الوجع الفلسطيني و"مفاتيح" الأمل

حينما يجد الفلسطيني أن لا مناص من مغادرته لمنزله، فإنه يعقد أمل العودة إليه طقوساً إجرائية، تبدأ بإغلاقه المُحْكم لباب الدار، ولا تنتهي بالاحتفاظ بمفتاحه، الذي يُعدّ ــ في الآن ذاته ــ احتفاظاً بأمل العودة مهما طال الانتظار.
2024-03-07

عبده منصور المحمودي

استاذ جامعي وشاعر وناقد، اليمن


شارك
طفل يمرر الى اقاربه من فوق السياج الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة . منشورة في جريدة السفير اللبنانية في 3-6-2000

وجعُ الشتات وأملُ العودة إلى الديار سياقان متناقضان، يعيشهما المُهاجر الفلسطيني منذ اللحظة الأولى التي يغادر فيها وطنه المغدور بجرائمَ محتلٍّ متمادٍ في اقتراف المزيد منها، على مدار عقود من المأساة المتجددة. من بداياتها الأولى، كانت تلك المجازر التي تعرضّت لها عددٌ من القرى الفلسطينية عام 1948، ومن أهمها قرية "الطنطورة" الساحلية جنوبي حيفا، التي كانت مأساتها سياقاتٍ سردية في رواية الكاتبة رضوى عاشور "الطنطورية".

من الدِّعة إلى كارثة الشتات

كانت تلك القرية تعيش هانئة في حياةٍ ذات خصوصية اجتماعية وطبيعية، جميلة ومطمئنة في دعة وأمان متقادم، قبل أن يفتك بها قرار التقسيم، ويُلحقها بسلطة الكيان الاحتلالي. إذ كان ذاك القرار فاتحةً لعمليات استهدفت القرى الفلسطينية، احتلالاً وتهجيراً قسريّاً لأهاليها. ثم زادت حدّة تلك العمليات، فأسفرت عن سقوط مدينة حيفا، ومن ثم استشهاد عبد القادر الحسيني في معركة الدفاع عن "القسطل"، قبل أن تسقط هي الأخرى في يد المحتل، الذي استمرّ في وحشيّته فهاجم دير ياسين، وعكا وصفد، وصولاً إلى قرية الطنطورة.

سُردت أحداث هذه القرية على لسان رقية، شخصية رواية رضوى عاشور. فذات ليلةٍ وبينما كانت هي وأمها وحدهما في المنزل ــ ولا علم لهما أين أبوها وأخواها ــ فوجئت بأمها توقظها من نومها. كانت الأم على أهبة الاستعداد لمغادرة الدار، فأحكمت إغلاق الباب من الخارج، ثم اتجهت هي وابنتها إلى بيت جارهم. بعد ساعات داهم بيت الجار رجال مسلحون، واقتادوا كل مَنْ فيه إلى الشاطئ، ليتم نقلهم على شاحنات إلى الفريدس، التي تبعد عن الطنطورة أربعة كيلو مترات. وفي اللحظة التي كانوا فيها صاعدين إلى شاحنات الترحيل القسري، صُعِقتْ رُقية بمشهدِ رعبٍ فاق عمرها الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة. فقد رأت أباها وشقيقيها جثثاً هامدة، وسط مجموعةٍ من جثث شباب البلدة ورجالها.

من صيدا، إلى صيدا

حملت الشاحنات المهجّرين من قرية الطنطورة إلى الفريدس، لكنهم لم يستقروا فيها، فقد كانت محطات اغترابهم القادمة هي طولكرم ثم الخليل. بعدها تفرقت بهم السُّبُل، كلٌّ راحلٌ في اتجاهٍ يصل من خلاله إلى أحد معارفه أو أقاربه خارج الوطن المكلوم. وقد كانت صيدا في لبنان، واحدة من الجهات التي استقرت فيها عددٌ من الأسر المُهَجّرة.

تناسلت الصراعات، فكانت من يوميات الحياة في صيدا، لا سيما تلك الصراعات التي عمل الاحتلال على إشعالها، ومن ثم دخوله المباشر فيها، فكان من كارثية ذلك اختفاء زوج رقية إلى الأبد.

كبر أولاد رقية، فغادر الصادق للعمل في الخليج وحسن للدراسة في مصر، وبقي معها عبد الرحمن ومريم. ثم كان عليها الاستعداد لسفر جديد، وُجْهَتُه مدينة أبو ظبي" التي أقامت فيها في منزل ابنها الصادق. انتهت مريم من دراستها الثانوية، فقررت استكمال تعليمها الجامعي في الإسكندرية، حينها اضطرت الأم إلى مرافقة ابنتها والعيش معها حيثما استقرت بها رحلتها الدراسية. وعلى ذلك لم تكن الإسكندرية هي محطة الاغتراب الأخيرة لرقية. فبعد انتهاء ابنتها من تعليمها الجامعي كانت العودة تستدرجها ــ لا إلى أرض الوطن ــ ولكن إلى محطة اللجوء الأولى، صيدا، التي سافرت إليها، وفيها انتهزت فرصة السماح للفلسطينيين بزيارة أهاليهم من خلف الأسلاك الشائكة. ذهبت مع الزائرين، وهناك فوجئت بابنها حسن، ومعه زوجته وطفلته الصغيرة رُقيّة، سَمِيّتُها.

إرث المفاتيح والأمل

حينما يجد الفلسطيني أن لا مناص من مغادرته لمنزله، فإنه يعقد أمل العودة إليه طقوساً إجرائية، تبدأ بإغلاقه المحكم لباب الدار، ولا تنتهي بالاحتفاظ بمفتاحه، الذي يُعدّ ــ في الآن ذاته ــ احتفاظاً بأمل العودة مهما طال الانتظار.

ومثّل المفتاح ــ بطقسه الإجرائي وحيثياته الرمزية إلى إِيابٍ قادم ــ نسقاً مهمّاً من أنساق النضال الذي تحرص الأم الفلسطينية على تعليقه في رقبتها، وكلما ذاب حبله أتت بحبلٍ جديد، وعلقته به، وحينما تفارق الحياة ينتقل المفتاح إرثاً قيّماً إلى ابنتها. وهي الحال التي آل إليها المفتاح إرثاً إلى البنت رقية في رواية "الطنطورية".

حملت الشاحنات المهجّرين من قرية الطنطورة إلى الفريدس، لكنهم لم يستقروا فيها، فقد كانت محطات اغترابهم القادمة هي طولكرم ثم الخليل. بعدها تفرقت بهم السُّبُل، كلٌّ راحلٌ في اتجاهٍ يصل من خلاله إلى أحد معارفه أو أقاربه خارج الوطن المكلوم. وقد كانت صيدا في لبنان، واحدة من الجهات التي استقرت فيها عددٌ من الأسر المُهَجّرة.

اختارت المفتاح هديةً لسمِيّتها الصغيرة، فانتصرت بذلك للأمل المنتظَر، الذي سلّمته إلى الحفيدة الصغيرة لتحافظ عليه وتعمل على تحقيقه أو توريثه لأجيال قادمة.

ارتقى المفتاح الفلسطيني وحبله إلى مرتبة القلادة الرئيسة الدائمة على صدر المرأة الفلسطينية، فكان الأكثر أهمية من أيّة قلادة سواه. لذلك انضم إليه سلسالُ رقية الذي جاءها هديّةً، من غير أن يستحوذ على مكانته.

كان المفتاح والسلسال معاً مادةَ الصياغة الجوهرية لذروة الحكاية، التي قام عليها المشهد الأخير بعد وصول رقية إلى صيدا، ومشاركتها في زيارة المهاجرين لأهاليهم من خلف الأسلاك الشائكة.

مقالات ذات صلة

لم تكن تتوقع رقية أن يكون في الجهة الأخرى ابنها حسن المهاجر في كندا، الذي لم تره منذ سنوات، ولا تعلم متى وكيف وصل إلى فلسطين. ومن خلال هذه التيمة تحديداً (عدم توَقُّعها)، أُضْفِيَت على المشهد حيوية متسارعة ومتجانسة مع خصوصية النهاية، التي تشَكَّلتْ من موقفٍ يمُدُّ فيه حسن بطفلته إلى أمه، تأخذها منه فتحتار في اختيار إحدى القلادتين هديةً لحفيدتها، لكن سرعان ما يستقر قرارها على قلادة المفتاح، إذ تشعر أن اللحظة مناسبة لنقل الإرث الثمين إلى الجيل القادم، فتسارع إلى إنجازه. اختارت المفتاح هديةً لسمِيّتها الصغيرة، فانتصرت بذلك للأمل المنتظَر، الذي سلّمته إلى الحفيدة الصغيرة لتحافظ عليه وتعمل على تحقيقه أو توريثه لأجيال قادمة.

الصحافة وفن الرسم

لم يقف شغف رقية بفن ناجي العلي الذي أبدعه في حياته - وحبها لشخصيته، "حنظلة"، وكذلك حبها لأم هذه الشخصية، بما تحمله من رمزية إلى كل أم فلسطينية محافِظة على مفتاح دارها - وإنما امتد إلى طيفه بعد وفاته، إذ تمثّل لها شاباً موهوباً في الرسم. حينما كانت عائدة بمعية الزائرين من خلف تلك الأسلاك، جلس الشاب إلى جانبها في الباص، فتح دفتر رسوماته، وأطلعها على صفحةٍ، كان قد رسم فيها مشهدَ تسليمها المفتاح إلى حفيدتها. سألتْه عن اسمه فرد بأن اسمه "ناجي"، ثم انقطع لقاؤها به، حينما صحت على صوتٍ يتحدث عن وصولهم.

اضطرب شعورها بين الحقيقة والحلم، فعزز هذا الاضطراب من فكرتها في أنها لم تستطع التمييز بينهما، أو قل عزز رغبتها في التغافل عن تمييز الحقيقة من الحلم، كما عزز من تشَبُّثها بإمكانية الحقيقة والاستعداد للبحث عنها منذ اليوم التالي في المخيم.
لم تنل سياقات المأساة وكثافتها من الرمزية الكامنة في مفاتيح الفلسطينيين التي يحتفظون بها، ولا يُفرِّطون من خلالها في أمل العودة إلى وطنهم، ولا في توريثهم لأجيالهم المتعاقبة هذا الأمل وطاقته الرمزية الكامنة في مفاتيح الديار.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

اليمن: كوارث السيول في "تهامة"

اتّسمت الاستجابة الرسمية في تعاطيها مع الكارثة، بمستوى متواضع، يتجلّى من خلاله الأثر البالغ للحرب والصراعات السياسية، في الوصول إلى هذه الحال البائسة التي ظهرت عليها الجهات المسؤولة في حكومتي...