مهنة التدريس في المغرب: المعايير تَضِيق بخريجي الجامعات

المعايير الجديدة لانتقاء مدرسي التعليم الرسمي في المغرب تعزز بطالة حمَلة الشهادات الجامعية، المرتفعة أصلاً، وتقصي عدد كبير منهم من إمكانية دخول مباراة التعيين. فهل محركها الارتقاء بمستوى التدريس فحسب، أم تتدخل فيها اعتبارات متنوعة اخرى لا علاقة لها بهذا الجانب، وربما المحاباة لاصحاب المدارس الخاصة...
2021-12-20

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك

بشكل هادئ، وبنبرة صوت مريحة، يسرد وزير التربية المغربي لوسائل الإعلام المحلية مسوغات إقرار معايير الانتقاء الجديدة لولوج مهنة التدريس العمومي (الحكومي)، ويحاجج بأن ما قام به يندرج في ما يسميه بـ"تجويد التعليم". لكن كلامه الهادئ يقابله تصاعد حنق السواد الأعظم من خريجي الجامعات، يعبّرون عنه في الشوارع والساحات، رافضين قرارته التي ستُقْصِي الكثير منهم عن ولوج مهنة تظل ملاذهم المضمون من براثن البطالة.

معايير "إقصائية"؟

فجأةً، وبدون أي نقاش مسبق، أُفْرِجَ خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عن تلك المعايير. وهي تشترط أن يكون مترشحو المباريات (المسابقات) على مستويات تعليمية وجامعية من درجة "مستحسَن" (بدءاً من معدل/ علامة 12.5 على20)، وأن يرسل واحدهم رسالة تحفيزية تبين مدى جاهزيته واستعداده نفسياً ومهنياً وتربوياً لمزاولة المهنة، إضافةً إلى عدم وجود عقد عمل له مع مؤسسة للتعليم الخصوصي، أو تقديم الاستقالة للمدرسين المترشحين العاملين في التعليم الخصوصي. ويضاف إلى هذه الشروط ألا يتجاوز سن المرشح الثلاثين.

السن كان أكثر المعايير إثارةً للجدل والغضب لدى خريجي الجامعات، إذ اعتبروه مخالفاً للدستور والقانون المؤطر لمهنة التدريس الذي ينص على أن سن التوظيف يصل إلى 40 سنة. ترى هذه الأصوات المعارضة شرط السن بأنه "إقصائي" لنسبة لا يستهان بها من خريجي الجامعات الذين تجاوزوا الثلاثين. كما أن تحديد سقف للسن ليس معياراً يعبر عن كفاءة المرشح وتَمكّنه من متطلبات المهنة، بدليل أن الكثير من المدرِّسين الذين يفوق سنهم الثلاثين، ممن بدأوا التدريس في المدارس العمومية، أثبتوا مهاراتهم العالية في التعامل مع الوضعيات البيداغوجية والتدريسية بفضل النضج والخبرة المعرفية والمهنية التي راكموها في التدريس بمؤسسات التعليم الخصوصي.

لدى الحكومة حاجة لملء صندوق التقاعد الذي سجل خلال السنوات الأخيرة عجزاً نسبياً في مدخراته المالية، فمن سيملأه إذاً؟ المدرّس الحكومي الذي تم توظيفه في ريعان شبابه، إلى أن يصل سن التقاعد الذي تم رفعه إلى 63 سنة. هذا مكسب مالي مدخراتي للحكومة.

أما خفض السن الى سقف ال30 عاماً فلعله يعود الى أن الفئة المؤججة والمحركة للحراك التعليمي للأساتذة المتعاقدين تتراوح أعمارها ما بين الثلاثينات والخمسينات، ولعل توظيف من هم أصغر سناً وخبرةً في الانتفاضات الماضية يمكن أن يساهم في التخفيف من شرارة هذه الاحتجاجات. 

أما شرط عدم وجود عقد عمل مع مؤسسة للتعليم الخصوصي، في وقت يلجأ فيه قطاع مهم من خريجي الجامعات إلى العمل في هذه المدارس كنشاط مهني ترميقي مؤقت إلى حين حلول موعد المباراة، فتعتبره أصوات معارضة يخدم "لوبي" التعليم الخصوصي وأصحاب هذه المدارس، إذ يفرض على مدرسي هذا القطاع إما البقاء فيها من دون خيارات أخرى، أو المغامرة بتقديم استقالتهم منها بغية التقدم لوظيفة التدريس العمومي قبل حصولهم على القبول.

تبدو معايير الوزير التكنوقراطي الجديد، الآتي من قطاعات ذات طابع تقني (التجهيز والنقل ) وأخرى ذات مسحة أمنية (وزير الداخلية سابقاً) أكثر تشدداً بنظر خريجي الجامعات المهددين كعادتهم بالبطالة. والواقع يقول بأن وضعهم ازداد سوءاً، خاصةً بعد أزمة كورونا وتبعاتها الاقتصادية، فوصلت نسبة بطالتهم إلى 20.4 في المئة خلال هذا العام (حسب إحصاءات رسمية). غير أن وزارة التربية لا تعتبر نفسها إسفنجة لامتصاص بطالة هذه الفئة، وأن هذا المعطى ليس حجةً لإلغاء هذه المعايير الجديدة بشكل كامل.

"ليست مهنة من لا مهنة له"

التدريس "ليست مهنة من لا مهنة له، ويجب القطع مع ما مضى" يرد محمد بنزرهوني مدير الموارد البشرية بوزارة التربية المغربية على الآراء المعارضة لمعايير الانتقاء، ثم يبرر كلامه بأن "هذه الإجراءات ستنتقي الأكفّاء ليدرسوا أبناءنا، وستنتقي من لديهم رغبة حقيقية في ممارسة مهنة التعليم، وستعطيهم الوقت الكافي لاكتساب الخبرة الضرورية، وستجعل التعليم مهنة جذابة".

شرط عدم وجود عقد عمل مع مؤسسة للتعليم الخصوصي، فيخدم "لوبي" التعليم الخصوصي، إذ يفرض على مدرسي هذا القطاع إما البقاء فيها من دون خيارات أخرى، أو المغامرة بتقديم استقالتهم منها بغية التقدم لوظيفة التدريس العمومي قبل حصولهم على القبول. 

لمسؤولي الوزارة مسوغاتهم في إقرار هذه المعايير الجديدة للتدريس العمومي، التي يرون أنها ستمنح على أساس الكفاءة ولن تكون "لكل من هب و دب"، ويؤكدون بأن وضع سقف للسن في حدود الثلاثين معمول به في دول كثيرة حول العالم، إذ – بحسبهم - ستستفيد المنظومة التربوية من عطاء وأداء مدرس عشريني شاب تخرج لتوه من الجامعة، وحسم منذ البداية توجهه دون مواربة نحو التدريس كاختيار أول نابع عن قناعة ورغبة أصيلة. كما أن "الأساتذة في حاجة لمدة زمنية كافية لتطوير خبراتهم داخل المنظومة، أما "المدرس الذي يتجاوز سنه 45 سنة" فترى الوزارة بأنه "لن تستفيد منه منظومة التربية حتى ولو تمّ تكوينه، ولن يستفيد هو أيضاً في حياته الاجتماعية لأن المعاش سيكون محدوداً جداً".

وتمضي وزارة التربية في جعل شروط الولوج لمهنة التدريس أكثر تطلباً قياساً بالعقود الماضية، إذ سيتم خلال السنوات المقبلة حصر هذه الوظيفة بحاملي شهادة الإجازة الجامعية في التربية (ما يعادل بكالوريوس في التربية) فقط، فلهم الحق في اجتياز سنة دراسية من التكوين النظري المقدم من طرف المراكز الجهوية للتربية، ثم ينهون مسارهم بتكوين عملي وتدريبي لسنة دراسية إضافية في المدارس ليتم لاحقاً تثبيتهم كأساتذة تابعين للأكاديميات الجهوية (وهي المؤسسات التي تقوم بتسيير شؤون التعليم جهوياً). بيد أن هذا المسار الجديد سيساهم في تأزيم وضعية الكثير من خريجي الجامعات الحاملين للشهادات العليا في التخصصات الأدبية والعلمية، إذ لا يستوعبهم سوق الشغل بشكل مباشر، وكان ملجأهم الوحيد هو التدريس الحكومي، وخصوصاً منهم أبناء الطبقات محدودة ومتوسطة الدخل.

ما وراء هذا القرار...

تحيط بالمعايير والشروط الجديدة لولوج مهنة التدريس في المغرب الكثير من التفسيرات وافتراضات تخص الغايات الحقيقية وراءها.

على سبيل المثال، يحضر تفسير بأن شرط عدم التزام المرشحين بعقد عمل مع مؤسسة للتعليم الخصوصي، أو تقديم استقالتهم منها جاء بفعل ضغط أصحاب المدارس الخاصة، الساعين إلى الاحتفاظ بأطرها التربوية التي تتعرض للترحال سنوياً نحو التعليم العمومي بعد نجاحها في مباريات هذا القطاع المغري لكثير منها، لما يوفر من أمان وظيفي، ويضمن حقوقاً اجتماعية ومهنية أفضل من قطاع التعليم الخاص. لكن وزير التربية يبرر بأن هذا الشرط "ليس إقصائياً"، إذ "وضع من باب الإخبار، لأن مدونة الشغل تشترط تقديم الأجير استقالته قبل مغادرة منصبه، وفي حالة علم المشغل الجديد بذلك يكون شريكاً في التعويض عن الضرر".

كل هذه التدابير لا تتصدى الى الحاجة لحلول جذرية وواقعية للكثير من الملفات الفئوية والمهنية والتربوية، من قبيل: ملف الأساتذة المتعاقدين، مشاكل أساتذة التعليم الابتدائي وظروف عملهم الصعبة، الأساتذة المكلفون بالتدريس خارج تخصصاتهم، الاكتظاظ في الأقسام، مشكلة فرنسة العلوم في التعليمين الإعدادي والثانوي...

من ناحية أخرى، يوجد تفسير شائع (ومقنع لكثير من المتابعين)، يخص معيار وضع سقف لسن التوظيف في التدريس ودواعيه، إذ جاء بناءً على حاجة الحكومة لملء صندوق التقاعد الذي سجل خلال السنوات الأخيرة عجزاً نسبياً في مدخراته المالية، فمن سيملأه إذاً؟ المدرس الحكومي الذي تم توظيفه في ريعان شبابه، إلى أن يصل سن التقاعد الذي تم رفعه إلى 63 سنة. هذا مكسب مالي مدخراتي للحكومة. وكل هذا سيتم في ظل إرهاصات مستقبلية تشير بأن البلد يشهد تحولاً في هرمه الديموغرافي الذي تتسع فيه رقعة كبار السن على حساب الشباب.

ليس هذا فحسب، بل هناك آراء تشير إلى تفسيرات سياسية مدعومة بحجج سوسيولوجية، ترى بأن الفئة المؤججة والمحركة للحراك التعليمي للأساتذة المتعاقدين تتراوح أعمارها ما بين الثلاثينات والخمسينات، ولعل توظيف من هم أصغر سناً وخبرةً في الانتفاضات الماضية يمكن أن يساهم في التخفيف من شرارة هذه الاحتجاجات. إلا أن الاحتقان سيظل حاضراً في قطاع التعليم، وسيتصاعد أكثر إذا لم يتوصل القائمون عليه إلى حلول جذرية وواقعية للكثير من الملفات الفئوية والمهنية والتربوية، من قبيل: ملف الأساتذة المتعاقدين، مشاكل أساتذة التعليم الابتدائي وظروف عملهم الصعبة، الأساتذة المكلفون بالتدريس خارج تخصصاتهم، الاكتظاظ في الأقسام، مشكلة فرنسة العلوم في التعليمين الإعدادي والثانوي... وسواها كثير مما لا يزال عالقاً...  

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه