أنْ تُصلَب البصرة بعد السيّاب

كل الطرق في العراق تأخذك إلى المقابر، وأولها دروب الذاكرة، تلك التي تطوفها الأشباح. أين يقفُ الموتى بيُتْمٍ على رصيفٍ مكسور، ينتظرن\ون من يدلهن\م إلى باب من كانوا "هناك" قبل أن تُخلَع بقدوم ما لن تسمهِ هذه اللغة الصماء.
2024-04-07

نبيل صالح

كاتب وشاعر ومصوّر فوتوغرافي من العراق


شارك
"عواء الذئب"، ضياء العزاوي - العراق

لا ملائكة في سماء البصرة، لا مساحةٌ لرفةِ الجناح، لا طيور، لاشيء. شظايا بالأمس واليوم دخان.

ورمادٌ على أديم الأرض، رمادٌ وجثثُ أطفالٍ صغيرة، كتوابيتهم التي ناموا فيها الآن، بعد أن أذنت دقة الجرس الأخيرة بانقضاء الحلم على أسفلت شارع بغداد في "الهارثة"، حيث البصرة جنوباً.

كل الطرق في العراق تأخذك إلى المقابر، وأولها دروب الذاكرة، تلك التي تطوفها الأشباح. أين يقفُ الموتى بيُتْمٍ على رصيفٍ مكسور، ينتظرن\ون من يدلهن\م إلى باب من كانوا "هناك" قبل أن تُخلع بقدوم ما لن تسمهِ هذه اللغة الصماء.

مقالات ذات صلة

هناك هاوية عند حافة النطق، بين فكرٍ تصرخُ بهِ أشباحُ الضيم وفم يُتمتمُ أمام الخراب. كم مشينا إلى مدارسنا وجثثُ المجهولين لاحت مُمددةً على أرصفة لعبنا عندها يوماً. امرأةٌ هنا، رجلٌ هناك. ويبدأُ الدرس، مقعدٌ فارغ، أين فلان؟ ثُم رشقة من الرصاص، مُلثمٌ عند ملعب كرة السلة، ورتلٌ أمريكيٌ معطوبٌ على الطريق الدولي إلى عمّان، وجْهة العراقي في رحلةِ هباءاتٍ لا تنتهي. آهٍ "ما أقدمَ هذا التسجيل الباكي" يا سيّاب!

أنا أكتبُ عن أطفالٍ دهستهم شاحنة على شارعٍ عام في طريق عودتهم من المدرسة، حيث لم تُشمل سلامتهم بالذكر، سهواً، في مخططات النهضة النيوليبرالية للعراق الجديد وكتابات المأجورين.

أريد أن أقول ما لم تقلهُ صرخاتُ أُمهات الطلبة بعد، لحظة الخرس خارج إطارِ الصورة المزدحمة باللطم العراقي المتجدد، مُنذُ أور يا ألله، على موتٍ سيكرر الزيارة والنسوة يُولولن. في حُجراتٍ صغيرة، علتْ صورٌ تُزينها أشرطةٌ سوداء، كهذا الأُفق الضيق كالقبر الذي يلوح أمام نهران عمر، وارتفع البكاء.

ماذا عن كرة القدم بعد أذان العصر، من ستلعب مع بنات الجيران هذا المساء، ولمن ثياب العيد؟ هذه مرثية لكل القصائد التي لن يكتبها أطفال "الهارثة"، ولن تولد.

أنا أكتبُ عن أطفالٍ دهستهم شاحنة على شارعٍ عام في طريق عودتهم من المدرسة، لم تُشمَل سلامتهم بالذكر، سهواً، في مخططات النهضة النيوليبرالية للعراق الجديد وكتابات المأجورين. نحن أمام عراقين: واحدٌ مُتخَيل، يحلبهُ أصدقاء المنطقة الخضراء، قادة العصابات وعراقيو المهجر في قاعات فندقي بابل والرشيد، وعراقٌ آخرٌ في الهارثة، حيثُ الفاجعة.

____________
من دفاتر السفير العربي
عشـرون عامـاً على الحرب على العـراق
____________

وَشَمَتْ واشنطن العراق بإساءةٍ تعيشُ اليوم في مسرحِ الجريمةِ هذا الذي ورثناه، حيثُ قُنِّن الفلات ضمناً، لترتفع مراكزُ التسوق وأسعار الوقود رفقة الفقر والانتحار الذي يتم خلسةً عند الفجر والأطفال نيام. الآفٌ من النازحين، أحياءٌ مُدمَّرة بالكامل، عقاراتٌ سُلبت، آثارٌ هُدمت، لكن لنسمع قليلاً من التشدق عن الأعمار تحت القصف الأمريكي-التركي- الإيراني. يبدو أن حالاً من الملل والدوخة أصابت الكَتبة في واشنطن ولندن، الأمر لا يتعلق بالتطبيل فحسب. هُناك من يهلل من عرب المهجر لضربات "المقاومة" ضد الكيان الصهيوني مثلاً، متناسين الدم الفلسطيني الذي سال في بغداد بُعيد الاحتلال. أم أن " لأصدقائنا" نيةً للتدريس في الكوفة بدلاً من بيركلي الفصل القادم. وإذا ثار الجياع كتبوا، بالعربيةِ طبعاً، لقارئهم المشرقي الأول، في "طريق الشعب" نصرةً للمظلومين؟

نحن أمام عراقين: واحدٌ مُتخَيل، يحلبهُ أصدقاء المنطقة الخضراء، قادة العصابات وعراقيو المهجر في قاعات فندقي بابل والرشيد، وعراقٌ آخرٌ في الهارثة، حيثُ الفاجعة.

ثُم أين الصحافيون السواح من واقع المُدن والأحياء "الطرَفية" في بغداد وأربيل والجنوب؟ أم أن على الموت العراقي أن يكون مُدهشاً وصاخباً كي يكتسب أهميةً هنا؟

للشارع حديثٌ آخر. لم ينس العراقيون أحمد الجلبي وكنعان مكية، ولن يغفروا لمن يبتز واقعهم اليوم. أمام تَسليع العراق في دكاكين البحوث، لنتذكر ما كتبه ثيودور أدورنو في نصٍ عن "التقدم" وفالتر بنيامين: أن التقدم لا يعني أبداً الرضوخ للتيار السائد، بل مقاومة تغلغله على جميع الصعد.

لملموا عار فضيحتكم، مللنا.

مقالات من العراق

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...