الربيع يضعضع غرور الدولة العميقة

أرعب الربيع الدولة العميقة في المغرب وأهانها، فاستحضرت الخوف من الفوضى بمثالي سوريا وليبيا، ومن الإسلاميين، ما جدّد الحاجة لها. لم يسبق لوزارة الداخلية المغربية أن حظيت بالتبجيل كما منذ 2013.
2017-01-18

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
محمد ظاظا - سوريا

من علامات الغرور يوم طالب قيصر روما كاليغولا بتعيين حصانه قنصلاً. ومن علامات الغرور يوم قرر الرئيس توريث الكرسي لابنه، وكان ذلك مسارا طبيعيا بعد أن ورث الكثير من الشباب كراسي آبائهم في البرلمان وقيادة الأحزاب. ومن علامات الغرور أن تسيِّر مراكز النفوذ البلد باتصال هاتفي من منتجع ما مثل شرم الشيخ أو طنجة.. ثم اندلعت احتجاجات شباط / فبراير 2011

 

فماذا فعل الربيع بالدولة العميقة؟
أرعبها بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وجه لها إهانة، كرس "النَيل من هيبة الدولة". جرى نثر وثائق الأمن المركزي المصري، أُرعب الجنرال زين العابدين بن علي فصرخ "فهمتكم فهمتكم".. لا يرحل الدكتاتور إلا مرغماً مهاناً. خاف رجال الشرطة من كاميرات المتظاهرين، انتقل مدبر وزارة الداخلية المغربية من مقرها إلى القصر مع الروموت كونترول. ومع المسافة زادت صعوبات ضبط القناة.

 

تبعات الربيع

 

توارت رموز الدولة العميقة، صارت رموزاً مجردة وافتراضية، رموزاً انكسر غرورها.. كان رجال السلطة السابقين يحظون بمكان بارز. كانوا أثرياء متسلطين فصنعوا لأنفسهم سمعة هائلة. رجال السلطة الحاليين يتصرفون تحت الكاميرات، وهذا ما يضطرهم للتصرف بشكل قانوني، عن خوف أكثر مما عن نزاهة. تقلص نفوذ "رجال الدولة" وصاروا يسمون أنفسهم "خدّام الدولة"، على مقاس خادم الحرمين. مع تراجع السلطة وتقدم الشعارات انتشر سؤال: هل يجب الخضوع للدولة؟ كان الجواب الرائج هو "لا"، وهذا هو طريق الحرية والكرامة والحلم بعدالة اجتماعية..
كان الشاب العلماني المتبرجز ذوقاً وشكلاً يقود الاحتجاجات. يقول إن الشعب يثور، الشعب يريد الجديد، يريد التغيير. الشعب لا يشتري سلعة سياسية مستعملة، ويندد بالمقربين الذين اغتصبوا البر والبحر. سمع الناشط الإسلامي الاغتصاب، فركب الموجة للدفاع عن الأعراض، وانتزع القيادة من الشاب الأول فتحول اتجاه الريح.. بدأت بوادر الفوضى سواء كانت مدبرة أو بنت السياق. وكانت سوريا وليبيا مثالاً مفزعاً.

 

الخوف من الفوضى يجدد الحاجة للدولة

 

تكرر ذكر المثال المفزع فانتشر الخوف، فاحتيج لرجل الأمن صاحب السؤال الاستنكاري "هي فوضى؟". كانت تلك صرخة ممثل الدولة العميقة للتعجب من تغيّر الناس.
فعلا، لقد تحول ذوق البنات، صرن يفضلن رجال الأعمال أكثر مما يعشقن الضباط. كان لذلك مقدمة في فيلم يوسف شاهين "هي فوضى؟" (2008)، حين رفضت الشابة الضابط المسلح وذي الشوارب وفضلت الشاب المصقول كأنثى..

 

انتشر الخوف، فاحتيج لرجل الأمن صاحب السؤال الاستنكاري "هي فوضى؟". كانت تلك صرخة ممثل الدولة العميقة للتعجب من تغيّر الناس

 

لكن الشاب المصقول المتبرجز لم يصمد في الميدان أمام النشطاء الإسلاميين الأشداء الذين لا يعترفون بالدولة أصلاً حتى لو فازوا بالانتخابات. وهذا نقد ذي أصول دينية عامة، فقد اعتبر القديس أوغسطين أن الدولة ليست لها أية سجايا أخلاقية خاصة بها، وقد أحيا البابا غريغوري السابع هذه النظرة واعتبر أن الدولة تحمل طابع قابيل الذي قتل أخاه.
في المغرب استوعب الإسلاميون اتجاه الريح، وتمسكوا بالولاء لولي الأمر، في كل خطبهم يعلن قادة الإسلاميين ولاءهم للملك أمير المؤمنين. لكن لا أحد يصدقهم في الرباط. كان هناك رعب من فقدان الدولة. هنا احتيج لجهاز الدولة العميقة. في هذه اللحظة تبدد عداء اليساريين والليبراليين للدولة القمعية. اصطف المثقفون ــ المتبرجزون المستخدمون في وسائل الإعلام ــ وهم الذين قضوا حياتهم ينتقدون السلطة، ليتحدثوا عن ضرورة الدولة. لم تعد الدولة، حرسها الله، شيطانية...         
تمّ استبعاد هذه النظرة، وجرى الترحيب بالدولة لتكافح الأسلمة أولاً والفساد عاشراً. كانت الأسلمة تقلق حفنة اليساريين فقط، ويعتبرون أن السلطة تستفيد منها. الآن صارت الأسلمة تخيف حتى الدولة العميقة. إنه الخوف من تكاثر الإسلاميين في المؤسسات بالانتخاب والتعيين، ومن أن يؤدي طول مكوثهم في تلك المؤسسات إلى التأثير في طبيعتها وتكوينها وبالتالي تغيير وظائف الدولة القومية لتتماهى مع التنظيمات الإسلامية العابرة للدول والقارات..
لم تعد مشكلة المثقفين مع الدولة بل مع الفوضى. إذاً: دولة بوليسية ليبرالية على المقاس أفضل من دولة دينية بوليسية. لم يسبق لوزارة الداخلية المغربية أن حظيت بالتبجيل كما حصل لها منذ 2013.
لم يعد التقسيم بين رجعي وتقدمي، بل بين دولتي وفوضوي. في الفيلم السابع من سلسلة "ستار وارز" يتم دعم المقاومة ضد النظام، يقع صدام بين أنصار الجمهورية وخصومها. تبدو المعلومة محايدة، لكن حين يوصف الخصوم بأنهم فوضويين يصير المتفرج مرغماً على اتخاذ موقف من الفوضى. كل من ينتقد وزارة داخليتنا فوضوي، وسيحاكم بتهمة التشكيك في الاختيار الديمقراطي للبلد ونشر اليأس. إنه التوحيد الإكراهي للرأي العام لضبطٌ مخاطر التنوّع والتشتّت.
ولتنزيه الوزارة، وجد محللون من ورق أن مصطلح "الدولة العميقة" مستورد من مصر وتركيا، ولا صلة له بالمغرب. تكبيييير.

 

هجوم مضاد

 

في لحظة ثقة، هاجمت وزارة الداخلية الحقوقيين الذين يطالبونها بشدة باحترام القانون. وقد تولت الصحف، التي هي أذرع إعلامية للمخابرات التوضيح: لدى الحقوقيين خطاب وعظي يتجاهل الواقع، أي قانون الدولة العميقة وموازين القوى وذهنية المجتمع التي تسلِّم أن "العصا لمن عصى". والعصا خرجت من الجنة... لآلاف السنين كانت الجماعة (القبيلة)  تعاقب الشاعر الذي يخالف معاييرها، تعزله وتطرده ليسكن القفار "كالخليع المعيّل". في عصر الفردانية المستورَدة لم تفقد الجماعة سلطتها. وقد صار لسلطة القطيع على الفرد تجليات جديدة.
إليكم كيف تتمثل وزارة الداخلية الوعي الجمعي وتمارسه: اعتقل قياديان في الاحتجاجات بتهم بيع الحشيش واغتصاب أطفال. اعتقلت داعية في خلوة غير شرعية. في أول الحملة الانتخابية، بحثت الوزارة عن دمى جنسية لمصادرتها..

 

الهجوم ينتهي بتسجيل أهداف 

 

هجوم عبارة عن تمارين الالتفاف على المرحلة:
تجري العودة لممارسات قبل 2011. تم التشديد على ثوابت النظام الذي لم يسقط، طفا سياسيون ليسوا قدوة للشباب، ثبت أنه في كثير من الإدارات الفساد ضرورة للتسيير، يوجد الفساد في الدماغ أكثر من الإدارة. بعث شعار "تحية لكل مغربي يحب وطنه"، كل فنان يصعد منصة يتدثر بالعلم الوطني. الناس بحاجة إلى دولة. تتخذ إجراءات تقشف غير مسبوقة وتمر بسلام. الناس بحاجة إلى دولة.

 

تجري العودة لممارسات قبل 2011. تم التشديد على ثوابت النظام الذي لم يسقط، طفا سياسيون ليسوا قدوة للشباب، ثبت أنّه في كثير من الإدارات الفساد ضرورة للتسيير، يوجد الفساد في الدماغ أكثر من الإدارة

 

يجري تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية لكي لا تصير عرفاً. كل مرة تغيير شكلي. تخفيض عتبة التصويت لتشتيت الأصوات وإكثار الأحزاب في البرلمان بدل حزبين قويين أو ثلاثة. على فرض أن نسبة المشاركة في التصويت ستكون خمسين في المئة، فتتفرق ثمانية ملايين صوت على ثلاثين حزباً، لا يحق لأي حزب منها ادعاء تمثيل الشعب كله بسبب قلة الأصوات التي حصل عليها. وكتتمة لهذا الخط، تم تطبيق سيناريو هو بالون اختبار: ترفيع وزير الفلاحة التكنوقراطي إلى موقع مدير تنفيذي لأربعة أحزاب. وزير هو مدير شركة كبيرة ناجحة يفترض أنه قد يسيِّر البلد بالطريقة نفسها لمزيد من القمح واللحم. لكن المهم ليس الإنتاج، المهم أن تسيطر علينا أجهزة الأمن من خلف أحزاب كارتونية لا قواعد لها ولا تمثل إلا مصالح منشئيها، وتكفي سيارة واحدة لنقلهم. ولتسيّرنا وزارة الداخلية كما تريد، مع أمنية أن تؤجر تسيير البلد لشركة كورية كمقاولة، لعل التقدم يتحقق.
 تقول الروائية توني موريسون "التغيير هو أن تتكيف دون أن تتحسن". هذا ما تفعله الدولة العميقة، تتكيف لتبقى. تتكيف بمنطقها. في الحقيقة، الربيع العربي لم يحطم الدولة العميقة، فقط جرح كبرياءها وهي بصدد استعادة كرامتها بفضل بوليسها ورجال أعمالها وأبواقها الإعلامية. وفي اتجاه محو أثر الربيع، صرح رئيس وزراء الجزائري منذ أسبوع: "الربيع لا نعرفه ولا يعرفنا"، لذلك سيترشح بوتفليقة لولاية رابعة. في مصر السيسي يفعل ما يريد.
في المغرب تعطلت الحكومة منذ آب/اغسطس 2016. عمليا التكنوقراط يديرون البلد منذ ستة أشهر. الخفافيش في مراكز القرار. في كانون الثاني / يناير 2017، وحدهم خدام الدولة الذين وصلوا لمناصبهم دون انتخاب يحظون بالأخبار الطيبة في عناوين الصحف، فهم ناجحون جادون أذكياء أكفاء فعالون يضربون بقوة، يحققون أرقاما، يحققون في فساد من ترشح، يوبِّخون... تمكنت آليات الدولة العميقة (المخزن) من طمس نتائج الانتخابات التشريعية (7-10-2016)، ويجري تركيع بنكيران بفضل أحزاب مدجَّنة.
الخلاصة لا تطابِق العنوان، الربيع العربي لم يحطم الدولة العميقة بل أرعبها ودفعها لتجديد أساليبها ولديها وسائل كافية لذلك. الجديد أن تسلطها السياسي صار مكشوفا أكثر. الربيع كان استثناء، وما جرى أكد القاعدة: لا صلة بين الحكم والانتخابات في المغرب.
تذكير بالبديهيات: الشرعية هي جوهر السلطة. حين تنتصب السلطة بلا شرعية فهي عصابة، أي صورة القوة المعراة من الحق.

مقالات من العالم العربي

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

أطفال عراقيون وسوريون في شوارع الناصرية.. بين التسول واستغلال الشبكات الإجرامية

2024-11-21

حالات الاتجار بالبشر تشمل أيضا استغلال الأطفال في الأعمال الشاقة مقابل أجور زهيدة، بالإضافة إلى استغلالهم لأغراض أخرى، بما في ذلك الترويج وبيع المخدرات. هذه الظاهرة لا تقتصر على الأطفال...

للكاتب نفسه