في غمرة الأخبار المُفجِعة من غزّة وسيول دموعها التي لا تتوقف عن الدفق، قد يطالعكَ أحياناً مقطع فيديو يدهشك ويهزّك بعمق. مقطعٌ لناسٍ في غزّة استطاعوا للحظة أو بضع لحظات خلق عالمٍ آخر لأنفسهم أو للآخرين من حولِهم، وبالأخص للأطفال النازحين في ظروفٍ هي الأسوأ لأي طفل على الكوكب اليوم. قد يُصدم المرء عند التحديق بتلك القدرة على هزيمة الرعب الواقع، ولو لدقائق قليلة.
لأطفال غزّة الغلبة
26-10-2023
عيون شهداء غزّة.. نافذةٌ على جمالها
12-11-2023
"اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نرى عملنا مع الأطفال أمراً بالغ الأهمية وذا تأثير جليّ. هناك أطفال في مجموعتنا شهدوا أهوالاً وعانوا من صدمات كبيرة. سألنا الأطفال من منكم تعرض منزله للقصف؟ قالوا جميعاً نعم. سألنا الأطفال من منكم يشعر بالبرد في الليل؟ قالوا جميعاً نعم. سألنا الأطفال من منكم يريد العودة إلى المنزل؟ صرخوا جميعاً نعم. سألنا الأطفال من منكم يريد أن تنتهي الحرب؟ قالوا جميعاً نعم"... كتب عوني فرحات على صفحته على إنستغرام. هو أحد الشبان والفتيات الـ15 الذين أطلقوا مبادرة للترفيه عن الأطفال النازحين في غزة والذين يعانون من صدمات متعددة بتأثير حرب الإبادة المستمرة عليهم. في الفيديو، يعرض "ركن الحكاية"، حيث الفنان الشاب محمود البلبيسي يقرأ قصة أطفال يتفاعل معها عشرات أطفال مخيم النزوح.
في فيديو آخر، تجلس الفنانة رؤى حسونة على الأرض محاطة بمجموعة كبيرة من الأطفال. تحمل آلة عود وتعلّم الأطفال النغمات والسلم الموسيقي والألحان والأغاني الشعبية. تُسْمعهم رؤى صوت العود بينما طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تشوّش بزنّها المتواصل فوق رؤوسهم التي تشتهي صوتاً ألطف.. تضرب وتراً فيطلع صوت طفلٍ من بينهم يقول "ياي!". "ياي" قادرة على أن تذيب قلبك، فهذا طفلٌ قادر على تعبيرات الدهشة والفرح وسط مشهدٍ أُعدّ للموت، فحمداً لله على قدرات الأطفال على النسيان والإقبال على الحياة. ثمّ يغنّون جميعاً "على دلعونة وعلى دلعونة. زيتون بلادي أحلى ما يكونا"، وهم في أرضٍ خلاء لا تظللهم فيها زيتونة ولا شجرة أخرى.
في مقطع آخر، يتسابق عشرات الأولاد عبر تشكيل قطارات متوازية بأجسامهم والزحف حتى خط النهاية.
وفي مقطع ثالث، يلوّن شاب مهرِّج وجهه ويلبس ثياباً ملونة ويخرج للاستعراض وسط دائرة كبيرة من أطفال المخيم.
بدوره يشارك "سيرك غزّة الحرّ" فيديوهات عديدة لأنشطته الترفيهية المخصصة للأطفال والسكان النازحين، وكل تلك المقاطع تحتوي على إرادة حياةٍ لا يماثلها أي شيء مما شهدناه أو مما قد يخطر للمرءِ عند الحديث عن غزّة..
في فيديو آخر، يعزف شابان على الكيبورد في غرفة معتمة موسيقى "ليلة القبض على فاطمة" من تأليف الموسيقي المصري عمر خيرت. تحت المقطع كتبوا: "اليوم 72. أخيراً لاقينا طريقة نشبك الكيبورد على طرق التكنولوجيا الغزّاوية لنعزف مع بعض...". تجول كاميرا الموسيقي الثالث بينهم، حمادة نصرالله، على بطارية ومحول كهرباء صغير وشرطان موصولة بآلة العزف. يسمّيه "غزّة ستايل". وحمادة هو نفسه الشاب المولع بالموسيقى الذي صُدم سابقاً لرؤية غيتاره الذي يعني له الكثير في يد جندي صهيوني يلعب به أمام بنايات وشوارع مدمرة في غزة..
وهو نفسه في مكان آخر يغني مع الأطفال فوق الركام – حرفياً- "غزّة غزّة بلدي".
هذه لحظات مسروقة من آلاف لحظات الوجع، تطل برأسها بين الضربة والضربة، بين القصف والقصف، بين الإصابة والشهادة والتشرد والجوع - الحقيقي جداً. نحبّ هذه المشاهد بقوة، لكنها لن تلهمنا الفرح والسلوان، بل هي علامة أسىً كبير لا ينفصل لثانية عن فكرة أن كلاً من هؤلاء الأطفال يعيش سوء تغذية حقيقية، ومشاعر قلق وخوف واضطراب بشكل مؤلم. وأن كلاً من هؤلاء البالغين يعضّ على جروحٍ لا حصرَ لها ويجاهد نفسه كي يستطيع الوقوف على قدميه وتقديم خدمة لمجتمعه، لأطفاله، للآخرين، في مثل هذا الظرف!
لا تقول هذه المقاطع بأي شكلٍ من الأشكال أنّ بإمكان الحياة أن تكون "بخير" تحت الإبادة. هذا غير ممكن.
"الحياة" بشكلها الحالي في غزة مرعبة وثقيلة وصعبة إلى أقصى حد لكلّ الغزيين بلا استثناء. هذه المقاطع المصورة هي طريقتهم ليقولوا أنهم أحياء، أنهم يتحدّون سطوة الموتِ العميم، أنهم مضطرون لهذا التحدّي الثقيل، أنهم عنيدون جداً، أعزّاء النفوس جداً، وأنهم يحاولون أكثر منا مجتمِعين - نحن اللذين ننظر إليهم من خارج الإبادة، فنشعر بالذنب لأن عيوننا تصل فتراهم، فيما أيدينا لا تصل فلا نحن ننتشلهم ولا نحن نردع الوحش عنهم..
هذه المقاطع هي "بيانهم". وهو بيانٌ ليس من شأنه التخفيف على المُشاهِد البائسِ مِنّا عبر لحظة "حلوة" وسط الإبادة، تثبت للبائسِ صبر واحتمال البشر مواضيع هذه الإبادة. ولكنّه بيان وجودٍ يعلنونه، مدفوع بالحب (من طرفهم) وبالكثير الكثير من العنف (من طرف عدوهم وعدوّ الإنسانية).
فليعيشوا أبداً – هؤلاء الذين تليق بهم الحياة - وليفنَ عدوّهم...