"تنصير" العيد في اليمن

يُعْجَنُ الرماد الناتج عن اشعال الحطب للطهي، بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. ثم تقطّع العجينة وتُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة كُرَاتٍ صغيرة لتوزيعها على أطراف سطح المنزل ومن ثم إشعالها بالتوالي، فتضفي شكلاً جماليّاً متسقاً في معانيه مع سعادة العيد المُحتفَى بقدومه.
2024-04-11

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
يترافق اشعال النار فوق الأسطح باطلاق المفرقعات احتفالا

من تقاليد وعادات العيد في اليمن، ذاك التقليد الذي تصطلح عليه المحكية بـ "تنصير" العيد، وتجمعه على صيغة "تَناصير". كما تصطلح عليه في بعض المناطق بتسميات "الشعليلة"، و"التهشيل"، و"المناير"، وتحيل به على تلك الممارسة الاجتماعية الخاصة بإشعال النار على شرفات المنازل وفي قمم الجبال وسفوحها، عشية الأعياد الدينية أو الأعياد والمناسبات الوطنية.

كُرَةُ الرماد وشعلة الجبل

تقوم ممارسة هذه العادة الاجتماعية في المنازل، على استخدام مادة "الرماد" التي يُخلّفها الاستخدام المنزلي للحطب في عملية الطهي، فتُعْجَنُ بمادة "الكيروسين" أو "الديزل" المساعِدَتين على الاشتعال. يلي ذلك تقطيع العجينة قِطَعاً تُوْضَع داخل علب صغيرة معدنية، بينما يُكْتفى في مناطق أخرى بتشكيل هذه العجينة كُرَاتٍ صغيرة لتوزيعها على أطراف سطح المنزل طولاً وعرضاً، ومن ثم إشعالها بالتوالي، فتضفي شكلاً جماليّاً متسقاً في معانيه مع سعادة العيد المُحتفَى بقدومه.

عادةً ما يتزامن إشعال كُرَات الرماد مع إطلاق الألعاب النارية، ومثل ذلك تزامُنُه مع إطلاق الأعيرة النارية، قبل أن يبدأ هذا الأخير في انحساره مع الخطوات التي تسعى من خلالها الجهات الرسمية إلى تنفيذ قرار منع إطلاق النار في المناسبات، تحاشياً لما يترتب عليه من مخاطر وأضرار بشرية.

في الوقت نفسه الذي تُشْعَلُ فيه "التناصير" على شرفات السطوح في منازل القرى، يُشعِل أطفال كل قرية ــ وبعض من شبابها ــ شعلةَ نار كبيرة في أعلى قمة من الجبال المحيطة بها، مستخدِمين في ذلك مواد الحطب والإطارات التالفة، التي يكونون قد حرصوا على جمع أكبر قدْر ممكن منها في سياق تنافسهم مع القرى الأخرى على الفوز باستمرار شُعلتهم وقتاً أطول من غيرها.

وبعدما يتعالى لهيب شعلة قريتهم يتحلّقون دائرةً حولها، ويتناوبون على تزويدها بما يعمل على استمرارها كلما شعروا بحاجتها إلى ذلك. كما يتداعى فيهم هذا الطقس الاحتفالي عاطفةً متّقدةً بسعادة العيد، الذي يهتفون بُجُملِ استقبالهم إيّاه، من مثل ترديدهم لهذا التعبير: "عيدنا باكر يا عيدوه، عيد العساكر يا عيدوه!". غيرَ مُدركين معناه، ولا ما يحيل عليه من تأصيلٍ تاريخي لهذه الممارسة، وبدايتها المختلفة عما صارت إليه من غلبة ارتباطها بالأعياد الدينية.

بين الأنثروبولوجيا والتاريخ

يرتبط جوهر هذه الممارسة وتاريخها المتقادِم ارتباطاً أنثروبولوجيّاً بالوظيفة الإعلامية، التي كانت سائدة قبل ظهور وسائل الاتصال الحديثة. ففي أقدم العصور كان المسافر في الصحراء إذا ما رأى ناراً على جبل قريب منه، يهتدي بها إلى أماكن الحياة الإنسانية، التي يمكنه أن يلوذ بها إن داهمتْه حاجة من حاجات السفر، أو انتابه ضربٌ من ضروب التيه، أو استشعر خطراً من مخاطر الطريق.

ومن هذه الوظيفة الأنثروبولوجية التاريخية تطورت هذه الممارسة في اليمن، وتبلورت في سياقٍ صارت فيه وسيلةَ إعلامٍ خاصة بنقل خبر الانتصار على الأعداء، ومن ثم جاءت صياغة تسميتها (تنصير/ نصر) إحالةً على هذا السياق، الذي يسري الإخبار به عبرَ نارٍ تشتعل على قمم الجبال بتراتُبٍ يتوالى من قمة إلى أخرى، حتى يصل النبأ إلى كل منطقة يعنيها وصوله إليها.

منذ القِدَم، مرّت هذه الممارسة في اليمن ــ ومثلها سياقها الوظيفي الإعلامي ــ بمراحل تطورية متعاقبة اتّسقت مع التحولات التاريخية المختلفة، إذ تعيد بعض المصادر التاريخية بدايتها إلى عصور قديمة، كان فيها اليمنيون يستخدمون هذا التقليد في حروبهم مع الغازي الخارجي، كما استخدموه في حروبهم الداخلية وصراع أقطابهم على السلطة، مروراً باستمراره لديهم في العصور الوسيطة والحديثة، إذ كان وسيلتهم الإعلامية في حروبهم مع الأتراك والإنجليز. وقد امتد إلى النصف الأول من القرن العشرين، لتتخذ منه السلطة القائمة حينها وسيلة إعلامية في تعبيرها عن انتصاراتها على المناوئين لها في جولات صراعها معهم، وتداعى معها في ذلك المؤيدون لها بإشعالهم "التناصير" إعلاناً للنصر وابتهاجاً به. وبعد أن انتصرت على تلك السلطة ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، كانت الممارسة ذاتها وسيلة إعلان المنتصرين عن نصرهم، كما استمروا في التعبير عنه والاحتفاء به من خلالها كل عامٍ عشية هذا التاريخ الذي صار عيداً وطنيّاً.

ولم يبدأ التراجع البطيء لهذا الطقس الاحتفالي بصيغته الوطنية هذه، إلّا بعد أن دخلت إلى الحياة السياسة معطيات جديدة، من مثل التحوّل الذي استجدّ في الصراع على السلطة مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، الذي تمثّل في إقرار التعددية السياسية وآليات الانتخابات، فاستوعبت ممارسة "التنصير" هذا التحول، مُحتفظة بوظيفتها التعبيرية عن سعادة النصر، فيعبّر من خلالها أتباع كل مكوّن سياسي عن فرحتهم بالإعلان عن انتصاره حينما يحالفه الفوز في دائرة انتخابية معينة.

يرتبط جوهر اشعال النار فوق سطوح المنازل وفي قمم الجبال أو في الصحراء بالوظيفة الإعلامية التي كانت سائدة قبل ظهور وسائل الاتصال الحديثة. فكان المسافر إذا ما رأى ناراً يهتدي إلى أماكن الحياة الإنسانية التي يمكنه أن يلوذ بها. ثم صارت وسيلةَ إعلامٍ خاصة بنقل خبر الانتصار على الأعداء، فجاءت صياغة تسميتها (تنصير/ نصر) إحالةً على هذا السياق.

وبمعية ذلك، بدأ الطابع الاجتماعي الخاص بوظيفة هذه الممارسة التعبيرية عن التعاطي الاحتفالي بالنصر أو الأعياد الدينية ثم تنامى مع تعاقب الأزمنة، وصولاً إلى صورته الحالية، التي تقدّم فيها على البعد التاريخي السياسي.

عوامل استمرار وانحسار

ما زالت عادة "تنصير" العيد قائمة في كثير من أنحاء اليمن، مع تفاوتٍ في اتساعها أو اضمحلالها من منطقة إلى أخرى، لا سيما بعد أن فقدت وظيفتها الإعلامية التي اضطلعت بها وسائل الاتصال والإعلام الحديث، فاقتصرت وظيفتها على التعبير عن الفرحة بالمناسبة والاحتفاء بها، وهي الوظيفة التي كانت واحداً من أهم عوامل استمرار الممارسة في جانبيها السياسي والديني.

وإلى ذلك، فإن من بين المتغيرات ما كان عاملاً فاعلاً في تراجع الزخم الاجتماعي لهذا التقليد بشكل أو بآخر، مع دخول وسائل الإضاءة الحديثة، الكهرباء ومن بعدها ألواح الطاقة الشمسية، إلى كثير من المناطق اليمنية، والريفية منها بوجه خاص، فأُزيحت الوظيفة الرئيسة للكيروسين في إضاءة المنازل، وترتب على ذلك استغناء ملحوظ عن استخدامه منزليّاً. ولأنه مادة مهمة في إشعال كُرات الرماد، فقد انعكس غيابه تراجعاً في الاهتمام الاجتماعي بعادة "تنصير" العيد، إذ لم تعد ممارستها متاحة في كل منزل، باستثناء الراغبين فيها، الذين عليهم الاستعداد لها بشراء هذه المادة.

ويأتي عاملٌ آخر من عوامل تراجع هذه العادة الاجتماعية، مُتجسّداً في حلول استخدام الغاز المنزلي محل الحطب، الذي كان استخدامه في عملية الطهي مصدراً رئيساً للحصول على الرماد. وبذلك لم تعد هذه المادة متوافرةً بالقدر الذي كانت عليه من قبل. مع ملاحظة أن فاعلية هذا العامل في انحسار هذا التقليد كامنة في الأزمات المتكررة للغاز المنزلي، التي عملت على إبقاء هامش لاستخدام الحطب منزليّاً، وهو ما عمل من ناحية مغايرة على توافر قدرٍ محدود من الرماد، وعلى فتح إمكانية استمرارٍ متجدد لهذه الممارسة.

ما زالت عادة "تنصير" العيد قائمة في كثير من أنحاء اليمن، مع تفاوتٍ في اتساعها أو اضمحلالها من منطقة إلى أخرى، لا سيما بعد أن اقتصرت وظيفتها على التعبير عن الفرحة بالمناسبة والاحتفاء بها، وهي الوظيفة التي كانت واحداً من أهم عوامل استمرار الممارسة في جانبيها السياسي والديني.

من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الدور الفاعل للحرب، وتداعياتها الاقتصادية على حياة الأسر الفقيرة، التي تخوض معركتها المعيشية من أجل توفير أبسط مقومات الحياة، مُستغنيةً عن أكبر قدر ممكن من احتياجاتها، بما في ذلك احتياجات الفرحة والسعادة التي تضطر إلى تأطيرها في مستوىً ثانوي.

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...