ترك أحمد ح. منزله وعائلته في ليماسول بقبرص وتوجّه إلى الحدود المجرية-الصربية لنجدة والديه الطاعنين في السن الذين هربا من مناطق الحرب في سوريا. هكذا تقول الحكاية. وقد حدث ذلك في أيلول/ سبتمبر 2015. قدم أحمد لمساعدتهما في عبور الحدود، حيث تجمهر عشرات السوريين حين تمّ إقفال الحدود فجأة أمامهم. ومع تزايد إحباط وغضب المحتجّين من المهاجرين، بدأ بعضهم برمي الحجارة على الشرطة الهنغارية التي ردّت بدورها بخراطيم المياه والعنف.
أوقِف أحمد وحُكم عليه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 في المجر بالسجن 10 سنوات. السبب: القيام بـ"فعل إرهابي". فقد ادّعت الشرطة المجرية أنه كان يحاول التحريض على الشغب عبر مكبر الصوت.
أحمد ترك وراءه زوجة اسمها ناديا وطفلتين صغيرتين اسمهما فاطمة وماريا، استفقن ذات يوم ليجدن أن الوالد الذي ذهب لإنقاذ عائلته صار بحاجة إلى إنقاذ..
أقرّ أحمد برمي 3 أحجار على الشرطة مع المحتجين، لكنه يظهر في مقطع فيديو يبيّن بوضوح شديد محاولته التكلم مع رجال الشرطة عبر مكبر صوت، متوجهاً بالقول "جئنا بسلام، لا نريد شيئاً سوى العبور، ولا نريد أن نتصادم معكم."
*****
"لا أستطيع إعطاء وصف واضح للشخص الذي كان يتكلّم على مكبّر الصوت، فكل هؤلاء الناس متشابهون. كل المهاجرين لديهم لحية وشعر أسود"!
"لا أستطيع أن أقول لك من هو، فشكله عربي تقليدي، أنف كبير ولحية.."
هذه عيّنة من الشهادات التي أخذت بها المحكمة المجرية من رجال شرطة، أدلى عدد منهم بشهادات تحوي تعابير عنصرية تجاه اللاجئين المحتجين، في حين رفضت المحكمة نفسها السماح بعرض الفيديو المذكور، الذي يبيّن محاولة أحمد التهدئة.
النتيجة: 10 سنوات في السجن لشاب حاول إنقاذ حياة والديه وكرامة عائلته وحقهم بالحياة.
هل هو وضع استثنائي أم "طبيعي"؟ أين صارت الحدود بين ما يحقّ للدولة فعله وبين حقوق رعاياها؟ أين تنتهي صلاحية الدولة الأمنية؟
القانون في أوروبا يزداد ضبابية. عدد من الدول الأوروبية تدخل بعد أزمة اللاجئين العالمية، في مرحلة جديدة يسودها الاختلال في تعريف القانون وتطبيقه، نتيجة الخوف والعسف معاً، مما يؤدي بالتأكيد لتعريض حقوق الجميع، لاجئين ومهاجرين ومواطنين أوروبيين، لخطر حقيقي.
نشرت منظّمة العفو الدولية تحقيقاً موسّعاً بعنوان "اختلال خطير: التوسّع المستمر لمفهوم الدولة الأمنية في أوروبا". قصة أحمد مجرّد مثال عن عشرات القصص التي تحصل كل يوم على الأراضي الأوروبية.. "ثمة صورة مزعجة أخذت تبرز، وتظهر فيها صلاحيات ممنوحة دون حسيب أو رقيب، تتعدى على الحريات التي لطالما اعتبرناها من المسلّمات"، هذا ما قاله مدير برنامج أوروبا بمنظمة العفو الدولية. تحذر المنظمة من "الاتجاه الكاسح لتعاظم صلاحيات أجهزة الدولة" بشكل يتعدّى على الحريات، وتصفه بالتوجّه "الأورويللي"، نسبة لرواية جورج أورويل (1984) التي يصف فيها الدولة الأمنية المتغلغلة في كل تفاصيل حياة الناس.
"لا أستطيع أن أقول من هو، فشكله عربي تقليدي، أنف كبير ولحية.." هذه عيّنة من الشهادات التي أخذت بها المحكمة المجرية من رجال شرطة، أدلى عدد منهم بأقوال تحوي تعابير عنصرية تجاه اللاجئين المحتجّين.
الوضع المستجد أربك الدول الأوروبية بلا شك وهو يطرح أسئلة كثيرة وكبيرة: هل هو وضع استثنائي أم "طبيعي"؟ أين صارت الحدود بين ما يحقّ للدولة فعله وبين حقوق رعاياها؟ أين تنتهي صلاحية الدولة الأمنية؟ وهل تُعاد صياغة منظومة حقوق الإنسان ككل في أوروبا لمراعاة الامتداد الأمني المتسارع بلا هوادة؟
يبدو أن المنظومة الحقوقية تفكّكت بالفعل، والعنوان العريض، المتكرر بشكل لا متناه، وهو "مكافحة الإرهاب"، بات يُستعمل مبرراً لأي عمل تقوم به أجهزة الدولة الأمنية.
صار معتاداً أن تقرر السلطات معاقبة أفراد على أنشطة قانونية طالما أنها ارتأت أنها قد تؤدّي لأعمال جرمية.. مستقبلاً! واتجهت أكثر من دولة لشرعنة مراقبة البيانات الشخصية للمواطنين على نطاق موسّع (منها فرنسا وانكلترا وألمانيا..). كما يسود التمييز المشين، فيصير مقبولاً اعتبار أنّ مكوّنات معينة في المجتمع (أقليات، مسلمون، ناشطون حقوقيون) هم أكثر ميلاً نحو التطرف. في ظل كل ذلك، لا يمكن وصف الحالة السائدة إلا بالجنون.