تتيح أضرحة الأولياء في المغرب إنتاج عوائد تقوم على الكسب دون تعب، بما يشبه الاقتصاد الريعي. وهي دورة اقتصادية لها ثقافتها الممتدة من التسوّل في الشارع إلى الأحزاب التي يعتبرها المنتمون إليها مجرّد وسيلة للوصول إلى المناصب، وإلى الدولة نفسها..
طفل يحمل صحنا فيه قطعة ثوب أخضر عليها بضع قطع نقدية يحيط به أقرانه مرتدين بذلات متشابهة، ويجوبون الشوارع مرددين "عاون الفريق". إنه التسول بالرياضة. في الكورنيش طفلة تتبع سائحاً ليعطيها صدقة بينما أمها تراقب المشهد عن بعد. في مقاهي الدار البيضاء لا تمر دقيقة دون أن يقف متسول أو متسولة على رأس الزبون. وهذا إيقاع يفرض على رب المقهى تشغيل نادل قوي البنية يتوسل المتسولين للابتعاد عن المكان قبل أن يهدد باستخدام عضلاته..
يدعو المتسول للزبون بالصحة وطول العمر ويختم "الله يفيض خميرتك". يستعير تضاعف حجم الخميرة للرزق. بعضهم ينغّم دعواته من طول ممارسته للمهنة.. يأتي بائع يعرض ما لا يحتاجه الزبون، وحين يرفض الشراء يطلب منه "التعاون معه"، أي منحه نقود دون أن يشتري.
يجري ذلك بمعدل عشرين متسول متنوع على هذا الشكل في ساعة، يبالغ المتسول في استعطاف استفزازي غالبا ما يأتي أكله لأن الزبون يريد التخلص من الإزعاج. وهذه من ديناميات التسول، وهي مدرة لدراهم باردة. وهي دينامية مناقضة لدينامية الرأسمالية التي تنتج سلعاً.
الرجال المتسولون في قلب الدار البيضاء أكثر من النساء حسب الملاحظة العيانية.. وفي بعض الحالات لا يفسر الفقر اللجوء للتسول.. وليس صدفة أن انتقلت ثقافة التسول الى صفحات الفايسبوك وكثرت طلبات اللايك والدعوات مثل "ّدعواتكم أصدقائي، مريض الخ..".
وعند تفكيك ثقافة التسول بالعودة لجذورها، نلحظ أن سلوكيات التسول انتقلت من قبر الولي الصالح إلى المقاهي ومختلف نواحي الحياة الاجتماعية. وحدها المقاهي تزيد عن عدد قبور الأولياء في المغرب. في محيط القبر المُدرّ للدخل بفضل النذور والهبات، يعيش المريدون مجاناً.. أيديهم ناعمة ووجوههم بيضاء مشربة بحمرة حتى في جنوب المغرب الفقير والحار. يعيشون في الظل بفضل الريع، ينظرون للعالم من ظل القبر، يشتمون الحياة ويمجدون الحياة الأبدية.. يمتدحون الموت ويستصغرون النفس لإظهار التواضع، يتخذون من الدروشة والمظلومية سبيلا لاستدرار العطف النقدي والعيني..
مكانة القبر
المقبرة هي أول تجمع بشري مستقر في حياة الرحل. يعتبر القبر في البوادي المغربية رمزاً للجد المؤسس الذي تستقر حوله القبيلة. القبر جذر، مجال انتماء، مركز جينولوجيا القبيلة، تنشأ حوله الحقول والمنازل، وسكانها أقل عناداً من الرحل ولا يفهمون شعار "قل كلمتك وامشِ"، بل يقدسون الاستقرار.. لذلك تُظهِر القبائل الوفاء لأوليائها / جذورها. وللوفاء بعد نقدي (من النقود لا من النقد، البناء أو الهدام).
أقدم المدن في التاريخ مقابر. وقد يكون القبر رمزاً لدولة مثل الضريح المبجل لمؤسس الدولة المغربية مولاي ادريس زرهون (793 ميلادية) الذي يزار حتى لليوم. وللقبر مكانة كبيرة في الثقافة العربية الإسلامية. فالقبر عتبة بين الدنيا والآخرة. وحاليا يحتل القبر ويوم القيامة مكانة كبيرة في الخطاب اليومي. ووعياً بأهمية القبر، صور المخرج الإسباني أوليفير لاكس فيلم "ميموزا" في المغرب عن شبان يتحملون عبئاً رهيباً لدفن جثة شيخ في بلدته الجبلية. فيلم عبثي عن وزن جثة الشيخ التي تقود مصيرنا. وقد حصل الفيلم على الهرم الذهبي لأفضل فيلم أجنبي في مهرجان القاهرة.
الأولياء هم نُخب البوادي، وأن يكون الولي أميّاً ليس مشكلة بل هو امتياز لتشبهه بالنبي. ويقال إنّ مكان القبر كان خلاء ولا اسم له قبل أن يستوطنه الولي ويعطيه اسمه. في قرية خميس سيدي يحيى (70 كلمتر شرق الرباط)، جاء الاسم من دفين المكان، الولي الصالح سيد يحيى. وعلى بعد كلمترين منه ضريحي وليين آخرين: سيدي المخفي وسيدي اليماني. وخلف مبنى هذا الأخير حفرة حولها ثلاثة أحجار تسمى "دار الضمانة". حجر "مقدس" تعقد حوله القبائل اتفاقياتها وهو يضمنها.
في هذا الضريح، كانت تضاء شمعة كل ليلة.. لقد نشأ السوسيولوجي البصاص في بادية فيها ثلاثة أضرحة في دائرة لا تتجاوز الكيلومترين. يمر بها يومياً في طريقه للمدرسة. هنا تدخل الزائرات الضريح حافيات، تُضئن شمعة وتَطلبن العافية والأولاد والبركة. لا تَطلبن الرزق من الضريح بل من الله.
تقديم الشمع ليس أمراً هيناً في عصر الظلام، يصعب على من ولد في عصر الكهرباء أن يفهم الشمع، لكن مليارات البشر الذين عاشوا قبل الكهرباء يعرفون فعلاً ما معنى الظلام، كما يعرفه اليوم طفل وحيد في غرفة حين تنقطع الكهرباء ليلاً. الشمع غالٍ في عصر الظلام، وهو هدية رمزية أيضاً.
مداخيل القبر
في مناطق أخرى من المغرب، حيث مقابر أكثر شهرة ونفوذاً، تُنظَّم مواسم سنوية ضخمة. يحكي مؤرخ في القرن السابع عشر أن عدد الحاضرين في موسم زاوية بلغ اثني عشر ألفاً ذُبح لهم بين يوم وليلة 700 من الغنم و200 من البقر و20 من الإبل. تترافق الزيارة مع طقوس رقص وجذبة، وتساهم طقوس الرقص الجماعي الشبيهة بالصرع في التطهير. وفي الفترة نفسها حصل أمر مشابه في أوروبا. يتحدث المؤرخ إريك هوبزباوم في كتابه "عصر الثورات" عن الحاجة لتفريغ الطاقة البدنية للأتباع. وقد جرت مشاهد رقص وتفريغ مماثلة في ضريح الشيخ الكامل الهادي بنعيسى وسط المغرب في 2015.
المقبرة هي أول تجمع بشري مستقر في حياة الرُحّل. والقبر في البوادي المغربية رمز للجد المؤسس الذي تستقر حوله القبيلة. القبر جذر، مجال انتماء، مركز جينولوجيا القبيلة، وتنشأ حوله الحقول والمنازل
عدد الذبائح التي تساعد على توالد الرأسمال الرمزي للولي هي الأهم في كل هذا. فللولي موارد اقتصادية ليطعم أتباعه. فإذا فرغت قدره قلّ أتباعه. ويغني الرأسمال الرمزي اقتصاد القبر. من أين تأتي موارد القبر؟ من حاجة المغاربة للتصدق لصد شر العين، لصد شر غامض. وكل من يخاف من الحسد يعتبر وضعه جيداً وهو راضٍ لا يثور. من زكاة القبائل، من الوفاء للنذور، من الكفارة عن كل يمين حنثت، في لحظات الأزمة يعلن الفرد النذر، وفي محاولة التأثير على من حوله يُقسم.. وحين تمر الأزمة أو يخلف القسم يجب أن يدفع الكفارة، والمسئول عن القبر الشريف يتسلمها بفرح. وحتى في 2016 يعطي المواطنون ووزارة الداخلية والقصر الملكي الأموال لخدام الضريح فيزيدون في نفوذهم.
امتدادات ثقافة التسول
لا يحرث المريدون حتى عندما تملك زاوية الولي أراضٍ فلاحية، بل تأتي القبائل لتحرث جماعياً للولي، ويسمى هذا "التوزية"، أو يؤجر الولي وسلالته الأرض لفلاحي القبائل. ومن يأتي الزاوية يأكل. يحكي ابن الزيات صاحب كتاب "التشوف" (1220م) أن ولياً جاع "فلفظ له البحر سمكة فأكلها نيئة". فما هي الخواص السيكولوجية لزوار الضريح التي تنتقل لحياتهم ولمجمل سلوك المغربي؟
تعلم السوسيولوجي البصاص في الابتدائي حكاية "تعالَ نحلق رؤوسنا بالمجان"، وهي ترسخ عادة الحصول على المجاني. وليس صدفة أن يطلب التلميذ من الأستاذ معاونته بالنقاط غير المستحقة من باب التسول. وبجانب المدرسة، يرسِّخ التصوف صورة الحياة الدنيا في الثقافة الشعبية: غدارة، متقلبة، فاسدة، قبيحة.. وبالتالي فهي مُنفِّرة، ومن ينجح اقتصادياً يوصف بأنّه "يحمل وسخ الدنيا". هذه عقلية تشجع على الهروب من الحياة الاقتصادية وتُعطِّل قوى الإنتاج.
لا يقتصر التسول على الفقراء، فالأغنياء يتسولون الدولة، ويسمى ذلك "الريع"، وهو تسول الكبار
يشتم ابن الجوزي المتصوفة لأنهم يفضلون التوكل على الكسب ويرددون "لا بد من أن يصل إلينا رزقنا". ورزقهم يصلهم وافراً. ولم يشتك أحد من قلة اللحم في حفلات الأضرحة. فالقبر ليس مجرد حفرة، إنه نواة تنظيم اجتماعي يشد التماسك الاجتماعي وينتج مشاعر توحيد أقوى من الاسمنت. غير أن هذه الفوائد لا تلغي النتيجة الفرعية:
لقد أورثنا اقتصاد الهبات ثقافة التسول الآن. وحين يأتي أطفال يطلبون صدقة فهذا يضمن مستقبل ثقافة التسول. ولا يقتصر التسول على الفقراء، فالأغنياء يتسولون الدولة، ويسمى ذلك "الريع"، وهو تسول الكبار. صحيح أن المغرب يتبنى اقتصاد السوق. صحيح أن الريع عدو السوق، لكن يوجد ريع في بطن السوق، ريع هو عبارة عن تسول احترافي. ففي دولة الريع العطوفة الكريمة شعب ينتظر العطايا، زعماء أحزاب خسروا الانتخابات ويتسولون كراسي وزارية، مثقفون متسولون يمارسون المدح والرثاء التكسبي، مؤلِّفون متشبعون بثقافة التسول يفتتحون كتبهم هكذا "كتبه عبيد الله المفتقر لعفوه وفضله ورحمته" ويختمون بشكر ولي النعم.
تتسبب الصدقات في تأبيد فقر من يتلقونها. في نقد المجاني يردد المغاربة "الفابور كيغرق البابور" (المجاني يغرق السفينة). حاليا لا شيء يعادل اقتصاد القبر إلا فتاوي وكتب "عذاب القبر". ما كان تجارة سيصير ناراً، لكن المتصوف المغربي الملتصق بأرضه ولله الحمد قد هزم السلفي الجوال في الميدان لحد الآن.