قبيل المقابلة الكروية بين المغرب وساحل العاج، حفل المتن الفايسبوكي المحرر فوراً بكثرة الطلبات والدعوات ألا يصيب "التقواس" المنتخب. التقواس هو عين شريرة مثل قوس ترسل سهماً مسموماً يستهدف الخصم المحسود.
ما زال للتقواس والنحس والتابعة تأثير قوي في سلوك المغاربة. فهم يفسرون كلّ فشل بأن هناك تابعة ونحس. النحس هو أن يذهب طير الحظ في اتجاه سيئ ومضر، والتابعة هي الكرامة العقابية التي يطلقها الولي من قبره للانتقام ممن لم يف له بالنذر.. ويقدم السرد الديني أمثلة كثيرة لمن حطمتهم التابعة. والتابعة هي نقيض البركة. ينتج الولي البركة لمن يرضى عنهم ويرسل التابعة للذين أغضبوه.
لحماية النفس من "التابعة"، يحرص زوار الضريح على تقديم القرابين وعلى تذوق نصيبهم من لحم ذبيحة الضريح، ساخنة، لتحميهم البركة من التقواس والتابعة. وآخر مثال لاقتصاد القبر ورأسماله الرمزي مجزرة ناقة حية تم نهشها في ضريح مولاي إبراهيم قرب مراكش في 22-1-2017.
لتأكيد الخوف من العين رسمياً، نفى مشجع شهير ــ في نشرة أخبار رئيسية مباشرة على قناة تلفزيونية حكومية ــ أن يكون قواساً، وأكد أنه فسخ الخصوم، أي أبطل سحرهم ببخور من نوع معين يدل اسمه على وظيفته: "الفاسوخ".
بفضل ذلك جاءت البركة وانتصر المنتخب المغربي، ومرّ للدور الثاني لأول مرة بعد ثلاثة عشر عاماً. حتى المدرب الفرنسي للمنتخب المغربي تأثر فأعلن "المغاربة طردوا نحس 13 عاماً". للرقم 13 دلالة سيئة، لكنه صار مصدر سعد.
كشفت جريدة "اليوم السابع" أن لدى الحارس المصري عصام الحضري جني يُدعى "جمايكا" وهو السرّ وراء تألقه. وبعد تأهل الفريق للنهائي، أعلن صحافي مصري جاد أن حارس مصر سمع صوت الرئيس عبد الفتاح السيسي في آخر ضربة جزاء يقول له "على شمالك يا حضري"، وهكذا صدّ الحارس ضربة الجزاء!
يكشف خوف المغربي من التقواس (العين الشريرة) مدى شعوره بأن الآخرين يضطهدونه، وإن لم يتمكنوا من إلحاق الضرر به بأيديهم فإن عيونهم ستتكفل بذلك. المفارقة هي أنه حتى لو حصل المغاربة على البركة يشتكون من التابعة لأنهم يعتقدون أن إظهار الفرح بالفوز سيجلب لهم الشر.
تجد هذه التصوّرات أرضية خصبة في نفسية التقليد وسذاجة الجمهور ومعايير التصديق الجماعي التي تشكّل خيال المغربي ومعجمه المقتبس من محيط الضريح. لقد هيمنت بنية الزاوية على نظام التفكير وصار المغربي ينظر للعالم من قبر الولي.. ويمثل كتاب "التشوف إلى رجال التصوف" لابن الزيات التادلي متناً ما - قبل فايسبوكي، يمتدّ سلوكياً في حياة المجتمع حتى اليوم.
آخر مثال حي، رحيل شيخ الزاوية البودشيشية يوم 18-1-2017 وقد حدد وريثه وولي عهده.. وصار كلّ قادة الأحزاب ورجال الملك خلف الجنازة صفاً صفاً على الرغم من كل الخلافات على تشكيل الحكومة المعطَّلة منذ أربعة أشهر..
يفسّر المسنون استقرار المغرب بكون الأولياء الصالحين يحمون البلد. هكذا تسمح يقظة الأولياء للرعايا المغاربة بالاسترخاء. ما دام القبر يقوم بمهمته فبإمكان الرعايا تجنب القلق.. خاصة وأن ترتيب المغرب في كرة القدم أفضل من ترتيبه في سلم التنمية البشرية.
مثال آخر للامتداد
ترأس رئيس البرلمان اجتماعاً دون حضور الحكومة ودون علمها، لمناقشة مسألة، واعتبر محلل دقيق ذلك مجزرة دستورية وأضاف "لا يختلف عن مجزرة الناقة الصغيرة التي ذُبحت في أحد المواسم الدينية".
تتكشف في مواسم الكرة ومواسم الأولياء البنى الذهنية العميقة في لحظات الهيجان العاطفي، وتمكِّن هذه البنى من فهم وتفسير سلوكيات الأفراد والجماعات أفضل بكثير مما تفعله بيانات الأحزاب والنقابات والجمعيات الحقوقية التي تتسم بطابع مطلبي أكثر منه وصفي، أي أنها تتحدث ليس عما يجري بل عما ينبغي أن يكون. وهذه خاصية جُلّ ما تنشره الجرائد. ولا يوجد ما يستفز السوسيولوجي البصاص ويفقده أعصابه أكثر من الإطناب فيما "ينبغي".. وهو لا يطالع أي نص يبدأ بـ"علينا أن..." وهلمّ ثرثرة وأماني.
المهمّ، انتصر المنتخب المغربي على النحس وانتقل لدور الربع لملاقاة مصر، وكتبت صحيفة "اليوم السابع" المصرية أن المغاربة يعتمدون السحر للفوز. وشرحت بجدية "وتسيطر أعمال السحر والشعوذة على اللقاء، لاسيما أن السحر والشعوذة وتسخير الجان أشهر ما يميز دولة المغرب، وينتشر في كل منزل، وتمارسه كل الفئات والأعمار"، ويشمل الأندية والمنتخب، والمغاربة "هم ملوك السحر الأسود وأسياد القدرات الخارقة".
هذا التشكّل أو النموذج، سواء كان حول الضريح أو في ملعب كرة القدم، يفلت من كل تحليل عقلاني، وهو الذي يفسر الانتشار الكاسح للخزعبلات على الإنترنت.
اعتبر المغاربة أن الجريدة المصرية تكهنت بخسارة المنتخب المصري، وبناء عليه كتبت تبريراً تمهيدياً لتعزية الشعب بعد الخسارة. وردّ آخرون بسخرية: إذا كانت مصر أم الدنيا فالمغرب أبوها.
وهذا من تجليات احتقار كل مؤنث.
بدأ المنتخب المغربي يستعد لملاقاة مصر. كثرت التحليلات، وفي جوهرها هي تكهنات من الكهانة، تكهنات تحرَّر كأخبار وتطالَع باعتبارها معلومات ذات مصداقية.. الفضول يشجع على تصديق التكهن خاصة حين يصدر عن شخص مشهور. الكهانة ليست فعلاً عقلانياً بل تكشف الحاجة للعرَّاف.
انتصرت مصر على المغرب. وكتبت الصحف أن المنتخب المصري فكّ عقدة وهزم نحساً دام واحداً وثلاثين عاماً. وكشفت "اليوم السابع" أن لدى الحارس المصري عصام الحضري جني وعفريت يدعى "جمايكا" وهو السرّ وراء تألقه..
وبعد تأهل مصري للنهائي أعلن صحافي مصري جاد أن حارس مصر سمع صوت الرئيس عبد الفتاح السيسي في آخر ضربة جزاء يقول له "على شمالك يا حضري"، وهكذا صدّ الحارس ضربة الجزاء. هذه من كرامات السيسي. ويفسَّر الشك في الكرامات بالإلحاد والزندقة. للإشارة فإن أولياء مغاربة كثيرين استقروا بمصر مثل سيد أحمد البدوي بعد أن تلقى والده هاتفاً في منامه قبل سبعمئة عام.
في كرة القدم، يجري تفسير الفوز والخسارة بمبررات خارج كروية. لا مكان للتدريب والتنظيم والتخطيط في النتائج المحصل عليها. هناك تعامٍ تام عن المعطيات وعجز تام عن القيام بأي نقد ذاتي لأن النحس يتحمل كامل مسؤولية الفشل. هذا التشكل أو النموذج، سواء كان حول الضريح أو حول ملعب كرة القدم، يفلت من كل تحليل عقلاني، هو ما قبل العقل العلمي، ويعود لعصر الخرافة، وهو لعب خارج الأرضية الخضراء، لعب في ذهنية المتفرّجين وتصوّراتهم وتفسيراتهم للوقائع..
إن كانت للمغاربة قدرة خارقة فهي إنتاج الطماطم والبطيخ، وقد باعوا منهما بنصف مليار دولار للاتحاد الأوروبي!
وهو الذي يفسر الانتشار الكاسح للخزعبلات على الإنترنت. وحاليا تتيح مواقع التواصل الاجتماعي الفرصة لكل واحد ليعبر فيكشف عن خراقته. زادت الفجوة بين الرأي وبين الواقع، فملأها الخطاب الهامشي. صارت الكرة توجّه الشعب. لم تعد النخبة التي ساءت سمعتها هي التي تشكل الرأي العام.. وقد منح الإنترنت الكلمة للعامة، توقف التعامل مع الحدث بالفكر لصالح العواطف الآنية الهائجة. وليس صدفة أن مواقع صحافية كثيرة تمنع التعليق لتجنب انكشاف شعب المعلقين كعنصريين قبليين. المعطى الذي لا يتزعزع هو أن الخطاب الديمقراطي في الإعلام الرسمي كان مجرد قشرة لإخفاء عفن الخطاب الهامشي الرهيب.
في مصر، انتقل منطق الخطاب الهامشي المشوه إلى التلفزيون لأن هناك قنوات خاصة كثيرة. في المغرب بقيت الدولة محتكرة للتلفزيون، وهناك في البلاد ثلاث قنوات فقط، بينما تمدد الخطاب الهامشي في الإذاعات الخاصة وهي لا تملك تأثير التلفزيون، لذا لا يقف الكثيرون على بؤسها.
المهم، فازت مصر فبدأ المغاربة بالتباكي بسبب أرض الملعب والحظ والحَكم والطقس.. كتب معلق حزين "اللهم اهزم من فاز بالحظ على المغرب". من جهته اعتذر سفير مصر في المغرب عن اتهام "اليوم السابع" للمغاربة بالسحر والشعوذة. هكذا، من فرط التعميم يصير ما قالته جريدة مساوياً لما قالته مصر كلها. يصير شخص ــ صحافي ممثلاً لشعب أساء لشعب آخر. وهذا التعميم هو الذي يفسر تدخل السفير للاعتذار.
لسنوات طويلة، اتُهم المغاربة بقدراتهم الخارقة في الدعارة والسحر. وقد طُردت ريهام سعيد من المغرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2015 عندما حاولت تصوير السحر والشعوذة حول أحد الأضرحة جنوب المغرب. خلاصة القول.. أنه إن كانت للمغاربة قدرة خارقة فهي إنتاج الطماطم والبطيخ وقد باعوا منهما بنصف مليار دولار للاتحاد الأوروبي!