الثمن مهول، يَدفع إلى الجنون من فرط تجاوز ما يجري لأبشع وأفظع ما يمكن للخيال أن يذهب إليه. وهو يجري على تلك البقعة الصغيرة (364 كلمتر مربع)، والجميلة، التي يسكنها مليونان وربع مليون إنسان.
غزة المدهشة في ثرائها التراثي والعمراني على مر الزمن، في احتضانها لتنوعٍ عظيم يماثِل ما في باقي فلسطين، وللجامعات والمراكز الثقافية والمعارض والحرف والزراعات، ولأشكالٍ مبدِعة من القدرة على التدبّر وسط جحيم ممتدٍ يلفها، غزة هذه جاءت طائرات الغزاة الإسرائيليين وجنازير دباباتهم لسحقها، واستباحها جنودهم قتلاً وتنكيلاً إلى حدٍ دفَع العالم، الرسمي منه والشعبي، إلى استنكار ما يقع عليها واستحضار أفعال النازية. 30 ألف شهيد، 70 في المئة منهم أطفال ونساء، وما يتجاوز 80 ألف جريح حتى الآن بعد أربعة أشهر من المأساة. وما زالت المذابح مستمرة، وما زال الغزاة يتباهون بحجب الماء والطعام والدواء عن السكان المحاصَرين، ويرددون في كل مناسبة نيتهم بالإبادة التامة.
قاومت غزة وسجلت بطولات في الصبر وفي الفعالية القتالية ندر مثيلها. قاومت وانتزعت تأييد العالم، بشعوبه المضطهدَة والمفْقرة وبشعوبه المقيمة في بلدان يُفترض فيها توافر الرفاهية، ولكنها تتجه إلى مزيد من استغلال ناسها وتهميشهم وقمعهم إنْ اعترضوا، ومزيد من نهب الأرض وتخريبها لو كان ثمة ما تبقّى للنهب والتخريب بعد كل تلك القرون من الاستباحة..
سحَقنا الألم على غزة وأهلها وعلى كل فلسطين. ولأن العجز كان يضاعف الألم، فقد سعينا إلى مرافقة غزة بواسطة السلاح الذي بين يدينا: الكلمة والكشف عما يجري ومقارعة الرواية المزورة، وإبراز الوجه المشرق، المليء بالشجاعة وبالكرامة لكل الناس، شيوخاً ونساءً وأطفالاً، وبشكل مضاعف لكلّ من قرر التضحية بنفسه فداء للآخرين، وإسعافاً لهم، وتخفيفاً عنهم. وهذا قليل القليل مما تمكّنا منه بكل تصميم، وهو لم يبدّد الحزن ولا داوى العجز.
وإننا إذ نقدِّم هذا الملف التجميعي لحفظ الذاكرة، ننحني إجلالاً أمام أهل غزة، الشهداء منهم والأحياء، وكذلك أمام أهل جنين وطولكرم ونابلس البواسل في الضفة الغربية الذين يسعون بلا حساب. وهو دَين في رقابنا جميعاً، فلسطينيين وعرباً وأحراراً من كل العالم.