انشغل عشرات الفنانين الغربيين برسم فلسطين في القرن التاسع عشر، ونشروا أعمالهم في العواصم الأوروبية ضمن ألبومات تحث مواطنيهم على الحج إلى الديار المقدسة، وتسنّى للمترجمين أن ينقلوا معظم هذه الآثار إلى العربية. أما أعمال الفنانين الروس فلم يُكشف عنها إلا لماماً، لأسباب أيديولوجية في الحقبة السوفياتية وتجارية بحتة في العقود الثلاثة الأخيرة.
أحد هؤلاء المبدعين المجهولين في بلادنا هو مكسيم فوروبيوف.
كان مكسيم نيكيفوروفيتش فوروبيوف (1787-1855) أحد روّاد الرسم الرومنسي الكلاسيكي الروسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد تخرج على يديه في الأكاديمية الإمبراطورية للفنون منذ 1823 عدد كبير من الرسامين المعروفين، الذين أسسوا ما عرف بمدرسة فوروبيوف الفنية. عمل والده حارساً في الأكاديمية، ما مكّن مكسيم من الالتحاق بها وهو في العاشرة من عمره (1797) وبقي فيها حتى غدا أستاذاً أكاديمياً في السابعة والعشرين من عمره. اختار له أساتذته رسم موضوعات المناظر الطبيعية والعمارة، لكنه رسم الأشخاص بشكل جيد مضفياً الحياة على لوحاته.
لم يأت فوروبيوف إلى بلادنا حاجاً، بل كلفه الأمير نيقولاي بافلوفيتش (1796-1855) بمهمّة رسمية وهي رسم كنيسة القيامة في القدس بأدق تفاصيلها. أراد الأمير، الذي غدا القيصر نيقولاي الأول فيما بعد، أن تصير النسخة الروسية من هذه الكنيسة مطابقة للأصل الفلسطيني. كانت هذه الكنيسة ضمن مشروع بناء "القدس الجديدة" على الأراضي الروسية، كنسخة عن القدس بمعالمها ومعابدها. وهو مشروع إمبراطوري روسي ذو أهداف سياسية دينية، بُني على فكرة بطريرك موسكو نيكيتا مينين نيكون (1605-1681) الذي أعاد هيكلة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في خمسينيات القرن السابع عشر. وقد بدأ تنفيذه على أراضي مدينة إسترا شمال موسكو في العام 1656.
وصل فوروبيوف إلى بلادنا في العام 1820 برفقة زوجته كليوباترا لوغينوفنا (1796-1840). أنهى الفنان مهمته الرسمية بعد إنتاجه 90 لوحة بالألوان المائية على الورق تجسد العمارة بالأبعاد والمقاييس. إلا أن قلبه تعلق بفلسطين كلها من الضفة الشرقية للأردن حتى البحر المتوسط، فأبدعت ريشته روائع لأكثر من ستة عشر عاماً بعد عودته إلى بلاده، بناء على الكم الكبير من البروفات التي رسمها في فلسطين. ويحتفظ معرض ترتياكوف الحكومي للفنون في موسكو بمعظم الأعمال المعروفة لفوروبيوف.
نجد التجسيد الأمثل لحركة الناس في أعمال رسمها في قرية طنطورة العربية قرب حيفا، حيث يعطي الفنان طابعاً خاصاً لكل لوحة على حدة. هذه القرية التي قدر لها أن تشهد إحدى أبشع مجازر العصابات الصهيونية 23 أيار/ مايو 1948، وهدمت وشُرّد من بقي على قيد الحياة من أهلها.
يتحرك الأشخاص في الفضاء الساكن للوحات فوروبيوف كما في لوحتي "جسر على وادي قدرون"، وهو وادي الجوز الذي يفصل القدس عن جبل الزيتون، ويمتد عبر بركة سلوان ويصل إلى ضفاف البحر الميت.
في بلاده، لم يحظ فوروبيوف بالدراسة سوى على مستوى أكاديمي ضيق، وربما أبرز من درس أعماله الناقد الفني ألكسي فيودوروف-دافيدوف (1900-1969) في مقال "مكسيم فيودوروف الشاب" الذي لا يتناول اللوحات المرسومة عن فلسطين، والباحثة الفنية تاتيانا بولتايفسكايا التي تناولت أعماله في إطار دراسة الحقبة الرومنسية.
برتقال يافا ثمناً لـ"فلسطين الروسية"
22-05-2020
الرحالة الكييفي بارسكي: بلاد الشام وناسها قبل ثلاثة قرون
29-04-2021
جسّد فوروبيوف بإحساس مرهف مشهد الأفق البعيد والسماء والماء، وقد عبر ناشر مجلة "الفنون الجميلة" نيقولاي كوكولنيك عن هذا المزج بقوله "ليست لوحة، إنما قصيدة للماء والأرض والهواء"، كما في لوحته "مشهد الجبال البيض خلف البحر الميت". لعل أشهر أعماله الفلسطينية هي لوحة "مدخل كنيسة القيامة في القدس" (1823)، ونلاحظ التزامه برسم الأضرحة والمقامات الدينية والمشاهد العامة للمدينة المقدسة، لكنه عندما يستسلم لمزاجه كفنان، ينفلت من الالتزام بمهمته وينحو إلى إبداع خاص منساقاً إلى ما يحبّ. فقد كان إلى جانب الرسم يتقن العزف على آلة الكمان، ما منح بعض لوحاته "سحراً موسيقياً"، خاصة تلك التي رسم فيها ناس فلسطين كما في لوحة "امرأة من عكا" (1820) التي تجسِّد ملامح امرأة شرقية بمهارة عالية، ناقلاً بواقعية الحال الذهنية عبر عيني هذه السيدة، وكذلك في لوحة "سهرة مع الشيخ العربي أبو الغوش".
يتحرك الأشخاص في الفضاء الساكن للوحات فوروبيوف كما في لوحتي "جسر على وادي قدرون"، وهو وادي الجوز الذي يفصل القدس عن جبل الزيتون، ويمتد عبر بركة سلوان ويصل إلى ضفاف البحر الميت. تتضمن اللوحتان القبر المنسوب إلى أبشالوم بن داود، الذي يرسمه فوروبيوف من زاويتين مختلفتين مع الأشخاص قربه مضفياً الحياة على الوادي. تجدر ملاحظة أن ما يقال عن أن الوادي كان أكثر عمقاً، فيه شيء من الصحة إذا ما دققنا في الأفق في لوحتي فوروبيوف.
لكن التجسيد الأمثل لحركة الناس نجدها في أعمال رسمها في قرية طنطورة العربية قرب حيفا، حيث يعطي الفنان طابعاً خاصاً لكل لوحة على حدة. هذه القرية التي قدر لها أن تشهد إحدى أبشع مجازر العصابات الصهيونية في 23 أيار/ مايو 1948، وهدمت وشُرّد من بقي على قيد الحياة من أهلها. يصوّرها الرسّام في لوحة "عربيات في طنطورة" حيث تظهر نساء من أهل القرية في ملابس زرقاء زاهية وخلفية خضراء. وكذلك في "خان طنطورة" (محطة القوافل، 16 أيلول/ سبتمبر 1820)، حيث ينخرط عدد من السكان العرب في محادثة نشطة ويركز على ملامح رجل في الخلفية، فيمنح كل شخص يرسمه حيزاً من الحركة والتفاعل مع المكان.
عند دراسة أعمال فوروبيوف الفلسطينية ينبغي ألا نغفل عن سمتين مهمّتين تتعلقان بالمدرسة الرومنسية الكلاسيكية التي ينتمي إليها. الأولى تتلخص في أن ما يبدو للوهلة الأولى كخطتين للوحة الواحدة أو ثلاث خطط، هو في الواقع لوحات منفصلة أو لقطات لمشهد واحد، كما في لوحات "في البادية السورية"، حيث يظهر الرسام في اللوحة الأولى المشهد مظللاً أما في الثانية فيكون تحت ضوء ساطع من الشمس. في اللوحة الثالثة يبدو الجو مثقلاً بالضباب الذي يحجب التفاصيل وتبتلع كتل منه الخطوط الدقيقة. نفترض، حين ندقق في معالم هذه اللوحات، أن فوروبيوف قد شاهد تحولات المشهد على الضفة الشرقية لنهر الأردن، وأنه يعكس في اللوحات الثلاث المختلفة الألوان والظلال تفاعله مع المشهد وانفعالاته الشخصية.
أنهى الفنان مهمته الرسمية بعد إنتاجه 90 لوحة بالألوان المائية على الورق تجسد العمارة بالأبعاد والمقاييس. إلا أن قلبه تعلق بفلسطين كلها من الضفة الشرقية للأردن حتى البحر المتوسط، فأبدعت ريشته روائع لأكثر من ستة عشر عاماً بعد عودته إلى بلاده، بناء على الكم الكبير من البروفات التي رسمها في فلسطين.
ترك فوروبيوف القدس فور إتمامه رسم اللوحات المائية التطبيقية لكنيسة القيامة، وانجذب إلى السكان المحليين الفلسطينيين، أهل البلاد. كان ينظر إليهم كزائر متفحِص، وكل واحد منهم يمكنه أن يكون موضوعاً للوحة مستقبلية تعكس الهيئات والعادات والأزياء...
السمة الثانية تتعلق بتكرار المشهد عينه في أوقات مختلفة، كما في لوحاته الزيتية المخصصة لمدينة القدس ليلاً ونهاراً، ويترافق ذلك مع إضفاء الغموض على المشهد عبر الألوان الداكنة. وكان هذا النهج عنصراً مميزاً للفنانين في تلك الحقبة، وإضفاء الغموض هو نوع من إشباع موضوع اللوحة بالحزن، مع الالتزام بجميع المتطلبات الأكاديمية والحفاظ على نظام الألوان لنقل المزاج الرومنسي الخاص بالمشهد. والسماء هي المكان الأكثر نجاحاً في تجسيد الرومنسية. يرسم فوروبيوف، من دون أن يدخر الألوان، سماء الصباح والليل بشكل رائع في القدس المليئة بالغموض.
أخيراً، إذا ما كان الرومنسيون بطبيعتهم ميالين إلى السفر والترحال، وكانوا عبر هذا الميل يعبِّرون عن طريقتهم في اكتشاف العالم، يمكننا أن ندرك السبب الكامن وراء ترك فوروبيوف القدس فور إتمامه رسم اللوحات المائية التطبيقية لكنيسة القيامة، وانجذابه إلى السكان المحليين الفلسطينيين، أهل البلاد. كان ينظر إليهم كزائر متفحص، وكل واحد منهم يمكنه أن يكون موضوعاً للوحة مستقبلية تعكس الهيئات والعادات والأزياء... وقدّر لفوروبيوف خلال ستة عشر عاماً أن يبدع بعض تلك الموضوعات في لوحاته.
غزة 1847: رحلة من خان يونس إلى أسدود
22-10-2023
أما السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياة فوروبيوف فقد كانت جافة ثقيلة عليه بعدما فقد زوجته الحبيبة في العام 1840، وبدأت صحته بالتدهور شيئاً فشيئاً إلى أن استسلم سنة 1855، ودفن في مقبرة سمولينسك بجانب زوجته. في العام 1936، نُقل رفاته إلى مقبرة أساتذة الفنون في مجمع ألكسندر نيفسكي في سان بطرسبورغ، حيث أقيم نصب تذكاري فوق ضريحه.