الرحالة الكييفي بارسكي: بلاد الشام وناسها قبل ثلاثة قرون

جال فاسيل بارسكي في بلاد الشام، مسافراً من مدينة إلى أخرى ومن دير إلى آخر لسنوات. استمرّت رحلته لنحو ربع قرن (من 1723 إلى 1747)، وكان يسافر سيراً على قدميه بين دول أوروبا والعاصمة العثمانية، ثم في أراضي السلطنة بين مصر وبر الشام وأنطاكيا، مدوناً ملاحظات دقيقة ونحو مئة وخمسين رسماً توضيحياً ورسومات تطبيقية بالحبر.
2021-04-29

عماد الدين رائف

كاتب وصحافي من لبنان


شارك
مدينة يافا من البحر، 1729، بريشة فاسيل بارسكي

لم ترسُ السفينة التي ركبها فاسيل بارسكي من قبرص في ميناء يافا ليلة 24 أيلول/ سبتمبر 1726. يقول: "لا تقترب السفن الكبيرة من شاطئ المدينة لعدم وجود مرسى جيد فيها، ولا مكان على الشاطئ لبنائه". بات ليلته على متن السفينة التي ألقت مرساتها في عرض البحر، ثم انتقل مع ركاب آخرين على متن قوارب صغيرة إلى المدينة.

في يافا، حيث "النساء يرتدين ملابس طويلة، يغطين وجوههن، ورؤوسهن كذلك مغطاة بأوشحة طويلة جداً، بحيث تتدلى أطرافها لتلامس الأرض" ويضيف أنه ذهب إلى "مضافة خاصة بالحجاج نحو القدس، كان قد سبقني إليها حجاج آخرون، وتجار ونبلاء وكثير من رجال الدين، وكانوا ينتظرون وصول الجمّالين من القدس ليحملوهم إليها... عندما حلّ الليل، دعا كبير المضافة، أو المفوّض، جميع المسافرين النبلاء والأغنياء إلى حجرة منفصلة عن البناء، حيث أولَم على شرفهم، فقدم لهم أصناف الأطعمة بوفرة. أما أنا فلم أُدع بسبب فقر حالي، فبقيت مع الخدم، ووقفتُ خارج الباب لمعاينة ما كان يحدث. بعد فراغهم من الطعام، وفق العادة المحلية، حمل المفوض طبقاً فارغاَ، قرّبه من المولَم لهم فألقوا فيه كل حسب استطاعته من قطع النقد الذهبية والفضيّة... وقد دُعيت، بعد الجميع، مع الخدم والمبتدئين في الرهبنة لتناول العشاء. فأكلنا من بقايا الوليمة وكسرات الخبز".

تلك كانت أولى ليالي بارسكي في بلاد الشام، التي سيجول فيها مسافراً من مدينة إلى أخرى ومن دير إلى آخر لسنوات. شخصيّة هذا الرحالة والحاج الكييفي فريدة من نوعها، إذ يصعب اليوم تخيّل أن رحلته استمرّت لنحو ربع قرن (من 1723 إلى 1747)، وأنه كان يسافر سيراً على قدميه بين دول أوروبا والعاصمة العثمانية، ثم في أراضي السلطنة بين مصر وبر الشام وأنطاكيا، مدوناً ملاحظات دقيقة ونحو مئة وخمسين رسماً توضيحياً ورسومات تطبيقية بالحبر. وكان السفر آنذاك كان محفوفاً بالمخاطر وقد هُددت حياته غير مرة في أماكن مختلفة من رحلته الطويلة.

ولد فاسيل هريهوروفيتش بارسكي (1701-1747) في مدينة كييف، والتحق بـ"أكاديمية كييف موهيلا"، التي كانت واحدة من أهم الجامعات الأوروبية في عصره، ثم شرع بدراسة اللاهوت والفلسفة، قبل أن ينتقل إلى جامعة مدينة "لفيف" اليسوعية مدّعياً أنه كاثوليكي. إلا أن سره اكتشف ولم يتابع دراسته، ما دفعه إلى الانطلاق في رحلته، في نيسان/ أبريل 1724، من كييف إلى إيطاليا، متجهاً في البداية نحو مدينة "باري" الإيطالية، التي تلقب عائلته بها، ماراً بأراضي المجر والنمسا، ثم يمم شرقاً إلى اليونان وجبل آثوس، قبل أن يحل في فلسطين وبلاد الشام.

هنا نضيء على بعض الملامح الاجتماعية في مدن فلسطين ولبنان وسوريا من مدونات بارسكي، التي كتبها باللغة الكييفية الكنسية وفق أدبيات زمانه (1).

على أراضي فلسطين

بعد قضائه عدة أيام في يافا ووصفه أحوالها، يقول بارسكي: "وفد إلينا كثير من الأرمن وعددٌ لا بأس به من اليهود مع نسائهم وأطفالهم... وتجمّع في المضافة عدد كبير من الناس، وباتوا يتوافدون من بقاع مختلفة وكذلك من القسطنطينية نفسها، وذلك لأن كثيرين فرّوا... بسبب الحمّى الوبائية... وبات مجموعنا نحو ألف شخص... منتظرين أمر حاكم المدينة أن يحدد وقت خروجنا إلى القدس كما تقضي الأعراف المحلية هنا". بعد وصول الجمال والخيول من القدس، دفع كل شخص رسماً محدداً وختم الحاكم جواز مروره، يضيف بارسكي: "هذه الرسوم التي تُجبى من الحجاج تعود إلى الباشا بالتأكيد، لأنه أرسل قومه مرشدين مع الحجاج إلى القدس. وإذا لم يسر الأمر على هذا النحو فإنه من المستحيل الوصول إلى القدس بأي شكل من الأشكال، فعلى الطريق عدد لا يحصى من اللصوص، وهم إذا ما استفردوا بعابر ما في الطريق ولم يتمكنوا من قتله فسيرجمونه بالحجارة ويتركونه على قارعة الطريق بعد سرقة متاعه وتجريده من ثيابه تماماً. لذلك، وكيلا يتعرض المسافرون لخطر الموت، تفرض هذه الرسوم الرمزية عليهم ويُنقلون بأمان على طول الطريق. ولا ننسى أن الباشا الذي جمع الرسوم من الحجاج قد مهر جواز كل واحد منهم بختمه مرفقاً بتوقيعه، وأرسل العرب الخيالة والمشاة المسلحين لمرافقتنا إلى القدس، وألقى على عواتقهم هذه المهمة الشاقة".

خارج يافا "انتظم الركب: المشاة المسلحون في المقدمة والخيالة في المؤخرة أما الحجاج ففي الوسط... انطلقوا في الطريق، منهم من يمتطي الخيول ومنهم الجمال ذات الهوادج، أما نحن الفقراء فباسم الرب إلهنا راعينا مشينا بعضنا مع بعض. كنا جمعاً كبيراً آنذاك، نحو ألف وخمسمئة شخص، فلو نظرت إلينا من الجانب لخلت أننا جيش من الجيوش يتوجه إلى معركة". يصل إلى مدينة الرملة، فيصف حالها وأديرتها وقوميات ساكنيها، ومما يقوله: "... يحرثون قليلاً من الأرض، وبالتالي يكون الخبز غالي الثمن هنا كما في يافا. إذا ما رغبت في الحصول على الخبز في سالونيك عليك أن تدفع ثلث سيريبرينيك (أصغر قطعة نقد فضية قيصرية)، أما هنا فللحصول على الكمية نفسها عليك أن تدفع السيريبرينيك كله. كل شيء أغلى بثلاثة أضعاف. يوجد هنا سوق، لكن لا يوجد فيه سوى متجرين أو ثلاثة، وهي متاجر فقيرة. لا يوجد شيء فيها باستثناء بعض أصناف الطعام: الخبز والتين والفواكه الأخرى، قليل من الجبن، لكن اللبن لا يباع أبداً، لأنه لا توجد مراعٍ للأغنام... الناس هنا خاملون سريعو الغضب. توجد لحوم هنا، لكنها باهظة الثمن... العرب معتادون على أكل الخبز مع الزيت لأن الزيت متوفر بكثرة هنا. وبعضهم يتقوّت بالفول والعدس".

مدينة الناصرة، 1729، بريشة فاسيل بارسكي.

ينتقل بارسكي مع الموكب الضخم إلى "مدينة القدس المقدسة المحروسة"، التي يقطن في أديرتها أسابيع متردداً على جميع الأماكن التي ذُكرت في الأسفار المقدسة، منتقلاً إلى بيت لحم ونهر الأردن قبل أن يعود إلى القدس، ويغادر عبر الطريق نفسه إلى يافا. إلا أنه سيعود مشياً مرة أخرى ليجول في جميع أرجاء فلسطين بدءاً من الناصرة سنة 1729.

بين صيدا وبعلبك

وصل بارسكي على متن سفينة من الإسكندرية في 14 تموز/ يوليو 1728، إلى مدينة صيدا التي "تبعد ستة أيام مشياً عن مدينة القدس، في بر الشام، وتبعد عن دمشق ثلاثة أيام مشياً". في المدينة "تجري جداول مياه عذبة تنبع من الجبال، وتنمو فيها أشجار الفاكهة المختلفة... فيها الكثير من الناس وأسواق تجارية وحظائر، يقوم الناس بتخزين كل ما يباع ويشترى في مخازن، وجميع شوارعها مرصوفة بالحجارة. لا يوجد هنا أشخاص مسلحون، ولكن غير بعيد وعلى مرمى حجر منا، تنتصب قلعة صخرية، فيها عدد من المدافع لحماية المدينة، وقد أنشئ جسر حجري فوق مياه البحر الضحلة للعبور من القلعة إلى المدينة".

خارج يافا "انتظم الركب: المشاة المسلحون في المقدمة والخيالة في المؤخرة أما الحجاج ففي الوسط... انطلقوا في الطريق، منهم من يمتطي الخيول ومنهم الجمال ذات الهوادج، أما نحن الفقراء فباسم الرب إلهنا راعينا مشينا بعضنا مع بعض. كنا جمعا كبيرا آنذاك، نحو ألف وخمسمئة شخص، فلو نظرت إلينا من الجانب لخلت أننا جيش من الجيوش يتوجه إلى معركة". 

بعد زيارته أديرة صيدا المختلفة المذاهب، أبحر فاسيل بارسكي على متن سفينة صغيرة، إلى المدينة التالية في طريقه وهي بيروت، وبعد نصف يوم حل في المدينة. مما يقوله عنها "مدينة صغيرة ولكنها رائعة، تشبه الحديقة فيها الكثير من الأشجار غزيرة الإنتاج... تقع بيروت على شاطئ البحر، مثل صيدا، أما مساحتها وميناؤها فأصغر مما هما عليه في صيدا". يتحدث بالتفصيل عن تنوع أديان سكان المدينة، متوقفا عند مساجدها، ثم يزور منطقة القديس جاورجيوس (السان جورج) وعدداً من الأديرة في جوار بيروت. ومما يقوله: "يوجد ما يكفي من المياه الصالحة للشرب في بيروت، وهي تتدفق نحوها من الجبال عبر قناة تصل إلى المدينة. المدينة مسوّرة لها قلعة برية لحمايتها، كما أن لديها حصناً بحرياً قرب شاطئها، والحصن قائم فوق الماء يمكن الوصول إليه باجتياز جسر كما هي الحال في صيدا".

ينطلق بارسكي من بيروت إلى طرابلس مشياً في رحلة خطرة عبر أراضي ساحل كسروان الخاضعة لسلطة بعض المتمردين، ليصل إلى جبيل. يتحدث بالتفصيل عن المهاول، ويقول: إن الناس "يخافون من السفر عبر هذا الطريق، لأنهم قد يُقبض عليهم ويُلقى بهم في السجون ويُضربون إلى أن تُأخذ أموالهم منهم... لا مكان هناك لرجال السلطة وموظفيها، فقد رحلوا عنها منذ فترة، وهذه المنطقة على عداء متواصل معهم". أما مدينة جبيل كما رآها فهي "مهجورة الآن، يعيش فيها عدد قليل من الناس، وهي محاطة بسور حجري ولها بوابة صلبة".

يصل إلى طرابلس "المدينة المجيدة" في 6 آب/ أغسطس 1728، مما يقوله عنها إنها "أكثر جمالاً وأكبر من بيروت وصيدا... يوجد في المدينة سوق كبير، فيه محال كثيرة وتباع فيه السلع المتنوعة. كل منازل المدينة مشادة بحجارة صلبة، وهي مبنية بشكل جيد... جميع شوارعها مرصوفة بالحجارة وغالباً ما تشطف وتنظف. الماء هنا جيد وبارد، يتدفّق بشكل متواصل من الجبل إلى المدينة فيشربه الناس ويشكرون الله. يعيش هنا الأتراك والروم والأجانب والعرب المسيحيون والموارنة والتجار الفرنسيون الوافدون على متون سفن، وآخرون من المقيمين الدائمين... يمتد تيار مائي سريع من الجبل يروي الحدائق، وتصل أقنيته إلى المدينة نفسها، ففي كل شارع فيها حتى أصغرها تجد مصدراً للمياه العذبة الباردة، تتدفق المياه في كل الزوايا وتنظفها وتحمل الأوساخ من المنازل...". ويمكننا هنا ملاحظة أن طرابلس كانت أقرب المدن المشرقية إلى قلب بارسكي، فقد عاد إليها عن طريق عكا بحرا في نهاية تموز/ يوليو 1729، ثم وصل إليها من جديد في 31 تموز/ يوليو 1729، وأقام فيها عشرة أشهر حيث علّم اللغة اليونانية في مدرستها الأرثوذكسية، ثم عاد إليها بقصد الإقامة مطلع العام 1733، إلا أن الطاعون انتشر في المدينة في آذار/ مارس. يقول: "بعد مرور شهرين، غزت الجائحة طرابلس وغدت تتسع يوماً إثر يوم، فضاج التلامذة ومعلموهم، ولم يعرفوا ما هم فاعلون، وفكروا في الذهاب كل في طريقه... فانطلقنا ووصلنا إلى دمشق يوم خميس المرفع... وحل علينا السرور روحياً وجسدياً، وأمضينا أيامنا في فناء البطريركية".

وصل بارسكي الى مدينة صيدا التي "تبعد ستة أيام مشياً عن مدينة القدس، في بر الشام، وتبعد عن دمشق ثلاثة أيام مشياً". في المدينة "تجري جداول مياه عذبة تنبع من الجبال، وتنمو فيها أشجار الفاكهة المختلفة... فيها الكثير من الناس وأسواق تجارية وحظائر، يقوم الناس بتخزين كل ما يباع ويشترى في مخازن، وجميع شوارعها مرصوفة بالحجارة" 

أبحر فاسيل بارسكي على متن سفينة صغيرة، إلى المدينة التالية في طريقه وهي بيروت، وبعد نصف يوم حل في المدينة. مما يقوله عنها "مدينة صغيرة ولكنها رائعة، تشبه الحديقة فيها الكثير من الأشجار غزيرة الإنتاج... تقع بيروت على شاطئ البحر، مثل صيدا، أما مساحتها وميناؤها فأصغر مما هما عليه في صيدا". 

بعد طرابلس وزيارة جميع الأديرة المحيطة بها وأديرة جبل لبنان، ينطلق بارسكي إلى الأرز متحدثاً عن القرى التي مرّ بها، ثم يهبط نحو سهل البقاع قاصداً بعلبك، التي يصل إليها في 2 أيلول/ سبتمبر 1728، ويمكث فيها عشرة أيام. آنذاك كانت هياكل مدينة هليوبوليس واضحة المعالم فوصفها الرحالة بالتفصيل مقدراً المسافات والأبعاد بوحدات القياس القيصرية. وصل بارسكي إلى بعلبك ووصفها قبل وصول المعماري الإيرلندي روبرت وود (1717-1771) وزميله جايمس داوكينز (1722-1757) بثلاثة عقود، فتحدث عن هياكل المدينة وأعمدة جوبيتر التسعة، التي أطاح زلزال 19 تشرين الأول/ أكتوبر 1759 ثلاثة منها. وقد أفرد عيسى إسكندر المعلوف (1859-1956) لهذا الزلزال المدمر الذي أزهق عدداً كبيراً من الأرواح وهدم البنيان من بعلبك إلى دمشق، صفحات من كتابه الفريد "تاريخ البقاع وسوريا المجوفة" (بيروت، دار الفارابي، 2018).

مما قاله بارسكي عن بعلبك: "حول المدينة تمتد إلى ما لا نهاية كروم العنب الرائعة وبساتين أشجار الفاكهة المختلفة والجداول المتدفقة المياه. هنا العديد من بساتين الخوخ والتفاح والكمثرى والتين، والأهم من ذلك بساتين الجوز. الفاكهة والنبيذ رخيصان هنا، يباع الخبز بسعر معقول، أرخص مما هو عليه في الأماكن التي سبق ذكرها، لكن المنتجات الأخرى قد يكون من الصعب الحصول عليها. والناس هنا لديهم ما يكفي من المال، فهم يستخرجون الحديد الجيد كذلك ويرسلونه إلى دمشق والمدن المحيطة الأخرى. يوجد منجم جيد على جبل لبنان، والثاني في مكان آخر قريب كذلك".

من دمشق إلى إدلب

يلتحق بارسكي بقافلة تجارية يسير قربها من بعلبك إلى دمشق فيسهب في وصف أبنيتها وما يحيط بها من بساتين، ويقول: "يعيش في دمشق أناس من ديانات مختلفة.. أما اللغات المستخدمة هنا فهي اليونانية، والرومية أو الإيطالية، والإسبانية، والتركية والعربية، وهذه الأخيرة يتحدّث بها الجميع". يصف بارسكي الشوارع والمعابد المختلفة، وتدهشه حماماتها العمومية، يصفها بأنها "أنيقة ورائعة جداً، مزينة بالرخام المتنوّع، وفيها مياه دافئة وباردة، حيث يغتسل السكان المحليون مع كثيرٍ من الخدم والغرباء، ليس كما هي الحال في أماكن أخرى، وهنا يمكنك الاستمتاع بجمال الحمام والاغتسال في آن".

يصل إلى طرابلس "المدينة المجيدة" في 6 آب/ أغسطس 1728، مما يقوله عنها إنها "أكثر جمالاً وأكبر من بيروت وصيدا... يوجد في المدينة سوق كبير، فيه محال كثيرة وتباع فيه السلع المتنوعة. كل منازل المدينة مشادة بحجارة صلبة، وهي مبنية بشكل جيد... جميع شوارعها مرصوفة بالحجارة وغالباً ما تشطف وتنظف. الماء هنا جيد وبارد، يتدفّق بشكل متواصل من الجبل".  

عن بعلبك: "حول المدينة ... كروم العنب الرائعة وبساتين أشجار الفاكهة المختلفة والجداول المتدفقة المياه. هنا العديد من بساتين الخوخ والتفاح والكمثرى والتين، والأهم من ذلك بساتين الجوز. الفاكهة والنبيذ رخيصان ويباع الخبز بسعر معقول، أرخص مما هو عليه في الأماكن التي سبق ذكرها. والناس هنا لديهم ما يكفي من المال، فهم يستخرجون الحديد الجيد كذلك ويرسلونه إلى دمشق".  

ينتقل بارسكي من دمشق إلى صيدنايا، ثم إلى يبرود والنبك، ويصف الأديرة والمزارات في طريقه، ثم يصل إلى حمص، يقول عنها: " الآن شبه مهجورة ومدمرة جزئياً، وبقي فيها نحو نصف سكانها، وكثير من أحيائها خال. لكن أسوار المدينة لم تدمر كما هي الحال في هليوبوليس، وهي لا تزال قوية لم تتزعزع. للمدينة أربع بوابات للدخول والخروج، ولا يوجد طريق آخر للمدينة إلا عبر تلك البوابات حيث يوجد عددٌ من الحراس". ينتقل بارسكي منها إلى مدينة حماة ويصف نواعيرها الضخمة، ثم يصل إلى اللاذقية، يقول عنها: "... مياهها صالحة للشرب على الرغم من ملوحتها. هذه المدينة أصغر من طرابلس، لكن ليس فيها سور ولا بوابة ولا حراس. تنمو أشجار الليمون والبرتقال وأشجار الفاكهة الأخرى في بساتينها، لكنها قليلة. لقد واجهت كثيراً من المصاعب في المدينة، خاصة في الحصول على الخبز، ولكن أكلت بطريقة ما".

يصل بارسكي إلى مدينة حلب، ويقضي أياما بائسة فيها، لا يستقبله أحد ويصرف ما لديه على المبيت في مضافة ثم على القليل من الطعام ويمرض، يقول عنها: "تكاد تضاهي دمشق من حيث الثروة وعدد السكان والحجم، لكن ليس من حيث الجمال.. في المدينة ما يكفيها من المياه الجارية... ويجلب كثير من الفواكه والثمار إلى حلب من أماكن أخرى. هناك ما يكفي من كل شيء، فالبضائع المختلفة يجلبها التجار ويوجد كثير من الطعام والفضة (المال)". 

عن سوق المدينة يقول: "فيه كثيرٌ من المحال التجارية ذات الأغطية الحاجبة نور الشمس والرياح... جميع شوارع المدينة مرصوفة بالحجارة المتساوية، وفي وسط الشوارع خنادق صغيرة لتصريف مياه الأمطار وتنظيف الفضلات والأوساخ. كذلك يوجد أشخاص مكلفون بالإشراف على النظافة، في الأسواق والمنازل على حد سواء. وهي بالتالي نظيفة دائماً. تمر قناة مائية صغيرة عبر المدينة من أولها إلى آخرها. وهي تبدأ في مكان بعيد، ثم تنقسم إلى كثير من الأقنية، وتحمل المياه اللذيذة والشافية إلى جميع المنازل".

"يعيش في دمشق أناس من ديانات مختلفة.. أما اللغات المستخدمة هنا فهي اليونانية، والرومية أو الإيطالية، والإسبانية، والتركية والعربية، وهذه الأخيرة يتحدّث بها الجميع". يصف بارسكي الشوارع والمعابد المختلفة، وتدهشه حماماتها العمومية، يصفها بأنها "أنيقة ورائعة جداً، مزينة بالرخام المتنوّع، وفيها مياه دافئة وباردة، حيث يغتسل السكان المحليون مع كثيرٍ من الخدم والغرباء". 

ينتقل بارسكي من دمشق إلى صيدنايا، ثم إلى يبرود والنبك، ويصف الأديرة والمزارات في طريقه، ثم يصل إلى حمص، يقول عنها: "الآن شبه مهجورة ومدمرة جزئياً، وبقي فيها نحو نصف سكانها، وكثير من أحيائها خال. لكن أسوار المدينة لم تدمّر ... وهي لا تزال قوية لم تتزعزع. للمدينة أربع بوابات للدخول والخروج".  

من حلب يتجه بارسكي إلى إدلب حيث يقضي عيد الميلاد (7 كانون الثاني/ يناير 1729) ويصف أحوالها، ثم يتجه إلى جسر الشغور، ويعود إلى حماة، ويستمر في سيره جنوباً فيعبر جبل الدروز وجبل عامل ليصل إلى الجليل ويحل في الناصرة. وبعدها يقصد مدينة القدس من جديد بطلب الاستشفاء. 

______________

1 - وقد صدرت منذ ايام في كتاب بعنوان "الرحلة إلى الديار المقدسة في الشرق" (بيروت: دار المصور العربي، 2021). وقد نال عماد الدين رائف الجائزة الخاصة بلجنة Drahoman Prize ل"الاحترافية العالية في الترجمة وتعميم الأدب الكلاسيكي الأوكراني"، وهي الجائزة الأولى للترجمة من الأوكرانية إلى اللغات المختلفة، وأجريت بمشاركة مترجمين من 18 دولة من حول العالم. 

مقالات من العالم العربي

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

للكاتب نفسه

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....