رسّامان روسيان من القرن التاسع عشر: 70 يوماً في فلسطين

تنوعت اللوحات التي تصور القدس من جهات مختلفة خارج أسوارها، مع التركيز على طريق الشام، واللوحة الأكثر تجسيداً بينها لردات الفعل البشرية هي لحظة وصول الحجاج إلى تلة مشرفة على القدس، أي المكان الأول الذي يمكن أن تُرى منه المدينة. يصوّر الفنانان مجموعة منهم بين راكب على صهوة جواد أو واقف على قدمية أو راكع أو ساجد، مأخوذين بالمشهد.
2024-02-15

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مدينة غزة في القرن 19 كما رسمها الأخوين تشيرنتسوف

كان الجو الأدبي والثقافي العام في روسيا القيصرية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر مفعماً بالانطباعات الفلسطينية التي ينقلها الرحالة في مدوناتهم. وبالنسبة لكثيرين، استحالت العلاقة الذهنية مع الأراضي المقدسة دافعاً إبداعياً، كما حدث مع الأخوين غريغوري ونيكانور تشيرنيتسوف. كانت لديهما موهبة في التصوير الدقيق للمناظر الطبيعية، فسارا على خطى أستاذهما الرسام الأكاديمي مكسيم نيكيفوروفيتش فوروبيوف (1787-1855)، ولم يكن في وسعهما إلا أن يتأثرا بقصصه عن فلسطين، بعدما درسا بعناية لوحاته ورسوماته التطبيقية.

شرع الأخوان تشيرنتسوف برحلة فريدة على طول نهر الفولغا، فرسما النهر وحوضه، ثم قاما بإنشاء بانوراما له مع المدن والمناظر الطبيعية الواقعة على ضفتيه. ومما كتباه قبل رحلتهما إلى فلسطين: "ظلت الرغبة تتأرجح لمدة طويلة، وها نحن الآن نبدأ في تحقيقها. بعدما تعرفنا إلى وطننا الأم بما فيه الكفاية، قمنا برحلات عبر روسيا والقوقاز وشبه جزيرة القرم وأبخازيا؛ وأبحرنا عابرين كامل مجرى نهر الفولغا المبارك تقريباً، فجسدنا كل شيء رائع فيه، بقدر ما تسمح به قوتنا. وانطلاقاً من حبنا المتدفق لوطننا المقدس، قررنا التعرف على أراضٍ أجنبية".

الرحلة إلى الشرق

بعد زيارة إيطاليا، انطلقا برفقة شقيقهما الأصغر بوليكارب، الذي كان طالباً في أكاديمية سان بطرسبورغ للفنون، من نابولي إلى الإسكندرية، فوصلا إليها بعد تسعة أيام. دوّن الفنانان مذكراتهما (غير منشورة، يحتفظ بها أرشيف المتحف الحكومي الروسي اليوم)، وهي تتضمن ملحوظات يومية غير تفصيلية وانطباعات عن الأماكن التي زاراها. وقد أرفقا المذكرات بالعديد من الرسومات التخطيطية. ترجح الباحثة الأولى في قسم الرسم لدى معرض تريتياكوف الحكومي للفنون، سفيتلانا ستيبانوفا، أن رحلة الأخوين تشيرنيتسوف إلى فلسطين كانت ممولة، لكن يظهر من تفاصيل الرحلة المرهقة من الاسكندرية إلى القاهرة، وصولاً إلى القدس، وتجوالهما في فلسطين نحو سبعين يوماً، أن التمويل إن وجد فإنه كان سيئاً. في المقابل، يرفض الناقد الفني أناتولي فلاديميروف مسألة التمويل، مستنداً إلى تقرير أكاديمية سان بطرسبورغ للفنون، لعام الجامعي 1843-1844، حيث ورد أنهما "سافرا على نفقتهما الخاصة" (من وثائق الأرشيف التاريخي للدولة الروسية).

على أي حال، وصل غريغوري ونيكانور وبوليكارب إلى ميناء الإسكندرية في أحد أيام أيلول/ سبتمبر 1842، ووجدوا خاناً للمسافِرين وتجار المواشي والفلاحين، شاركوهم عشاء متواضعاً حول النار، ثم انطلقوا فجر اليوم التالي.

في مصر، رسم الأخوان تشيرنيتسوف المناظر الطبيعية الساحلية وبساتين النخيل التي غمرتها المياه أثناء الفيضانات، وآثار العمارة العربية الرائعة، وأوليا اهتماماً خاصاً بالمساجد فطلبا "أثناء لقاء مع الباشا رسم الزخرفة الداخلية للمساجد. نادراً ما وافق الباشا على مثل هذا الطلب من الرحالة الآخرين، لكن بالنسبة للروس فعل ذلك بكل سرور". حلّا في القاهرة فرسما أزقتها ونوافير المياه والآثارات، ومما دوناه: "سحرتنا القاهرة منذ النظرة الأولى، وبالفعل هنا، في عاصمة مصر الخلابة هذه، يتجسد الشرق بكل بهائه".

ومن القاهرة إلى السويس، حيث لم يكن لدى الفنانين وشقيقهما ما يكفي من الطعام ونفد مخزون المياه، وبات التحرك عبر الرمال أكثر صعوبة. لكنهما لم يتوقفا عن العمل ليوم واحد. قاما برسم برزخ السويس على الورق بدقة وثائقية.

لكن هذه الرسوم التطبيقية واللوحات كلفتهما الكثير، حيث يذكران جملة من المصاعب التي قاسياها في التنقل والمبيت، وقد أدت الرياح القوية إلى إتلاف بعض موادهما الفنية. دوّنا: "التحرك عبر الرمال في بلد بلا مياه، في الشمس الحارقة، على الرغم من أننا في أواخر موسم الحرّ، لم يتحمله شقيقنا بوليكارب". كانا قد وصلا إلى القدس حين توفي بوليكارب، فدفن في مقبرة الغرباء قبل أن ينقل جثمانه إلى سان بطرسبورغ، حيث توجد صخرة فوق قبره حتى اليوم نقش عليها "طالب أكاديمية سان بطرسبرغ للفنون بوليكارب تشيرنيتسوف. توفي في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1842 عن 19 عاماً".

وصل الاخوة إلى ميناء الإسكندرية في أحد أيام أيلول/ سبتمبر 1842، ووجدوا خاناً للمسافِرين وتجار المواشي والفلاحين، شاركوهم عشاء متواضعاً حول النار، ثم انطلقوا فجر اليوم التالي. حلّا في القاهرة فرسما أزقتها ونوافير المياه والآثارات، ومما دوناه: "سحرتنا القاهرة منذ النظرة الأولى، وبالفعل هنا، في عاصمة مصر الخلابة هذه، يتجسد الشرق بكل بهائه".

لكن فقدان شقيقهما لم يكسر إرادتهما، إذ كتبا في إحدى رسائلهما بعد شهرين من وفاته: "بالنسبة إلى الفنان، فإن الرحلة إلى الشرق تجلب له حصاداً وفيراً من المشاهد المذهلة. لقد شاهدنا أكثر المناظر روعة. تلك التي ترضي العين... إذا أعادتنا العناية الإلهية سالمين إلى وطننا الأم، فإننا نؤمّل نفسينا بأن أعمالنا، إن لم تكن مفيدة، فستمنح مشاهديها، على الأقل، فكرة عن الديار التي يمجدها التاريخ".

في فلسطين

في فلسطين، زار الفنانان العديد من الأماكن، بما في ذلك طبريا وبحيرتها، حيث لم يذهب معلمهم فوروبيوف. وكما فعلا مع حوض الفولغا، أنشآ مجموعة لوحات شكلت بانوراما عن القدس وجميع الأماكن التي زاراها. عند عودتهما إلى الوطن، قدم الفنانان أعمالهما إلى القيصر نيقولاي الأول، فحصلا على حافز نقدي قدره ألف روبل لكل منهما. وبهذه الأموال، نشرا ألبوم "فلسطين" المطبوع طباعة حجرية بعنايتهما الشخصية من دون الاستعانة بحرفيين متخصصين، والذي ضم خمسة وعشرين رسماً، تجسد الأماكن التي زاراها مع الشرح بالروسية والفرنسية. قدما الألبوم لنيقولاي الأول، الذي كافأهما وأمر بشراء عشرين نسخة للبلاط. إلا أن الطباعة الحجرية لم تستخدم على نطاق واسع ولم يواصل الفنانان طباعة ألبومهما الذي يعتبر اليوم من الكتب النادرة جداً.

بالإضافة إلى مشاهد المزارات الدينية، رسم الفنانان وادياً قرب بلدة بيت لحم، وعائلة تخرج من الناصرة، والتخييم في غور الأردن، ومدينة يافا، وغيرها من المشاهد. ولعل لوحة غزّة من أندر ما يمكن أن تقع عليه العين وذلك للزاوية التي رُسمت منها، فهي تصوّر المدينة القديمة من الشمال الشرقي. أدنى اللوحة مجموعة من الحراس يرتاحون على منصة صخرية وبقربهم بقايا عمودين هيلينيين حيث ينمو نبات الصبّار. أما المدينة فتظهر وسط كمية كبيرة من أشجار النخيل والشجار المثمرة بمعالمها الرئيسة ومسجدها القديم. وتخرج منها أسرة على حمارين.

صوّر الرسامان يافا من شمالها، حيث يفرغ الحمالون البضائع من سفينة على شاطئها، بقربها جملان يحملان البضائع يتهيآن للمسير وآخران أبعد منهما، وعلى يسار اللوحة أشخاص يرتاحون فيما وسط اللوحة شيخ عربي ينظر إلى البحر. المدينة تظهر في الأفق بمسجدها والسراي الكبير عليه علم. السراي نفسه الذي نسفته العصابات الصهيونية في 4 كانون الثاني/ يناير 1948، وبدأت بالتضييق على أهالي المدينة على مرأى ومسمع من جنود الإحتلال البريطاني، الذين أخلوا الساحة للصهاينة بعد ثلاثة أشهر، فنكّلوا ابأهلها وشردوهم ثم هدموا أحياء بكاملها وطمسوا معالم المدينة.

أما بلدة الرملة في اللوحة التي تحمل اسمها، فتظهر في مشهد عام من على سطح الخان الذي سكن فيه الفنانان. على السطح مجموعتان من الفلسطينيين، الأولى تتألف من ثلاثة رجال: سقاء واقف في شروال وسترة، يحمل إناءين ويتحدث إلى رجل جالس في قمباز مكشوف الساقين، والثالث شيخ يستمع إلى حديثهما مستلقياً في وضعية مريحة سانداً رأسه بيده اليمنى. أما المجموعة الثانية فتتألف من امرأة في إزار ورداء وبقربها طفلها، تتحدث إلى رجل يجلس على حافة السطح وبقربهما رجلان أحدهما يستند إلى قبة السطح. في الأفق تنكشف الرملة، وأبرز معالمها الجامع الأبيض الذي كان لا يزال يحتفظ برأس مئذنته آنذاك. المسجد نفسه الذي دافعت عنه الفرقة العراقية في صد هجوم العصابات الصهيونية ليلة 12 تموز/ يوليو 1948، قبيل انسحاب القوات العربية بناء على اتفاق ألا يمسّ الصهاينة بالمدنيين، إلا أنّهم اعتقلواهم ونكلوا بهم وهجّروا معظم سكان البلدة.

بالإضافة إلى مشاهد المزارات الدينية، رسم الفنانان وادياً قرب بلدة بيت لحم، وعائلة تخرج من الناصرة، والتخييم في غور الأردن، ومدينة يافا، وغيرها من المشاهد. ولعل لوحة غزّة من أندر ما يمكن أن تقع عليه العين، فهي تصوّر المدينة القديمة من الشمال الشرقي. أدنى اللوحة مجموعة من الحراس يرتاحون على منصة صخرية وبقربهم بقايا عمودين هيلينيين حيث ينمو نبات الصبّار.

نشر الفنانان ألبوم "فلسطين" المطبوع طباعة حجرية بعنايتهما الشخصية من دون الاستعانة بحرفيين متخصصين، والذي ضم خمسة وعشرين رسماً، تجسد الأماكن التي زاراها مع الشرح بالروسية والفرنسية. واعتبرت في المجمل شواهد فنية وتوثيقية عن فلسطين ومقدساتها.

تنوعت اللوحات التي تصور القدس من جهات مختلفة خارج أسوارها، مع التركيز على طريق الشام، واللوحة الأكثر تجسيداً بينها لردات الفعل البشرية هي لحظة وصول الحجاج إلى تلة مشرفة على القدس، أي المكان الأول الذي يمكن أن تُرى منه المدينة. يصوّر الفنانان مجموعة منهم بين راكب على صهوة جواد أو واقف على قدمية أو راكع أو ساجد، مأخوذين بالمشهد.

بالنسبة إلى النقاد الروس، كانت اللوحة الأكثر إثارة "مشهد القدس"، وهي من محفوظات معرض تريتياكوف في موسكو ولا تظهر إلا في في بعض المعارض. تجسد اللوحة منظر القدس من جبل الزيتون، من الموقع نفسه حيث رسم فوروبييف لوحة تجسد منظراً ليلياً للقدس. ولكن على الحافة اليسرى من اللوحة تظهر شجرة زيتون معمّرة ذات جذور ملتوية تنمو من الأرض.

***

قدّر الفنانون المعاصرون للأخوين تشيرنيتسوف ثمار الرحلة، وأحدثت لوحات فلسطين ضجة كبيرة في المعارض الفنية في سان بطرسبرغ آنذاك. كتبت صحيفة "أوتيتشستفني زابيسكي": "فرغ رساما المناظر الطبيعية الروسيان المشهوران، الأخوان تشيرنيتسوف، من رحلتهما الطويلة أخيراً... لم تكن هذه الرحلة مثمرة فحسب، بل أغنت خزينة الأعمال الفنية الروسية بإبداعات جديدة قدمها هذان الفنانان الموهوبان... لقد جسدا الشرق بطبيعته الساحرة وذكرياته المقدسة". وقد اكتسبت لوحاتهما شعبية خاصة في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، حيث وجد النقاد الفنيون آنذاك أنها تتميز بمزايا تصويرية فنية عالية وثراء في الألوان، وأنها تحتوي على مزيج ماهر للغاية من العناصر، وأن الهواء والماء جميلان فيها، وأن هذه الأعمال تحترم الدقة. واعتبرت في المجمل شواهد فنية وتوثيقية عن فلسطين ومقدساتها.

صوّر الرسامان يافا من شمالها، حيث يفرِّغ الحمالون البضائع من سفينة على شاطئها، بقربها جملان يحملان البضائع يتهيآن للمسير وآخران أبعد منهما، وعلى يسار اللوحة أشخاص يرتاحون فيما وسط اللوحة شيخ عربي ينظر إلى البحر. المدينة تظهر في الأفق بمسجدها والسراي الكبير وعليه علم... السراي نفسه الذي نسفته العصابات الصهيونية في 4 كانون الثاني/ يناير 1948.

رسما بلدة الرملة، وأبرز معالمها الجامع الأبيض الذي كان لا يزال يحتفظ برأس مئذنته آنذاك. المسجد نفسه الذي دافعت عنه الفرقة العراقية في صد هجوم العصابات الصهيونية ليلة 12 تموز/ يوليو 1948، قبيل انسحاب القوات العربية بناء على اتفاق ألا يمسّ الصهاينة بالمدنيين، إلا أنّهم اعتقلولهم ونكلوا بهم وهجّروا معظم سكان البلدة.

بعد نحو ثلاثة عقود من الرحلة، توفي غريغوري عام 1870، فعكف نيكانور على جمع الرسومات ووضع نحو ألفي رسمة بالألوان المائية والحبر في مجلدات منقوشة بالذهب سنة 1875، وعرضها على أكاديمية الفنون لتشتريها. وافقت الأكاديمية على شرائها منه بأربعة آلاف روبل واشترطت ألا تدفع المبلغ دفعة واحدة، بل على أقساط قدر كل منها 360 روبلا في السنة. لكن نيكانور لم يتمكن من الحصول على هذه المبالغ سوى ثلاث مرات، إذ وافته المنية في كانون الثاني/ يناير 1879.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه