لم أكن أعرف قبل أكثر من 120 يوماً ،عن غزة سوى أنها كانت محاصَرة، وأن إسرائيل تقصفها كثيراً. أنها تنام في حضن البحر المتوسط لكنها لا تستطيع أن تشعر بكل دفئه وبراحه، فحتى البحر فيها محاصَر. قبل أكثر من 120 يوماً كنت قد نسيت ما قاله لي صديقي الشاعر عن المدينة التي ولد فيها وكبر، وتعلم الشعر والمسرح والفرح والمعاناة. كنت قد نسيتُ حبه الشديد لها وكرهه لحدودها المحاصرة. صديقي الذي هُجِّر أجداده من يافا إلى غزة، اعترف يوماً أنه حاول مراراً وبتفانٍ عجيب أن يكسر الحصار ويطلق جناحيه إلى ما بعد غزة، أن يذهب إلى حبيبته الفلسطينية التي تعيشُ في يافا. اعترف أو ربما حلم أو تخيل، بأنه نجح أخيراً في التسلل خارج حدود الحصار ليوم أو يومين وتجول في يافا. كنتُ قد نسيتُ كل شيء عن تلك الحكاية والحبيبة والحلم. وبقيتْ معي لمعة عينيه عندما وصف لي إحساسه بالحرية المطلقة وهو يرمي نفسه في بحر يافا، قال "كنتُ حاضراً، جاهزاً للموت بسعادة مطلقة وأنا بين أمواجه، لم يكن ينقصني شيء في هذا العالم كله، سوى تلك اللحظات الحرة في بحري وبحر أجدادي".
لم أكن أعرف ، قبل أكثر من 120 يوماً، أن في غزة نخلاً يشبه نخل بيتنا في بغداد، وشوارع تشبه شوارعنا، قبل الدمار وبعد الدمار. بل إني قبل أكثر من 120 يوماً، لم أكن أعرف كثيراً عن نفسي وعن هذا العالم.
غزة التي تدهشنا
05-01-2024
القطيعة
07-12-2023
هكذا بدأت الحكاية. التقيا، أمي وأبي، لأول مرة في بغداد في مظاهرة طلابية من أجل فلسطين. أحبا بعضهما، وتزوجا وزارا القدس معاً قبل هزيمة 1967. فلربما أدين بوجودي كله لفلسطين، فلولاها لما كُنا، إخوتي وأنا، لنأتي إلى هذا العالم. ورثتُ فلسطين منهم، ورثتُ نكبتها وجرحها. ورثتُ سعادة أمي وحزنها وهي تصف إحساسها عندما زارت القدس. هكذا تأتي أفراحنا، ممتزجة دائماً بالحزن. سعادة تمر بسرعةٍ كالحلم. "عمو بدي إسألك.. هذا حلم ولا جد؟" سألت الطفلة الغزاوية "مرح" الطبيب الذي يعالجها بعد أن تمّ سحبها من تحت أنقاض البيت الذي كانت تنام فيه مع عائلتها. لم يستطع الطبيب أن يجيبها، لا بنفي ولا بتأكيد.
الدكتاتوريات لا تأتي فقط على شكل عسكري بشارب أسود كث، ِومخبرين يطرقون بابك في منتصف الليل فيقتادونك إلى مكان مجهول. بل تعيش الدكتاتوريات أيضاً في ابتسامات مزيفة، وتهديد مبطن لوجودك كله، في اتهاماتٍ جاهزة تحملها في لون بشرتك واسم أبيك.
تثير حفيظتهم رؤيتهم لنا متضامنين مع بعضنا، فيرتدي السكان الأصليون الكوفية وهم يقرعون دفوفهم ويرتدون ملابسهم التقليدية المزينة بالخرز الملون. يفقد العنصريون صوابهم خاصةً عندما يرون اليهود يرتدون الكوفية وعلم فلسطين مع نجمة داوود، ويحملون لافتات "يهود ضد الإبادة".
ورثتُ فلسطين وحبها من أهلي. عندما اضطررنا للرحيل عن العراق وكانت الأردن أولى محطات اللجوء، أدركتُ أنني دنوتُ من فلسطين، وما زلتُ أذكر إحساسي و أنا أصل إلى أقرب نقطة مسموح لنا أن نصل إليها من الأردن لنُطل على فلسطين. صوت صديقتي الأردنية ما زال في أذني "شايفة هاللأرض هناك؟ هاي فلسطين". فكرتُ: كيف لي أن أطير إليها؟ هل ينبت لي جناحان فأطير؟ هل أصنعهما من ريش الطيور كما فعل عباس بن فرناس فسقط؟ لا بأس، فإن سقطتُ من السماء مثله ستتلقاني أرض فلسطين أو زيتونة من زيتوناتها المعمرة. كيف لقلب الفلسطيني أن يتحمل العيش فيها ولا يراها؟ وكم فلسطينية حاولت الطيران أو فكرت فيه وهي تطل على هذا المدى المحتل من أرضها وزيتوناتها وزعترها وتاريخها ومدافن أجدادها؟ في كل مرة أسمع جاهلاً أو جاهلة من الغرب يرددون، مع كل جريمة ترتكبها دولة الاحتلال العنصرية ضد الفلسطينيين: "لماذا لا تفتح الدول العربية حدودها وتأخذ الفلسطينيين ليعيشوا هناك مع إخوتهم العرب ويتركوا الأرض لإسرائيل؟" أسمع صوتاً في رأسي يردد بصراخ لا أستطيع إسكاته: "لو فتحت الحدود، نحن جميعاً سننتقل للعيش في فلسطين".
غاب عني قبل أكثر من 120 يوماً، أن الأسرى في غزة يشبهون الأسرى في سجن أبو غريب في العراق، وأن الجيش الإسرائيلي يقصف أشجار الليمون والياسمين في غزة مثلما قصف الجيش الأمريكي أشجار النارنج و"شبو الليل" في بغداد. بل كنتُ قد تناسيتُ أحمد، زميلي في الجامعة الذي داست دبابة أمريكية في بغداد على سيارته وهو داخلها فسحقت لحمه وعظامه، تماماً مثلما سحقت دبابات الاحتلال الفلسطينيين في غزة أمواتاً كانوا أو أحياء. كان لون عيني أحمد بنيّاً فاتحاً، كان يردد مازحاً أن أمه كانت تقول له دائماً إن عينيه عراقية أصيلة، واسعة وبلون التمر الخستاوي. عينا "أمينة"، الطفلة الفلسطينية، ربما كانتا بُنّيتين أيضاً أو ربما بلون زيتون فلسطين، قبل أن تدهس دبابات الجيش الإسرائيلي الكوخ الذي كانت تختبئ فيه مع عائلتها، فلا ينجو أحدٌ منهم غيرها وتتحول عيناها إلى السواد التام من كثرة الضغط وربما من هول ما رأت.
فلسطين قضيتنا نحن العراقيين!
11-11-2023
آفاق التحرر الفلسطيني بين حربين على العراق
17-08-2023
أخرج في مظاهرة أخرى تجوب شوارع هذه المدينة الباردة البعيدة حيثُ أعيش منذ عقدين من الزمان. أصبحتْ المسيرات والمظاهرات متنفساً لي وللآلاف مثلي، لكي نستطيع التعايش مع ضمائرنا وإحساسنا العميق بالذنب ونحن نرى الإبادة تحدث أمام أعيننا ونقف عاجزين تماماً عن إيقافها. نصرخ بكل ما أوتينا فيردد الصدى صراخنا. نخط اللافتات، نتجول في المدينة ونحن نرتدي الكوفية رغبة في التحدي، وربما لنجد فيها دفء أجدادنا الذي نفتقده. نحتل مكاتب ممثلينا في البرلمان ونطاردهم، ونطارد رئيس الوزراء في المطاعم وسهرات النخبة التي يجمعون فيها أموال تمويل أحزابهم ومستقبلهم السياسي وهم مبتسمون للكاميرات ولوعود ومكاسب سياسية يتبادلونها فيما بينهم، مقابل خرسهم عما يحدث للبشر والحجر في بلاد أجدادنا. بينما نكف عن مطاردة ذلك الوهم الذي تركنا بيوتنا وأرضنا لأجله، حلم إيجاد الحرية والمساواة بين البشر مهما كان العرق أو اللون أو الجنس. نحن نعرف تماماً أننا لسنا متساوِين أمام أعينهم، ولن يصبح أطفالنا يوماً متساوين مع أطفالهم.
في كل مرة أسمع جاهلاً أو جاهلة من الغرب يرددون، مع كل جريمة ترتكبها دولة الاحتلال العنصرية ضد الفلسطينيين "لماذا لا تفتح الدول العربية حدودها وتأخذ الفلسطينيين ليعيشوا هناك مع إخوتهم العرب ويتركوا الأرض لإسرائيل؟" أسمع صوتاً في رأسي يردد بصراخ لا أستطيع إسكاته: "لو فتحت الحدود، نحن جميعاً سننتقل للعيش في فلسطين".
نفترش الأرض بعد المظاهرة أنا ومجموعة من الغرباء ـ اللاغرباء ـ بأعين دامعة وقلوب تعصرها الخيبة والألم. كان أول لقاء لنا، لكننا جميعاً كنا نبحث عن العائلة في وجوه بعضنا بعضا. نتحدث بلغة عربية، ولهجاتٍ مختلفة تشوبها بعض كلمات إنجليزية وجدت طريقها إلينا واحتلت طرق تعبيرنا عن أنفسنا، تماماً كما احتلّ الرجل الأبيض علومنا ونسبها إلى نفسه. نتدارك بعض الكلمات ونحاول إيجاد تعابيرنا العربية، فنجدها عميقة تعبّر عما في دواخلنا التي اضطررنا إلى حبْسِها طويلاً في عبارات باردة بلغة أجنبية لا تعرفنا. نتكلم عن "القهر"، "الغربة"، "كسرة القلب"، "الارتباط بالأرض" و"الشوق" إلى دفء البلاد التي تركناها هرباً من حروب مختلفة الأشكال والأهوال، لنرتمي في دولٍ تريدنا أن نكون مطيعين وفي قمة اللطف وهم يغرسون السكاكين في قلوبنا مرة تلو الأخرى. "ما الفائدة من كل هذا؟" يقول أحدنا "كأننا نصرخ أمام الحيطان والأحجار". معه حق. نحن نصرخ في الفراغ. ولا تصل صرخاتنا، فتكون خبراً صغيراً لا يتعدى الدقيقتين في نشرة أخبار لا يراها أحد. هناك انفصال رهيب بين ما يحدثُ في مكاتب أصحاب القرار ومقرات القنوات الإعلامية هنا، وبين ما يحدث في الشارع. تقترب منا امرأة ثلاثينية بيضاء، وجهها أصبح مألوفاً لنا في المظاهرات "لا تقلقوا، لن نسكت حتى ننهي كل شي. سنحرر فلسطين!" ننظر إلى بعضنا بعضا بتيه وضياع توارثناهما من أهالينا، فهم ربما ربونا على حب فلسطين ولكنهم أيضاً زرعوا فينا يأسهم من تحريرها. تهمس إحدانا للشباب الأصغر سناً في المجموعة "كونوا حذرين، لا تثقوا بأحد منهم بسهولة. هناك احتمال أن يكونوا مخبرين يزرعونهم بيننا". ابتسمت في سري لسخرية الأقدار التي جعلتنا نحمل الخوف معنا حتى ونحن هاربون منه إلى بلدان بعيدة.
لم أكن أعرف قبل أكثر من 120 يوماً عمق هذا الخوف. لم أكن أعرف كم نحن عاجزون أمامه. كثيرٌ منا مهدد بفقدان عمله وقوت أولاده إن هو/هي أفصح/ت عن رأيه/ها فيما يحدث لأهلنا في فلسطين. الدكتاتوريات لا تأتي فقط على شكل عسكري بشارب أسود كث، ومخبرين يطرقون بابك في منتصف الليل فيقتادونك إلى مكان مجهول. بل تعيش الدكتاتوريات أيضاً في ابتسامات مزيفة، وتهديد مبطن لوجودك كله. في اتهاماتٍ جاهزة تحملها في لون بشرتك واسم أبيك. في طبيبك النفسي الذي يبلّغ الشرطة عنك ليعتقلوك إن أفصحتَ عن تفكيرك في الانتحار لأنك تشهد إبادة أطفال يشبهون أطفالك: هل تفكر في تفجير نفسك أيها الإرهابي النائم؟
تخرجين في تظاهرة أمام شركة تدعم جرائم الاحتلال فتكوني الهدف الأول للاعتقال من الشرطة، لأنكِ مثل كل شيء خلقه هذا النظام الرأسمالي، ماركة مسجلة تستحق أن تُمارَس الديكتاتورية ضدها.
تجدون أنفسكم وبدون أن تدروا، تقاومون بكل شيء، بلغتكم، بارتدائكم الكوفية في الشارع، بأسمائكم، بالأولاد والذاكرة وحتى الوجود نفسه. أنتم لا تحاربون الأفكار النمطية عنكم فقط، وإنما تحاربون إحساسكم القاتل بالذنب لأنكم على قيد الحياة. على الأقل لا يموت أطفالكم تحت الأنقاض أو من البرد و الجوع و العطش، فأطفالكم هنا ليسوا عرضة للإبادة.
يتجدد الأمل فينا ونحن نرى أعداد من يشاركوننا في التظاهر في ازدياد مستمر، يأتون بأطفالهم ولافتاتهم ويهتفون معنا. يرتدون الكوفية ويحملون علم فلسطين. ينعتنا السياسيون بالمساندين لحركة حماس. يصور وجوهنا شرطي مدجج بالسلاح بينما يخترق زميله صفوفنا بكلب بوليسي مدرّب. يستدعي رئيس الوزراء قناصة على سطح فندق أقام فيه حفلاً لحزبه فقررنا عندها التظاهر أمام بوابته. نرى القناصين يطلون من أعلى البناية مصوبين أسلحتهم نحونا، فنضحك من هذه المسرحية الهزلية التي لم تعد تنطلي سوى على من يريد لها أن تنطلي عليه. تثير حفيظتهم رؤيتهم لنا متضامنين مع بعضنا، فيرتدي السكان الأصليون الكوفية وهم يقرعون دفوفهم ويرتدون ملابسهم التقليدية المزينة بالخرز الملون. يفقد العنصريون صوابهم خاصةً عندما يرون اليهود يرتدون الكوفية وعلم فلسطين مع نجمة داوود، ويحملون لافتات "يهود ضد الإبادة". يصرخ أحدهم بشاب يهودي يتظاهر معنا "أتمنى أن يقتلك هؤلاء ويغتصبوا أختك!" فنتسائل جميعاً عن سر هوسهم بالاغتصاب. "كل تهمة هي بمثابة اعتراف "نرددها فيما بيننا باقتناع يثبتونه لنا ويبرهنون عليه بما يرتكبونه كل يوم من جرائم أمام الكاميرات متباهين.
يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا أصدق ما أراه اليوم، لقد كانت تظاهراتنا لا تتعدى العشرات. صرخنا لعقود ولم يصدقنا أحد، اليوم غزة فضحت كل شيء وكشفت للعالم أننا كنا على حق".
نفترش الأرض بعد المظاهرة أنا ومجموعة من الغرباء ـ اللاغرباء ـ بأعين دامعة وقلوب تعصرها الخيبة والألم. كان أول لقاء لنا، لكننا جميعاً كنا نبحث عن العائلة في وجوه بعضنا بعضا. نتحدث بلغة عربية، ولهجاتٍ مختلفة تشوبها بعض كلمات إنجليزية وجدت طريقها إلينا واحتلت طرق تعبيرنا عن أنفسنا
تقترب منا امرأة ثلاثينية بيضاء، وجهها أصبح مألوفاً لنا في المظاهرات "لا تقلقوا، لن نسكت حتى ننهي كل شي. سنحرر فلسطين!" ننظر إلى بعضنا البعض بتيه وضياع توارثناهما من أهالينا، فهم ربما ربونا على حب فلسطين ولكنهم أيضاً زرعوا فينا يأسهم من تحريرها.
تسخرين من نفسك لأنك تشعرين بالتعب واليأس. في غزة لا يملكون رفاهية التعب واليأس. هم يحاولون النجاة فقط، النجاة بأنفسهم وأرضهم.
لم أكن أعرف قبل أكثر من 120 يوماً أنني لم أذق طعم الحرية، على الرّغم من أنني طاردتها كثيراً وتصورت بأنني امتلكتها. لكن الحرية الحقيقية هناك، هناك فقط. غزة تحررنا جميعاً من خوفنا ومن كل ما تراكم على عقولنا من تراب الماركات المسجلة والصور النمطية والانبهار بحرية الرأسمالية المزيفة. غزة فقط هي من تعرف معنى الحرية، لأنها تبادُ من أجلها ومن أجلنا.