الأخيرتين، ظهر جلياً سعي إيطاليا إلى استعادة دور تعتبر نفسها الأحق به جغرافياً وحتى تاريخياً، لا كمجرد همزة وصل بين أفريقيا وأوروبا، بل كضلع كامل في مثلث غير متقايس الأضلاع. مثلث لا تكون فيه إيطاليا مجرد دولة في الاتحاد الأوروبي، بل لها مصالحها الخاصة. تحظى إيطاليا بموقع حيوي في كل المخططات الطاقية الأوروبية الجديدة، سواء تعلق الأمر بـ "الصفقة الأوروبية الخضراء" European Green Deal (2020)"، أو تعلق ببرنامج "إعادة تزويد أوروبا بالطاقة [REPowerEU] (2022)"، ويعول عليها الأوروبيون في أن تلعب دوراً محورياً في تعويض الإمدادات الطاقية الروسية، وعلى المدى الطويل لضمان مستقبل أوروبا الطاقي، المعتمد بشكل كبير على استيراد "الكهرباء النظيفة" والهيدروجين الأخضر من دول المغرب، عبر شبكات الأنابيب والكوابل البحرية الرابطة بين سواحل شمال أفريقيا والجزر الإيطالية. إيطاليا برئاسة "ميلوني" هي أيضاً التي تقود مفاوضات الاتحاد الأوروبي مع دول شمال أفريقيا، في مسألة التصدي للهجرة غير النظامية، واستطاعت التوصل إلى توقيع اتفاقيتين مهمّتين في غضون أشهر، مع تونس في تموز/ يوليو 2023، ومع مصر في آذار/ مارس 2024.
بالموازاة مع الاستراتيجيات والمشاريع الأوروبية، خلقت "جورجيا ميلوني" ديناميكية إيطالية خارجية غير مسبوقة. فمنذ توليها رئاسة الحكومة في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، لم تتوقف عن التفاوض مع دول المغرب الكبير ومصر، لتكون ضلعاً في مثلث إيطاليا - شمال أفريقيا - أفريقيا جنوب الصحراء. زارت مصر والجزائر وليبيا، وخصت تونس بسلسلة زيارات (4 مرات ما بين تموز/ يوليو 2023 ونيسان/ أبريل 2024)، ووقعت مع كل دولة مذكرات تفاهم أمنية واقتصادية. كما نظمت قمة إيطاليا-أفريقيا في نهاية كانون الثاني/ يناير 2024. وخلال هذه القمة، كشفت إيطاليا عن استراتيجيتها الجديدة، في علاقتها بأفريقيا، التي صاغتها في مشروع أطلقت عليه تسمية "خطة ماتي" Plan Mattei .
اسم اختير بعناية! "انريكو ماتي (1906 –1962)"، كان من بين المناضلين، الذين قادوا المقاومة الإيطالية للفاشية في شمال البلاد، وعهدت إليه ـ بعد سقوط نظام "موسوليني" ونهاية الحرب العالمية الثانية ـ مهمة تصفية "الشركة الإيطالية العامة للنفط" AGIP التي أسسها الفاشيون، لكنه بدلاً من ذلك اختار إعادة هيكلتها ومنحها اسماً وتوجهاً جديدين، فأصبحت ـ ولا تزال - واحدة من أهم عمالقة المحروقات في العالم: "الوكالة الوطنية للمحروقات" (إني ENI). طرح "ماتي" رؤية جديدة في مجال استخراج المحروقات، مختلفة عن الأسلوب الاحتكاري، الذي كان يفرضه كارتيل "الأخوات السبع" (تحالف شركات نفطية أمريكية وبريطانية عملاقة)، إذ عرض على الدول التي لديها احتياطيات أحفورية اتفاقيات استخراج، مقابل تقاسم الأرباح بين الشركة وأصحاب الأرض، واستطاع الحصول على عقود في شمال أفريقيا والعراق والاتحاد السوفياتي. توفي "ماتي" في حادثة سقوط طائرة في 1962، ويعتقد كثيرون أنها من تدبير الفرنسيين. "ماتي" كان داعماً كبيراً للمقاومة الجزائرية، خلال حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي. وبعد استقلال الجزائر في تموز/ يوليو 1962، بدأت المفاوضات مع الإيطاليين حول عقود استخراج الغاز، لكنها تعطلت بعد وفاة "ماتي"، وظلت فرنسا مسيطِرة على القطاع إلى أن أعلن "هواري بومدين" عن قرار تأميم المحروقات في 1971. بعد مرور حوالي 50 عاماً على رحيله، قررت الدولة الجزائرية تكريم ذكرى "ماتي"، ومنحته في سنة 2021 "وسام أصدقاء الجزائر".
***
"أفلحَ إنْ صَدق". لا توجد مؤشرات قوية على متانة المبادرة المغاربية الجديدة، وإمكانية تحولها إلى تحالف فعلي وندّي ومستدام. يستحضر العارف بالتاريخ المعاصر للمغرب الكبير عدة مبادرات وحدوية وتحالفات ثنائية أو ثلاثية لم تصمد كثيراً، وكانت أشبه بمناورات أو قرارات مزاجية. لكن ربما تختلف الأمور هذه المرة، فلنصبر ونرى.
نجاح المبادرة سيشكل بكل تأكيد مكسباً للمنطقة المغاربية، حتى وإنْ لم يكن تحت سقف "اتحاد المغرب العربي". هذا الكيان الذي أُقِرّ إنشاؤه خلال اجتماع للقادة المغاربيين في الجزائر سنة 1988، وتأسس في "مراكش" سنة 1989، واختيرت "الرباط" لاحتضان مقره، ويتولى التونسيون منذ سنة 1991 أمانته العامة. وهو لم يُحدِث أي تأثير حقيقي في المنطقة لا سياسياً، ولا اقتصادياً، ولا حتى ثقافياً وتربوياً. وإن كان تأسيسه بحد ذاته أمراً إيجابيّاً، فإنه اليوم مشلول تماماً، ومن الصعب تصور أي تعافٍ قريب، في ظل الصراع الجزائري-المغربي. لذا لا يجب التعامل بحساسية مفرطة، مع المبادرات المغاربية التي تأتي من خارجه.
"خطة ماتي" Plan Mattei. اسم اختير بعناية! "انريكو ماتي (1906-1962)"، كان من بين المناضلين، الذين قادوا المقاومة الإيطالية للفاشية في شمال البلاد، وعهدت إليه ـ بعد سقوط نظام "موسوليني" ونهاية الحرب العالمية الثانية ـ مهمة تصفية "الشركة الإيطالية العامة للنفط" AGIP التي أسسها الفاشيون، لكنه بدلاً من ذلك اختار إعادة هيكلتها ومنحها اسماً وتوجهاً جديدين، فأصبحت ـ ولا تزال - واحدة من أهم عمالقة المحروقات في العالم.
في كل الأحوال، ما زلنا نتحدث عن "مغرب الأنظمة" الرسمي، الذي لا يقيم وزناً كبيراً لمصالح شعوب المنطقة حاضراً ومستقبلاً. وفي انتظار هبوب ريح "مغرب الشعوب" الديمقراطي والسيادي والتعددي، يستمر الناس في تهريب السلع عبر الحدود، ويتشاركون "قوارب الموت"، وغيتوهات المهاجرين في الضواحي الأوروبية، ويواصلون الاستماع إلى أغاني "الراي"، و"الشعبي"، و"المالوف"، وطبخ "الكسكسي"، واستذكار المعارك والنضالات المشتركة ضد الاستعمار.