"حكايا غزّة": الرواية بصفتها أمَلاً

لدى فريق "حكايا غزّة" نحو 60 شهادة موثقة إلى الآن، تُنشر تباعاً، موضحة متى وأين وكيف صار الحدث. هي شهادات لناس من غزة تعرّضوا للأسر أو القصف أو أجبِروا على النزوح أو عاشوا وشهدوا أياً من الجرائم الإسرائيلية الأخرى في القطاع منذ بداية هذا العدوان الإباديّ. بادر البعض إلى اقتراح ترجمة هذه الشهادات، وتشكّل بالفعل فريق من 10 مترجمات – كلهنّ فتيات - يلحظ ياسر.
2024-01-26

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
طائرات ورقية بيضاء كتب عليها المتظاهرون كلمات من قصيدة الشهيد رفعت العرعير في مظاهرة مطالِبة بوقف إطلاق النار في لندن. 9 كانون الأول / ديسمبر 2023

يحكي طلّاب الشهيد الدكتور رفعت العرعير عن إلغائه امتحاناتهم الجامعية في غزّة أثناء الهجمة الاستيطانية على القدس وحيّ الشيخ جرّاح والعدوان الإسرائيلي على غزّة سنة 2021، ويقولون إنّه بلّغهم بالمقابل بأنّ علاماتهم ستُحتَسَب بناءً على ما يكتبونه بالإنكليزية على وسائل التواصل الاجتماعي حول العدوان الإسرائيلي الغاشم. أمرّ على منشور للزميل الصحافي ياسر عاشور على صفحته الخاصة على موقع "إكس، يقول فيه "كانت وصية الشهيد رفعت العرعير[1] الأساسية هي الحفاظ على الرواية وسرد القصص عن فلسطين وعن غزة وفضح جرائم الاحتلال. إلى روح الدكتور رفعت، أطلقتُ مدونتي من جديد تحت اسم "حكايا غزة" لتوثيق ما أمكن من قصص الناس في الحرب وقبلها وبعدها..".

أفكّر أنّ هناكَ سِحراً عظيماً في "الوصيّة"، بما تمثّله من طلّبٍ يُنطقُ في الحياة الدنيا، يُطلَق إلى فضاء العلَن، إلى الآخرين، دون أن يعلم صاحبه إذا كان من أوصاهم سيفعلون ما يحبّ. لكنّه يأمل ويثق بالغيب وبأحبّائه ويرحل، وتبقى الوصيّة بعد الموت حبلاً موصولاً من الودّ والوفاء بين العالّمَين، غير مدفوع بشيء هذه المرّة (لا علامات ليضعها الدكتور رفعت على أوراق طلابه)، سِوى بالحبّ الذي يكنّه كثرٌ للشهيد وبشعور المسؤولية تجاه البلاد وأهلها. أفكّر بكلّ هذا ثمّ أسأل ياسر، لماذا "حكايا غزّة[2]

علامة فارقة

هكذا قدّم ابن مدينة غزّة، ياسر عاشور، مدوّنة "حكايا غزّة"، بعد أن وجد نفسه صبيحة العدوان الإسرائيلي على غزة خارجها، بعيداً عن الأهل والأصدقاء، حاله حال عشرات الغزيين الذين يرون صنوف العذاب في "مأمن" الغربة، حيث نار البعد والقلق تسعّر القلوب. "كان كلّ شيءٍ متجمّداً"، يصف ياسر الشلل اليومي لمتابعة أحداث الإبادة من بعد، إلى حين لحظة استشهاد الدكتور رفعت، التي "شكّلت علامة فارقة"، ويضيف، "على المستوى الشخصي، الدكتور رفعت العرعير هو صديقي وصديق العائلة وأستاذنا... عندما استشهد رفعت، أول ما تذكرته هو وصيته لنا، أنّ علينا دائماً أن نحكي روايتنا وأن نُؤشِّر على الفاعل، لا أن نجهّله. أن نقول "إسرائيل هي القاتل". حتى عندما كنت أكتب في منشوراتي عرضياً عبارة "استهداف كذا.."، كان الشهيد رفعت يرسل لي رسالة على الخاص ويسألني "من الذي استهدفهم؟" لاحقاً. علمتُ أنه كان يفعل هذا مع كلّ رفاقنا"...

مقالات ذات صلة

لم يُضع ياسر أيّ وقت، فحوّل مدوّنته الشخصية من مساحة خاصة لكتاباته إلى مدونة "حكايا غزة"، مستعيناً بصديقٍ أعدّ له الموقع ليكون مناسباً تقنياً وتصميمياً لهذا النوع من المواد، وتواصل مع أصدقاء مهتمين بالكتابة، وبدأوا بالعمل على الفور. اهتمّت النصوص الأولى على الموقع بنشر تدوينات تعبِّر عن المشاعر، لكنّ المشروع صار يمتد لمساحات أخرى ويتشكّل بهيئة أوضح.

في قلبِ كلّ جهدٍ لنقلِ الحكاية من وعن غزّة، هناك حِكاية أخرى لظروفِ الحكّائين، لخساراتهم العميقة، لقلوبهم المنهَكة، لحزنهم، ولأملهم أيضاً.

يتعامل القائمون على "حكايا غزّة" مع هذا المشروع من منطلق الوعي بحاجات الساحة الإعلامية ومكامن الضعف فيها وإسنادها على هذا الأساس. "منذ الأيام الأولى، هناك كثافة رهيبة من الأحداث التي لا يوثّقها أحد. للأسف، في أحيان عديدة لا ننتبه إلى ضرورة توثيق الحدث وتفاصيله إلّا بعد أن ينتهي، وعندها يكون كثيرٌ منه قد ضاع. هذه المرّة مختلفة عن كلّ الحروب السابقة. فسابقاً، كانت هناك مؤسسات ومراكز موجودة داخل غزّة تعمل على الإحصاءات الميدانية وتعتني بالتوثيق. لكن هذه المرة، كل شيء معطّل داخل غزة. المؤسسات والأجهزة والوزارات كلها لا تستطيع أن تقوم بعملها"، يقول ياسر.

زوايا

"خصصنا عدة زوايا تحت أكثر من عنوان. "حكايا" هي زاوية يسرد فيها الكتّاب ما يحدث معهم في غزة، "تدوين" زاوية يشارك فيها الناس أفكارهم ومشاعرهم عمّا يحدث، سواء كانوا من غزة أو من خارجها، ثمّ هناك زاوية "أدب" التي نشارك فيها نصوصاً أدبية كُتبت عن الحرب ونجمعها في مكان واحد. وهناك زاوية خاصة اسمها "عن غزة"، واعتبرنا أن هذه يجب أن تملأ المساحة المفقودة عن غزّة"، ويتابع شارحاً ما يقصد بذلك: "هناك بعض الفراغات في المعلومات الموجودة على الانترنت عن غزة في جوانب عدة. على سبيل المثال، عندما حدثت مجزرة المستشفى المعمداني، اكتشف عدد من الصحافيين حتى من أولئك الذين هم داخل غزة، أنهم ومعظم الناس لا يعرفون كثيراً عن المستشفى المعمداني، فهي مستشفى صغيرة وغير أساسية وتختص بعلاج أمراض معينة في الأيام العادية. كما أنها لم تكن من المستشفيات التابعة لوزارة الصحة، بل هي تابعة للكنيسة، ولكل هذه الأسباب كانت غير معروفة بالنسبة لكثير من الناس، حتى داخل القطاع. ثمّ حدثتْ المجزرة التي استشهد فيها أكثر من 450 شهيداً، وحدثتْ حالة من الذهول وسط شحّ كبير في المعلومات حول هذا المكان. لذلك، يضع قسم "عن غزّة" أمامه هدف إعادة التعريف بالجوانب التي بقيت في العتمة معرفياً".

شهادات

لعلّ القسمَ الأهمّ من بين زوايا الموقع هو قسم "شهادات"، وتكمن أهميته في ملءِ الفراغ في ناحية جمع وتدقيق الشهادات، وهي كثيرةٌ وكثيفة، من الناس في قطاع غزّة. يعمل جلّ الصحافيين والصحافيات في غزّة على تغطية الأخبار التي لا تتوقف في كل مناطق القطاع، ويحملون هذا العبء وحدهم إلى جانب محاولتهم النجاة بأنفسهم في ظلّ الترصد والاستهداف المباشر لهم من قبل جيش الاحتلال، لكن لا يوجد من هو مختص بجمع الشهادات وتغطية القصص إلا من زاوية إخبارية أو بطرق مبعثرة، بحيث تكون هذه الشهادات أحياناً جزءاً من نشرة إخبارية أو مقابلة مع ناجين ونازحين. نسبة لضخامة ما يحدث على الأرض وتعدد مستوياته، يتبيّن أن الشهادات الموجودة والمتداولة قليلة فعلياً، وهي شهادات غير موثقة بشكل مكتوب. كما أن كثيراً منها يظهر في مقاطع فيديو على انستغرام أو يوتيوب، فتصبح إمكانية العودة لنصّ هذه الشهادة أصعب مع الوقت.

 اهتمّت النصوص الأولى على الموقع بنشر تدوينات تعبِّر عن المشاعر. لكنّ المشروع صار يمتد لمساحات أخرى ويتشكّل بهيئة أوضح. يتعامل القائمون على "حكايا غزّة" مع هذا المشروع من منطلق الوعي بحاجات الساحة الإعلامية ومكامن الضعف فيها وإسنادها على هذا الأساس.

برأي ياسر عاشور، فإن موضوع الشهادات معقّد وحساس، فهو يتطلّب وصولاً إلى الأشخاص الذين شهدوا الحدث بأنفسهم أو عاشوه. "كثير منهم لم يعودوا يؤمنون بجدوى هذا التوثيق. يقول البعض "شو يعني أن نخبر العالم؟ ليش؟ لمين؟ ماذا سيفعلون يعني؟ هل سيوقفون الحرب؟". هم يعرفون أن هذا غير ممكن، وقد يبدو للبعض أن هذا الأمر غير مجدٍ الآن، لكنّ حفظ الشهادة يبقى أمراً بالغ الأهمية.. عمل الموقع على تطوير هذا الجانب، ووصلت الكثير من الرسائل تبدي استعداداً للتطوع في العمل على هذه الناحية، واللافت أن غالبية من هؤلاء المتطوّعات هنّ شابات.

لدى فريق "حكايا غزّة" نحو 60 شهادة موثقة إلى الآن، وتُنشر تباعاً، موضحة متى وأين وكيف صار الحدث. هي شهادات لناس من غزة تعرّضوا للأسر أو القصف أو أجبِروا على النزوح أو عاشوا وشهدوا أياً من الجرائم الإسرائيلية الأخرى في القطاع منذ بداية هذا العدوان الإباديّ. بادر البعض إلى اقتراح ترجمة هذه الشهادات، وتشكّل بالفعل فريق من 10 مترجمات – كلهنّ فتيات - يلحظ ياسر مجدداً.

الأمل؟

"كنتُ أعتقد أنّ مبادرة التطوع لم تعد موجودة بين الناس"، يعترف ياسر بمفاجأته بعدد الرسائل التي تصله مبديةً استعداداً للتطوع، ويفكّر بصوتٍ عال: "لعلّه حجم المأساة يدفع الناس للمبادرة، أو لعلها الحاجة لإراحة الضمير بطريقة ما عبر الشعور بأنّ المرء منخرط في عملٍ مفيدٍ ما (...)". يسمح هذا الجهد التطوعي حالياً باستمرار العمل والنشر يومياً، لكنّه يتمنى ألّا يخسر الناس هذا الاهتمام بما يجري في غزّة عندما تنتهي الحرب، عندما ستكون غزّة بأمسّ الحاجة للتغطية والضوء، وأن يستطيع الإبقاء على فريق أساسي يبني على هذا المشروع لاحقاً. كان لافتاً أيضاً عدد الأشخاص الذين كتبوا نصوصاً وشاركوا بشتى الطرق من داخل غزّة نفسها، خاصة من الفتيات والنساء النازحات.

أنتهي إلى تخيّل شابة نازحة في خيمة هُيّأت على عجلٍ بما توفّر، منصوبة في عراء الإبادة والخوف والجوع والبرد، تنكفئ عن المشهد الرّهيب ساعة لتكتب على هاتفها مقالاً عن أحوالها وأحوال أهلها، فيصعقني المشهد.. في قلبِ كلّ جهدٍ لنقلِ الحكاية من وعن غزّة، هناك حِكاية أخرى لظروفِ الحكّائين، لخساراتهم العميقة، لقلوبهم المنهَكة، لحزنهم، ولأملهم أيضاً. لا بدّ من عودةٍ إذاً إلى الشهيد الذي أشار بسبّابته إلى الطريق، "إذا كان لا بدّ أن أموت، فليأتِ موتي بالأمل، فليصبح حِكاية". لتتبدّل فقط هذه الأيّام، حتى تتبدّل هذه الحَكايا، لتروي عن غزّة أياماً أخفّ.

______________________

  1. أكاديمي وشاعر ومترجم فلسطيني من غزة. حاصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة بوترا بماليزيا عام 2017. عمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية في غزّة. استشهد مع أفرادٍ من عائلته يوم 7 كانون الأول/ ديسمبر 2023 في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة.
  2. زوروا موقع "حكايا غزّة" على الرابط: https://gazastory.com/

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

للكاتب نفسه

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...

أجمل من خيال

صباح جلّول 2023-07-06

إنها أجمل من الخيال والأفلام، هذه الحكاية، والناس في حكاياتنا أجمل من الأبطال الخارقين أيضاً وأكثر إبهاراً. ننظر إلى المشهد مرة أخرى، فنتفاجأ بشبان عاديين، عاديين تماماً، ولكن قادرين تماماً...

خضر عدنان شهيداً: قتلوا المناضل المثال!

صباح جلّول 2023-05-02

روح الشيخ خضر عدنان المقاتلة التي لا تلوِّثها اعتبارات السياسة والفصائل والانتماءات والمصالح هي بالذات ما أرّق الاحتلال. كان شيخاً تقياً منفتحاً وعاملاً خبّازاً يعمل في مخبزه في بلدته عرّابة،...