بدأت السنة الدراسية الحالية بروتينها المعتاد: استقبال التلاميذ، تشخيص مكتسباتهم التربوية السابقة وتقييمها، وكثير من الإجراءات الإدارية الروتينية... ثم بغتة، ودون الأخذ بعين الاعتبار ملاحظات المعنيين بالأمر بشكل كامل، فوجئ المدرِّسون بإصدار مرسوم النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية والتعليم أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، وهو عبارة عن قوانين تنظّم عملهم، وتحدد واجباتهم وحقوقهم ونسق ترقيتهم ورتبهم وتفاصيلهم الوظيفية.
لاحقاً، طفت على سطح المشهد بوادر الاحتقان، كان أولها إضراب 5 تشرين الأول/ أكتوبر المتزامن مع اليوم العالمي للمدرِّس، الذي حقق نسبة مشاركة تزيد عن 90 في المئة من المدرّسين. لم تتفاعل الوزارة مع هذه الرسالة بشكل آني، واستمرت في "تسويفها" المعتاد، في ظل شلل شبه تام للمدارس العمومية إثر استمرار الأساتذة في احتجاجاتهم وإضراباتهم غير المسبوقة في تاريخ الحراك التعليمي للبلد.
"نريد إسقاط نظام المآسي"
مرَّ شهر تشرين الأول/ أكتوبر بعدد أيام أقل من الإضرابات، كخطوة احتجاجية تهدف الى التدرج في الضغط على وزارة التربية، التي لزمت الصمت طويلاً لتخرج بتصريح رسمي يفيد بأن هذا القانون سيتم "تجويده"، وفقاً للتوافقات التي من المفترض أن تُجرى بين الوزارة والنقابات التعليمية.
بيد أن هذا المقترح كان بمثابة "تكتيك" من قبل الوزارة (على حد وصف المدرّسين)، يهدف إلى المماطلة وكسب الوقت، ومن ثمّ فرض النظام الأساسي على المدرّسين، بعد أن يتعبوا من الإضرابات والوقفات والمسيرات الاحتجاجية. لكن هؤلاء استمروا في إضرابهم لـ 18 يوماً خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، وتخلل الإضراب مسيرة وطنية يوم 7 تشرين الثاني/ نوفمبر كانت الأضخم في تاريخ الحراك التعليمي في المغرب. وتفيد المصادر الصحافية والنقابية أن الحضور يفوق عشرات آلاف المتظاهرين الذين جابوا أكبر الشوارع الحيوية للعاصمة الرباط، صادحين بلسان واحد: "الأستاذ يريد إسقاط النظام.. نظام المآسي".
المسعى الخفي للوزارة هو أن تقلل من الكتلة الأجرية لموظفيها بشكل تدريجي، خاصة المدرسين، إذ يشكلون الفئة الأكثر حضوراً في الوظيفة العمومية بتعداد يزيد عن ربع مليون أستاذ وأستاذة. هذا الرقم الضخم تراه الحكومة "عبئاً" على خزينتها وماليتها، التي يعتمد جزء منها على القروض الممنوحة من قبل المؤسسات الدولية المقرضة.
هذا الضغط الاحتجاجي بدأ يؤتي أكله أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، فاستدعت الوزارة النقابات الأكثر تمثيلاً[1] للحوار، دون أن يتم استدعاء الممثلين الفعليين[2] لحراكهم الفئوي، وهم: التنسيق الوطني لقطاع التعليم[3]، والتنسيقية الموحدة للأساتذة، وأطر الدعم التربوي، والتنسيقية الوطنية لأساتذة التعليم الثانوي التأهيلي. الوزارة إذاً تجاهلت مطالب الأساتذة لنحو شهر من أجل أن تقدم لهم عرضاً لم يكن مُرْضياً لهم بشكل كامل، إذ يقترح التعليق المؤقت لمسطرة الاقتطاع المالي من أجور المضربين، وإلغاء العقوبات المنصوص عليها في هذا النظام وتعويضها بالعقوبات السابقة، ثم مناقشة مسألة "تحسين دخل المدرّسين" والزيادة في أجورهم. والأغرب هو قرار "تجميد" العمل بهذا النظام، غير المقبول من مجتمع المدرسين، إذ يطالبون منذ البداية بسحبه.
"التجميد" أثار سخريتهم وكذلك سخرية أولياء الأمور، إذ أبدوا تضامنهم غير المسبوق معهم، ورأوا بأن مصطلح "تجميد" ليس قانونياً، ولا يصلح سوى للمواد الغذائية التي يتم تبريدها في الثلاجة ثم تناولها وقت الحاجة. وهو الأمر الذي ينطبق على هذا القانون "المجمّد" الذي سيتم اللجوء إليه في الظرف الذي يناسب سياسة الوزارة.
في المقابل، أظهرت الوزارة ما وصفته بـ "حسن النية"، من خلال إصدارها لمحضر مكتوب وموقع من قبل أطراف الحوار، متمثلة في النقابات الأكثر تمثيلاً ووزير التربية ووزير الميزانية ووزير التشغيل بصفته مفاوضاً اقترحه رئيس الحكومة ليمتص الاحتقان، على أن تتم مناقشة بقية المطالب الفئوية والتقنية خلال الأسبوع الأول من كانون الأول / ديسمبر الحالي. بيد أن هذه "النية" التي استحضرها رئيس الحكومة قولاً لم يتم تنفيذها فعلاً، والشاهد على ذلك: الاقتطاعات المهولة[4] التي مست جل المضربين على الرغم من أنه وعد بعدم حصول ذلك. هنا يطرح سؤال: كيف إذاً سيثق المعنيون بالأمر في وعود الساسة في وقت يعيش فيه التلميذ الزمن المدرسي المهدور؟
"لا نريد تجميد أبنائنا": صرخة أولياء أمور التلاميذ
"تعبنا من هذا التماطل، الملف لا يحتاج كل هذا التسويف"
"لا نريد تجميد أبنائنا"
تكررت مثل هذه الشعارات على ألسنة الأساتذة ومعظم أولياء أمور التلاميذ، الذين سئموا من هذه الحال المتأزمة، فالتلاميذ يُهدر زمنهم المدرسي ومصيرهم بات مجهولاً وغامضاً بعد كل هذا التأخير، ويحمّلون بدورهم مسؤولية هذه الأزمة الوزارة والحكومة معاً بسبب عدم استجابتها للمطالب.
شملت التحركات أمهات وآباء التلاميذ، فخرجوا إلى الشوارع بشكل شبه منتظم أمام مديريات التعليم والمؤسسات التعليمية برفقة أبنائهم، وكان شعورهم بالغبن يتزايد أمام مشهد انتظام تلاميذ التعليم الخصوصي واستفادتهم اليومية من حقهم في التمدرس، لأن هذا الإضراب لا يخوضه سوى مدرسي القطاع العام، علماً بأن أساتذة المدارس الخصوصية ليسوا أفضل حالاً[5] من زملائهم العاملين في القطاع العام.
أمام هذا الواقع، نقلت عدد من الأسر أبناءها الى المدارس الخصوصية، التي تسجل إقبالاً متزايداً عاما بعد عام، فخلال الموسم الدراسي الماضي، انتقل أكثر من 61 ألف تلميذ من المدراس العمومية (الحكومية) إلى المدارس الخصوصية، بزيادة تقدر بنحو 18 في المئة، مقارنة بالموسم الدراسي الأسبق.
فهل هناك حل كامل وجذري لهذه المعضلة؟ يتساءل أولياء التلاميذ.
طبعاً، هناك نصف حل: دعم سريع للتلاميذ خلال العطلة المدرسية!!
لجأت الوزارة إلى اعتماد حل ترقيعي يكمن في دعم تعليمي خلال العطلة المدرسية الممتدة من 4 كانون الأول/ لأسبوع في المدارس العمومية، كخطوة لـ "إنقاذ" الزمن المدرسي المهدور. لكن ما حصل هو أن أطوار هذه العملية شبه التعليمية شابها كثير من الأخطاء والارتجال والمشاكل، إذ تم اعتماد خريجي التعليم الجامعي والأساتذة المتدربين، فمعظمهم واجه مشاكل تربوية وتدريسية في التعامل مع التلاميذ، لصعوبة قيام خريج جامعي أو حتى مدرس متدرب مبتدئ بمهمة كهذه، وهو لم يتلقَ تكويناً نظرياً وتطبيقياً كافيين في هذا المجال. وحتى إن حصل ذلك فسيكون سريعاً في ظرف يوم واحد دون التقيد بالمراحل المنهجية المعمول بها في مراكز تكوين الأساتذة. ثم أيضاً، يُطرح سؤال جوهري من قبل التربويين والأساتذة: "كيف يتم دعم تلاميذ لم يدرسوا سوى القليل؟ الدعم يأتي كمرحلة تالية بعد اكتساب الدروس وتقييمها وليس قبلها. هذا عبث!".
أمام هذا الواقع، نقلت عدد من الأسر أبناءها الى المدارس الخصوصية، التي تسجل إقبالاً متزايداً عاماً بعد عام، فخلال الموسم الدراسي الماضي، انتقل أكثر من 61 ألف تلميذ من المدراس العمومية (الحكومية) إلى المدارس الخصوصية، بزيادة تقدر بنحو 18 في المئة، مقارنة بالموسم الدراسي الأسبق.
بدورهم، شاطر قطاع مهم من أولياء أمور التلاميذ رأي الأساتذة، ودعوا إلى مقاطعة هذا الدعم، بعد أن تم تسريب صور على السوشال ميديا، تظهر مشاكل صارخة لمدرّسي هذا الدعم، تكمن في ضعف مَلَكاتهم اللغوية والنحوية في اللغتين الفرنسية والعربية، إضافة إلى ارتجالهم في التعامل مع المحتوى التعليمي والمعرفي للدروس. هذا الوضع الترقيعي زاد من احتقان الأساتذة الذين يشعرون بالغبن تجاه قانون "لا ينصفهم".
9 مليار درهم لتمويل النظام، مقابل 0 درهم للأستاذ!
تدافع وزارة التربية عن النظام الأساسي الجديد، كونه قانوناً "يحافظ على المكتسبات السابقة" لموظفيها، ويلبي مطلب توحيد المسارات المهنية لكل فئاتها، كما أنه يتضمن تحفيزات كثيرة تشمل في الأساس رؤساء الأساتذة وأطر الدعم التربوي من قبيل مدراء المدارس، والمفتشين التربويين، ورؤساء المصالح، والمديريات، والأكاديميات[6]. أما بخصوص الأساتذة فلهم تحفيزات ذات طابع مهني وإداري مثل الترقي في الدرجة الممتازة، كما أنها تَعد بإدماج الأساتذة المتعاقدين في أفق ترقيتهم في الرتب والسلالم المعمول بها لدى بقية الفئات.
المغرب في مملكة الريع
11-07-2019
التّعليم في المغرب أو الجدارُ الآيل أبداً للسقوط
06-03-2017
تبلغ كلفة تنزيل هذا النظام الجديد نحو 9 مليار درهم (حوالي 900 مليون دولار)، أي بمعدل سنوي يقدر بحوالي 2,5 مليار درهم (حوالي 250 مليون دولار)، لن يستفيد منه الأساتذة بأي قرش، في وقت يفرض عليهم هذا القانون المزيد من الأعباء والمهام الإضافية خارج نطاق التدريس، مثل الإشراف على الأندية التربوية وتنظيم الأنشطة الثقافية والرياضية، ومشاركة الفريق الإداري في بعض المهام الإدارية وشبه الإدارية.
وصفة المؤسسات المُقرِضة الدولية
يوصف هذا النظام بـ"المجحف"، وأنه أسوأ بكثير من النظام الأساسي السابق الصادر خلال عام 2003. تشي سطوره الأولى بأن الوزارة لا نية لها لتوحيد أساتذتها، إذ ما زالت تميّز بين الأساتذة المرسَّمين وأساتذة أطر الأكاديميات، أي المتعاقدين، دون إدماجهم أسوة بزملائهم المثبتين في الوظيفة العمومية.
ويبدو أن نظام الوزارة الجديد يسعى بشكل تدريجي إلى توحيد الأساتذة ضمن نسق مهني موحد، أي أن يكونوا تحت مسمى "أطر الأكاديميات"، تابعين إدارياً للمؤسسات التي تدير هذا القطاع على المستوى الجهوي، بغية تطبيق مشروع "الجهوية المتقدمة"[7]، والقطع التدريجي مع المركزية المنهكة للهيكلة البيروقراطية للقطاع. طيب، يبدو هذا جيداً، أليس كذلك؟؟
لجأت الوزارة إلى اعتماد حل ترقيعي من خلال دعم تعليمي خلال العطلة المدرسية الممتدة في المدارس العمومية من 4 كانون الأول/ديسمبر ولمدة أسبوع، كخطوة لـ "إنقاذ" الزمن المدرسي المهدور، لكن ما حصل هو أن أطوار هذه العملية شبه التعليمية شابها كثير من الأخطاء والارتجال والمشاكل.
في الحقيقة هو جيد للوزارة، ولكنه ليس في صالح الأساتذة، فالمسعى الخفي للوزارة هو أن تقلل من الكتلة الأجرية لموظفيها بشكل تدريجي، خاصة المدرسين، إذ يشكلون الفئة الأكثر حضوراً في الوظيفة العمومية بتعداد يزيد عن ربع مليون أستاذ وأستاذة[8]. هذا الرقم الضخم تراه الحكومة "عبئاً" على خزينتها وماليتها التي يعتمد جزء منها على القروض الممنوحة من قبل المؤسسات الدولية المقرضة[9]. فما هي الوصفة المقدمة من قبلهم إذاً؟ بكل بساطة، إدراج الأساتذة المتعاقدين (المقدر تعدادهم بنحو نصف عدد المدرسين) في ميزانية "المعدات" للأكاديميات الجهوية، وسحبهم من ميزانية "نفقات الموظفين" "المُكْلِفَة" للدولة. وهكذا ستقلل على الحكومة النفقات المُعْتَمَدة في مناصب مالية يتم التأشير والمصادقة عليها سنوياً. سيزداد إذاً تعداد هذه الفئة خلال المواسم المقبلة مقابل تقلص عدد المدرّسين المُرسّمين، بسبب الإحالة على التقاعد الذي سجل أرقاماً قياسية خلال السنوات الأخيرة[10].
مطالب الاساتذة
1-سحب النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية.
2-الزيادة في أجور الأساتذة.
3- إسقاط التعاقد بمختلف مسمياته وتمظهراته.
4- تنفيذ اتفاقات الحكومة والوزارة مع الحركة النقابية: 19 نيسان/أبريل 2011، 26نيسان/ أبريل 2011 و18 كانون الثاني /يناير 2022.
5- التخفيض الضريبي عن الأجور والتعويضات وإلغاء الاقتطاع الضريبي عن المعاشات.
6- إلغاء الساعات التضامنية.
7- توقيف جميع الاقتطاعات غير القانونية من رواتب المُضرِبين وإرجاع جميع المبالغ المقتطعة من رواتبهم.
8- دمقرطة مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية بالتربية والتكوين والتعاضدية العامة للتربية الوطنية.
9- إنصاف الأساتذة الحاصلين على شهادتي الإجازة (الليسانس) والماستر الذين خاضوا احتجاجات الترقية بالشهادة خلال عام 2013.
10- المعالجة الفورية لكل الملفات الفئوية العالقة على قاعدة مطالبها.
11- إسقاط جميع الأحكام والعقوبات "التأديبية" الصادرة ضد الأساتذة، وإلغاء جميع المتابعات ضدهم.
12- اعتذار الحكومة لنساء ورجال التعليم.
1- النقابة الوطنية للتعليم التابعة للفيدرالية الديمقراطية للشغل، الجامعة الوطنية للتعليم، والنقابة الوطنية للتعليم التابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والجامعة الحرة للتعليم. ↑
2- لا يثق جل أساتذة التعليم العمومي في النقابات التعليمية، لأنها بحسبهم "تواطأت" مع الوزارة والحكومة في عدم الوفاء بمطالبهم على نحو كامل ↑
3- يضم هذا الكيان 22 تنسيقية تشمل فئات عديدة لأساتذة وموظفي قطاع التعليم العمومي. ↑
4- بلغت في المتوسط ما بين 500 إلى 1500 درهم (ما بين 50 و150 دولارا) ↑
5- معظم مدرّسي التعليم الخصوصي يتقاضون أجراً يعادل الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص (حوالي 3120 درهماً/ 310 دولاراً) أو أقل منه. ↑
6- مؤسسة حكومية تقوم بتمثيل مهام وزارة التربية وتسيير شؤونها على المستوى الجهوي ↑
7- مشروع تسعى السلطة من خلاله الى القطع بشكل تدريجي مع آليات التسيير المركزي لشؤون البلد. ↑
8- بلغ العدد الإجمالي لهيئة التدريس 015 269 أستاذاً خلال الموسم الدراسي 2022/2023 ↑
9- حصل المغرب على قرض لتمويل التعليم بقيمة 250 مليون دولار خلال شهر آذار/ آذار 2023. ↑
10- سيبلغ عدد الموظفين الذين سيحالون إلى التقاعد 33.017 موظفاً خلال السنوات الخمس القادمة ↑