وقَّعت مصر على أكبر اتفاقية استثمار مباشر في تاريخها، يحصل بموجبها الصندوق السيادي الإماراتي ِعلى حق تطوير 170 مليون متر مربع من أفضل شواطئ الساحل الشمالي في "رأس الحكمة". وقد صحب احتفاء المسؤولين بحجم الاستثمار أملًا في إخراج مصر من عثرتها الاقتصادية، غياب تفاصيل المشروع وسعر الأرض وحيثيات حصول الإماراتيين على 65% من العائدات وكيفية تعويض أصحاب أراضي المشروع.
تجسِّد صفقة رأس الحكمة ظاهرتين غلبتا على صفقات الاستثمارات الكبرى في مصر منذ 2022: استحواذ الخليجيين على أصول متميزة (من حيث القيمة التاريخية أو لتميز الموقع أو لكونها شركات مستقرة رابحة وواعدة) وغياب الشفافية والرقابة عن هذه الصفقات.
التحول من المساعدات إلى الاستثمار
زادت الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة كوفيد من هشاشة الاقتصاد المصري المثقل بالديون والتضخم والسياسات الاقتصادية الخاطئة، ما أدى إلى لجوء الحكومة المصرية إلى طلب المساندة من دول الخليج. ولكن بعد إمداد مصر بما يقدر بأكثر من 100 مليار دولار في أشكال مختلفة من المساعدات منذ عام 2013 وحتى 2022، بدأت الحكومات الخليجية تنتقد كيفية استغلال الحكومة المصرية لتلك الأموال وقرروا التحول من الدعم غير المشروط إلى استثمارات تستهدف الربح.
هل هي استثمارات عادلة؟
طرحت صفقة "رأس الحكمة" مجموعة من التساؤلات حول عدالة المقابل المادي فضلًا عن التبعات البيئية والاجتماعية للمشروع وذلك في ظل غياب أية معلومات محددة حول نوعية الاستثمارات بالإضافة إلى سابقة صفقات عليها العديد من علامات الاستفهام.
علي سبيل المثال في 2022 استحوذت الصناديق السيادية السعودية والإماراتية معًا على إجمالي يقدر بـ52% في شركة الإسكندرية لتداول الحاويات التي تسيطر على النشاط في ميناء الإسكندرية والذي تمر من خلاله 60% من تجارة مصر الخارجية. وكان إجمالي ما حصلت عليه الحكومة المصرية من صفقتي البيع 6 مليارات جنيه في حين أن أرباح الشركة في 2023/2022 بلغت 4 مليارات جنيه.
كما باعت مصر 41.3% من شركة أبو قير للأسمدة (ثاني أكبر شركة مقيدة في البورصة المصرية وأكبر منتج للأسمدة في مصر) لصندوقي السيادة السعودي والإماراتي مقابل 14 مليار جنيه وهي نفس قيمة أرباح الشركة في العام المالي المنتهي في يونيو 2023.
وتمتلك الصناديق الخليجية 45% من شركة مصر لإنتاج الأسمدة "موبكو" والشركتان شملهم تقييم فوربس لأفضل 50 شركة عاملة في السوق المصرية. وتتمتع الشركتان بالدعم الحكومي للغاز، الذي تم إقراره لخفض تكاليف الزراعة على الفلاحين، والذي يذهب الآن إلى دعم أرباح الصناديق الخليجية.
وفي السياق نفسه باعت الحكومة المصرية إجمالي 51% من الشركة القابضة المالكة لسبعة فنادق تاريخية (تتضمن: ماريوت الزمالك ومينا هاوس وسيسيل الإسكندرية وونتر بالاس الأقصر) لشركة "آيكون" التابعة لمجموعة طلعت مصطفى، وقد قامت مجموعة أبو ظبي القابضة وأدنوك بشراء 40.5% من أسهمها، يناير 2024. وجاءت الصفقة بعد شهور قليلة من تأكيدات وزير قطاع الأعمال العام على أن الفنادق الأثرية التي تجاوز عمرها الـ100عام ليست مطروحة للبيع لصعوبة تقييمها؛ "فهي لا تقدر بثمن"، على حد قوله.
تمت معظم هذه الصفقات بالأمر المباشر دون عقد مزايدة لاختيار أفضل العروض. ولم يتم الإعلان عن معايير الاختيار بين الطرح في البورصة أو البيع لمستثمر إستراتيجي. كما غابت طريقة حساب القيمة العادلة للسهم في حالة البيع من خلال البورصة ما يجعل من الصعب تقييم مدى عدالة الصفقات. وبالطبع لم يتم طرح أية صفقة على البرلمان المصري.
الشفافية والمحاسبة ضرورة وليست ترفًا
علي الرغم من احتفاء الدولة بصفقة رأس الحكمة وأثرها في تخفيف حدة أزمة الموارد الدولارية فإنها لم تعلن عن خطتها لإنفاق الدفعة الأولي من الصفقة والتي بلغت 15 مليار دولار في ظل فجوة دولارية تقدر بـ25 مليار حتى 2028 وإجمالي ديون خارجية 164 مليار دولار. ولم يوضح المسؤولون كيف ستختلف عوائد هذا المشروع عمَّا كان متوقعًا من استثمارات مدينة العلمين والتي بلغت 185 مليار جنيه. وأخيرًا، لم توضح أية جهة ما هي التأثيرات البيئية للمشروع والتي لم تعد ترفًا يخص رواد الساحل الشمالي فقط ولكنها أيضًا جزء من مشكلة تآكل الشواطئ المصرية وتبعات ذلك علي حياة المصريين.