"تماسي" رمضان في اليمن: الممارسة وأنساقُ التحوُّل

قبل ارتباط هذه الممارسة بخصوصية الليالي الرمضانية، كانت تحيةً مسائية سائدة في ليالي سائر الشهور، متعددة المضامين التي من بينها مضامين سياسية واجتماعية، احتفظت بها عدد من نصوص "التماسي" التي توارثها التداول الشفاهي، ورددها الأطفال والكبار من دون وعيٍّ بمضامينها.
2024-03-21

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
من تماسي رمضان، اليمن.

"تماسي رمضان" (جمع "تَمْسِيَة") هي ممارسة اجتماعية يمنية خاصة بمساءات شهر رمضان، يتم فيها ترديد أهازيج شعبية معينة، في ساحات المنازل وممرات الأحياء والقرى. تؤديها مجاميع من الأطفال، الذين يكونون قد استعدوا لها منذ الأيام الأخيرة في شهر شعبان، وانتظروا بهجتها وما تدره عليهم من نقود وهدايا.

يردد أطفال اليمن، في الأسبوع الأول من شهر الصوم، "التماسي" المعتادة في استقباله. ومع إطلالة أسبوعه الثاني واستمراراً إلى ليلة عيد الفطر، يجوبون الحارات والأحياء المجاورة لمنازلهم، وهم يرددون بصوتٍ جماعي أغاني "التماسي"، في ساحات المنازل:

"يا مسا واسعد الله المسا ** يا مسا جَدَّد الله الكِسا"

"يا مسا جِيتْ أمسِّي عندكمْ ** يا مسَا والجَمالةْ هِيْ لكُم".

تُشيع هذه الممارسة اليمنية بهجة الليالي الرمضانية بطرافةٍ وخصوصيةٍ، كما تضفي طرباً وتسليةً تتجلى في إطلالة النساء والفتيات من نوافذ المنازل والسطوح للاستمتاع بسماعها.

تحيّةُ المساء المتقادمة

قبل ارتباط هذه الممارسة بخصوصية الليالي الرمضانية، كانت تحيةً مسائية سائدة في ليالي سائر الشهور، متعددة المضامين التي من بينها مضامين سياسية واجتماعية، احتفظت بها عدد من نصوص "التماسي" التي توارثها التداول الشفاهي، ورددها الأطفال والكبار من دون وعيٍّ بمضامينها.

مقالات ذات صلة

تضمّنت تلك النصوص إشارات إلى قضايا وحوادث اجتماعية، أو إشارات سياسية وتاريخية، من مثل ورود لقب "الملك"، الذي يعد من ألقاب الحكم اليمنية القديمة، في القرنين الثالث والرابع عشر، وهي الفترة التي تعيد إليها بعض المصادر والمدونات التاريخية النشأة الأولى لهذه الممارسة.

تحوُّلات الوظيفة والدلالة

أوّل تحولات هذه الممارسة، كان فيما استجد فيها من استثنائية وظيفتها، القائمة على خصوصية ارتباطها بالليالي الرمضانية.

في كتابه "الثقافة الشعبية في اليمن تجارب وأقاويل"، يشير الأديب والمفكر اليمني عبد الله البردوني، إلى حظر التجول الليلي الذي كان سائداً في العقود الستة الأولى من القرن العشرين ــ أي في الفترة التي سبقت قيام الثورة اليمنية 26 أيلول/ سبتمبر 1962 ــ كما أشار إلى أن هذا الإجراء كان يبدأ في الساعة التاسعة مساءً، إذ كلّفت السلطات حينها مَن يُنَبِّه العامة إلى موعده، مستخدماً في ذلك دقات الطبول السريعة التي تفرّدت بتسميتها الخاصة "التّمْسِيَة".

وقد حملت هذه التسمية، بوظيفتها التنبيهية هذه، الدلالة على اللحظة التي يجب فيها أن تتوقف الحركة الليلية، التي كانت متوقفة في سياقها الواقعي، لانعدام فرص السهر والعمل، مما يسّر للسلطات تنفيذ قرار حظر التجول الليلي الذي استثنى ليالي شهر رمضان، فكانت عامرة بالأسمار وحيوية الحركة والتنقل. وهكذا برزت سمة جديدة لهذه الممارسة،بانتقالها من الدلالة على السياق الأمني إلى السياق الاجتماعي الروحي والديني، وصيغتها الاستثنائية تحيةً مسائيةً واستهلالاً لحركة ليلية دؤوبة.

تحوُّلات الغاية والسياق

بعد قيام الثورة اليمنية 26 أيلول/ سبتمبر 1962، ظهرت على هذه الممارسة تحوُّلات أخرى. تجلى ذلك فيما استجد من حرية التجول الليلي غير المقيد، وما ترتب عليه من اختفاء وظيفتها التنبيهية الأمنية، ومن ثم التراجع النسبي في "استثنائيتها" الرمضانية.

وفي سياق هذه المعطيات، بدأ التحول في هوية القائمين عليها ــ لا سيما في التجمعات الريفية ــ فلم يعد أداؤها مقصوراً على الأطفال بعد أن امتد إلى الكبار المنتمين إلى فئة المهمشين[1]، الذين امتهنوا هذه الممارسة، فاتسعت مضامينها لتشمل غايتهم في التكسب منها، وما تفضي إليه من صيغِ مدحٍ مبالغٌ فيه، وإشارات صريحة إلى احتياجات أصحابها.

عادة ما تكون نصوص "التماسي"، التي يرددها المهمشون، متضمنةً صوراً من الإشادة بالممدوح والمبالغة في وَصْفِه بصفاتٍ غير متسقة مع واقعه، كأن يوصف بصفاتِ أمير يقيم في قصر فخم، يحيط به حراسه وخَدَمه وحاشيته. بينما يكون في الواقع شخصاً عاديّاً، ومنزله ــ الذي تجري في ساحته "التَّمْسِيَة" ــ من المنازل الشعبية المتواضعة.

برزت سمة جديدة لهذه الممارسة،بانتقالها من الدلالة على السياق الأمني إلى السياق الاجتماعي الروحي والديني، وصيغتها الاستثنائية تحيةً مسائيةً واستهلالاً لحركة ليلية دؤوبة.

بدأ التحول في هوية القائمين عليها ــ لا سيما في التجمعات الريفية ــ فلم يعد أداؤها مقصوراً على الأطفال بعد أن امتد إلى الكبار المنتمين إلى فئة المهمشين، الذين امتهنوا هذه الممارسة، فاتسعت مضامينها لتشمل غايتهم في التكسب منها، وما تفضي إليه من صيغِ مدحٍ مبالغٌ فيه، وإشارات صريحة إلى احتياجات أصحابها.

كما تتضمن هذه النصوص رغبات هؤلاء المهمشين، كالنقود والكسوة وأغصان القات. وهي في كل الأحوال غير ملزِمة للممدوح، الذي يعطيهم ما تيّسر لديه، غالباً ما يكون مبلغاً زهيداً من النقود، وقد يضيف إليه أغصان قات، أو بعض ملابسه التي لا ضير لديه في تقديمها لهم. وعلى وجه العموم، فإن ما يحدد مقدار ما يحصلون عليه ونوعيته، مرتبط بمستوى الممدوح الاقتصادي والاجتماعي.

تظهر على الأطفال سعادتهم بهذه الممارسة، سواءٌ في تحَلُّقِهم حول أفراد المهمشين الذين يرددونها أمام كل منزل، أو فيما يسمعونه منهم من جمل المدح التي تُدْرَجُ فيها أسماؤهم. وقد لا يقتصر هذا الشعور على الأطفال وحدهم، بل قد يشمل بعض الكبار، على إدراكهم ما في سياقاته من مبالغة وبُعْدٍ عن الحقيقة التي يعيشونها.

تحوُّلات التعاطي الاجتماعي

في العقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة، تنامى فتورُ التعاطي الاجتماعي مع ما وصلت إليه هذه الممارسة من تغيرات جوهرية في بُنيتها ومضامينها. إذ صار كثيرون يمقتون مضامينها الجديدة البعيدة عن ماهيتها الرمضانية القديمة. وهو ما يدفع بعضهم إلى المسارعة في إعفاء جماعة "التمسية" فور وصول أفرادها إلى ساحة منزله، كما أنه ــ في الوقت نفسه ــ لا يبخل عليهم بما يمكن أن يقدمه لهم، مما يهدفون إلى الحصول عليه من امتهانهم هذه الممارسة.

ويجسد هذا التغير في التعاطي الاجتماعي، في وجه من وُجوهه، صيغةً متقدمةً من صيغ التفكير وآلياته وأبعاده في الذهنية الاجتماعية، التي تحيل على مستوىً من الاستيعاب للواقع البائس الذي يتشاركه ــ في كثير من الأحوال ــ المادح والممدوح، وإن كان هذا التشارك بنسبٍ متقاربة حيناً وشاسعةِ التفاوتِ أحياناً أخرى.

______________________

  1. المهمشون (فئة السود) في اليمن يُطلق عليهم مصطلح "الأخدام".

مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...