بينما يخفيها البعض تحت أكمام طويلة أو صلابة حزينة، تبدو الحروق وحالات البتر عصية على الإخفاء لدى آخرين. يأتي هذا بعد أن يتجاوز ضحية العنف أو الحرب موته والتئام جرحه ظاهرياً، فيما تساعد الأطراف الصناعية في تغييب الإصابات، حيث نشط عملها كثيرا في مرحلة ما بعد 2003. أقدام وأذرع من البلاستيك الخاص، وعيون من الزجاج، تجعل ضحية الحرب العراقية التي طالت أكثر ملائمة للواقع. أما الجدد من الضحايا فهم يتقاطرون يومياً على صالات الطوارئ في طول البلاد وعرضها، يمكن رؤيتهم في أي مستشفى، فالإصابات متنوعة. ويمكن أيضاً رؤية حالات نقلهم الهستيرية في الشوارع المزدحمة، حيث يتعالى صوت المسعفين بما يشبه النعي لروح الجريح التي يحاولون إعاقة خروجها. المصابون يعالجون بما يكفي لبقائهم أحياء، ويغادرون بعد ذلك لتبدأ ملامح الحرب بالالتصاق بهم بشدة. مشهد تراجيدي آخر يمكن متابعته يتعلق بمقابر الأطراف التي تتطاير في الانفجارات أو يتم بترها، وهي مقابر لا شواهد أو تواريخ أو سجلات.
لا مستشفى عسكري
بالنسبة للجنود، فلا مستشفى عسكري في العراق بالمعنى الحقيقي، لكي يتعالج فيه العسكريون بما يناسب تضحياتهم. يوجد مستشفى ميداني تركه الاحتلال الأمريكي في مطار المثنى ببغداد، وعداه فلم يبقَ من المستشفيات العسكرية قبل 2003 شاخص قائم، أما البناء الكبير على يمين المسرح الوطني في الكرادة، فهو مستشفى عسكري قيد الإنشاء منذ 2009 وتخفي جدرانه التي لم يكتمل طلاؤها قضايا فساد كثيرة. لذلك فمن الطبيعي أن يصادفك ضابط يئن إلى جوارك في أي مستشفى عمومي وربما شعرت حياله بـ"الحزن الوطني"، لأن في العراق أنماطاً متعددة من الحزن. يتم إخلاء الجنود المصابين من الجبهات بطرق سريعة، ليس لها في الغالب علاقة بالأعراف الطبية. بعضهم يُحمل في شراشف داخل سيارات عسكرية وآخرون ينقلون بطائرات مروحية على وجه السرعة تبعا لرتبهم الرفيعة أو مواقعهم المتقدمة في القتال.
يتعالى صوت المسعفين في الشوارع بما يشبه النعي لروح الجريح التي يحاولون إعاقة خروجها. وأما مقابر الأطراف التي تتطاير في الانفجارات أو يتم بترها، فلا شواهد لها أو تواريخ أو سجلات
منذ 2011، ترعى منظمة الصحة العالمية برنامجاً لإحصاء المعاقين في العراق مع وزارة الصحة. وعلى الرغم من مرور عام على البدء بالتسجيل الذي يتم فيه حصر أعداد المعاقين بسبب الحرب والعنف والهجمات الإرهابية، إلا أن النتائج لم تعلن. احد منافذ التسجيل في جهة الكرخ من بغداد أعلنت وبشكل منفرد أنها قامت بتسجيل 2593 معاقا ومعاقة غالبيتهم من ضحايا السيارات المفخخة والعبوات الناسفة خلال 2016 فقط. بعض المسئولين الحكوميين تحدثوا قبل سقوط الموصل 2014 عن أرقام تقريبية لأعداد المعاقين في العراق تتجاوز الثلاثة ملايين نسبة العجز لدى غالبيتهم أكثر من خمسين في المئة. أما في المرحلة اللاحقة والتي شهدت آلاف الإصابات نتيجة قتال التنظيم المتطرف، فلا معلومات عن عدد المعاقين أو نسب عجزهم .
حقوق ذوي الإعاقة!
منذ خمسة أعوام انضم العراق إلى الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، وبعد ذلك بعام، أقر مجلس النواب قانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة. وعلى الرغم من أن الاتفاقية والقانون يلزمان الحكومة بتأسيس هيئة مستقلة للمعاقين، إلا أن هذا الأمر لم ينفذ.
الأسوأ من هذا أن شبكة الحماية الاجتماعية التي تديرها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، والتي يقع على عاتقها تحمل مسؤولية من هم تحت مستوى الفقر من ذوي الإعاقة والأرامل والأيتام قامت بقطع رواتب الإعانة التي لا تتجاوز ما يعادل الأربعين دولارا في الشهر عن أكثر من 450 ألف شخص غالبيتهم من المعاقين.
صديقي مخرج الأفلام الوثائقي والذي لسعته السيارة المفخخة قبل أعوام دون أن تقتله، يحاول إخفاء التشوه الذي أصابه. من ناحية أخرى هو لا يحاول إخفاء الأثر الذي تركه الإرهاب في روحه. أستمع دائما لحديثه الطائفي وأنا على يقين أن صوته يخرج من جروحه مبللاً بالذكرى الأليمة. مثل صديقي هناك الكثيرون، وبعضهم خرج لقتال داعش بعد 2014 بذراع أو قدم واحدة. عدم موتهم في الصدام الأول مع الإرهاب يشعرهم بان المعركة لم تكتمل. بعض هؤلاء أكملوا المعركة المصيرية على نحو تراجيدي وقاموا بحماية زملائهم من الأصحاء حتى الموت.
الاحتفاء بالحياة
لكن صورة الواقع هذه تتخللها ابتسامات عدة. فمعاقو الحرب والعنف ليسوا سوداويين بالغالب. بعضهم يكافح في الحياة القاسية ويعمل لكي لا يكون عالة على أحد، يبدو أحدهم واسمه جبار وهو مقاتل سابق في الفرقة الحادية عشر في الجيش العراقي، وهو يبيع المناديل الورقية عند الإشارات المرورية المزدحمة كمن يصارع موجة بحواس غير مكتملة، فقد جبار عينه وقدمه جراء انفجار أثناء القتال .
لم يبقَ من المستشفيات العسكرية قبل 2003 شاخص قائم أما البناء الكبير على يمين المسرح الوطني في الكرادة، فهو مستشفى عسكري قيد الإنشاء منذ 2009 وتخفي جدرانه التي لم يكتمل طلاؤها قضايا فساد كثيرة
علاء العيداني، وهو مراسل حربي كان يرافق الجيش العراقي غربي بغداد، تعرض لانفجار عبوة ناسفة أحرقت وجهه وأصابته بالعمى والتشوه. تعاطف العراقيون مع هذا الشاب الذي كان ينقل المواجهات مع داعش من مسافات قريبة. علاء وبعد أن تجاوز خطر الموت قرّر العودة إلى أجواء عمله كضابط في الكادر الإعلامي لوزارة الدفاع، أصبح أيقونة للمعاقين الذين لم يستسهلوا إبعادهم عن الحياة لمجرد خسارتهم حاسة أو عضو.
وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قامت بقطع رواتب الإعانة التي لا تتجاوز ما يعادل أربعين دولاراً في الشهر عن أكثر من 450 ألف شخص غالبيتهم من المعاقين
قليلاً ما تشعر بضعف معاقي العنف والحرب والإرهاب، أو تعبيرهم عن قلة حيلتهم. في الغالب تكون ملامحهم جادة، وصلابتهم تكفي لخوض حوار دون فوارق. من الواضح أنهم يعتقدون بخصوصيتهم عن بقية أشكال الإعاقة، فما فقدوه كان تضحية في حرب لا زالت مستمرة، سائقون يستعملون عكازاتهم بدلا من أقدامهم المبتورة في ضغط مكابح سيارات الأجرة، ومدخنون يضعون السيجارة بعناية بين أصابع بلاستيكية إصرارا على إحيائها، بائع شاي يستعرض لصحافيين أجانب حروقا متعددة في ظهره لا تنتمي لتفجير واحد.. هذه المشاهد لا تغيب كثيراً في العراق، وسيكون من الصعب إبعادها عن واجهة الحياة بعد أن أصبحت علامة على المرور من جوار الموت.