معمار قلب الدار البيضاء

يتحدث المعمار بوضوح عن التراتب الاجتماعي. يدل حجم نوافذ العمارة على ساكنيها. على جدران عمارات الفقراء ثقوب تسمى نوافذ وشرفات ضيقة فيها الكثير من الأشياء المهملة
2016-12-21

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
الترامواي في الدار البيضاء

مبنى مقرّ البريد في قلب الدار البيضاء غاية في العظمة، نوافذ كبيرة جدّاً وسقف بارتفاع ستة أمتار تحمله أعمدة تستلهم الأكروبول الأثيني. على السقف جبس، وعلى الأرضية رخام أبيض موشّح بنقط بنية، وعلى الجانب أكشاك رخامية وأبواب من الخشب المنقوش.. مَن يريد الكلام في الهاتف ينتظر دوره ويدخل الكشك ويغلق عليه الباب ويتحدّث قليلاً ويدفع كثيراً. من فرط أهمية البناية خلّدتها الدولة في طابع بريدي.
يدلّ موقع المبنى وفخامته على عظمة التواصل في حياة البشر. الآن صار التواصل في الهاتف يجري في فضاءات عامة بصوت مرتفع وبثرثرة لا نهائية وبكلفة قليلة. فقد المبنى وظيفته، وبقي الرخام شاهداً على مجده. لم يعد الكتّاب يتبادلون الرسائل التي ستنشر بعد وفاتهم لكشف حياتهم الحميمة. يكشف فايسبوك الحميمية فوراً.

الهاتف النقال أطاح بالعظمة

في هذه البناية العملاقة موظفة وحيدة وبعض الزبائن الذين يودّون إرسال علب على وجه السّرعة. تساقطت قطع الرخام من قواعد الأعمدة. يعكس الصمت والرتابة تدهور دور المبنى في حياة الناس. لقد انتقلت عظمة مبنى البريد إلى الهاتف المحمول. صار جهاز صغير بحجم الكف يقوم بكل وظائف المبنى الرخامي، يرسل ويتكلّم ويصور وفيه ساعة، لذا أفلس المصوّرون والساعاتيون وصارت الساعات أشبه بسوار ذهبي للتجميل فقط دون وظيفة فعلية. ينطبق هذا الوضع على الكثير من البنايات التي بنيت في عهد الاستعمار مثل مقر بنك المغرب. صارت البطاقة البنكية أهم من بناية البنك التي لا يزورها أحدٌ إلّا نادراً.
في محيط قلب المدينة عمارات قديمة مزيّنة، فيها لمسة هندسية متميّزة، وبجانبها عمارات جديدة زجاجية أو إسمنتية مسطحة بلا ملامح هندسية..
ساحة الحمام (محمد الخامس)، حيث تجري بين حين وآخر احتجاجات نخبوية بالشموع في الساعة السادسة مساء، احتجاجات يقودها مناضلون موسميون يتصرّفون برد الفعل، ينتظرون حدوث مشكل في مكان ما للقيام بوقفة تضامنية مدّتها ثلاثون دقيقة تلتقط لها 3000 صورة.

 

في كازابلانكا، كثير من العمارات القديمة الصامدة مهدد بالهدم ليكتمل صف العمارات الزجاجية التي لا تحمل واجهاتها أية بصمة هندسية

 

حول الساحة محكمة وبنك ومبانٍ عملاقة. تبعث المباني الكبيرة النخوة الوطنية في نفوس أفراد الشعب، نصح ميكيافليي الأمير بالبناء الكبير، تُمكِّننا الآثار (حسب ريمون آرون) من إعادة بناء ما عاشه الذين سبقونا. ماذا تقول الجدران؟ تقول عاشوا المجد.
تعكس المباني الكبيرة طموح أصحابها، تعكس العظمة والجمال. أعظم دعاية للفراعنة هي الأهرام. في الأفلام تتحصّن قوى الشر في مبانٍ عظيمة. توفر المباني الكبرى فرجة حقيقية، ويريد السياح مباني كبيرة ليلتقطوا صوراً تحتها، هناك سياح يتأثرون بالتصميم الذي يحيل المبنى إلى أيقونة أو منحوتة مدهشة، وهناك من ينفر من البنية التي لا تشبه ما حولها، وهي تعكس نرجسية مصممها أكثر مما تؤدي وظيفة.
يعكس المعمار - وخاصة قلب كازابلانكا التي بُنيت في عهد الاستعمار - تاريخ المدينة: عمارات من بضعة طوابق مزيّنة الشرفات ولها سلالم واسعة. هذا المعمار هو الذي أعطى للمدينة شهرتها حتى خصصت لها هوليوود فيلم ""كازابلانكا". على الرغم من شهرة المدينة والفيلم، فهو لم يُصوَّر فيها وكانت كازابلانكا مجرد ديكور افتراضي لصراعات الغرب.
بعد ستين سنة من الاستقلال، ما زالت أطلال المعمار الاستعماري صامدة، كما عدد من القواعد السياسية التي طبقها الحاكم الفرنسي، الجنرال "ليوتي" (Lyautey) لإخضاع البلد. لكن كثيراً من العمارات القديمة الصامدة مهدّد بالهدم ليكتمل صف العمارات الزجاجية التي لا تحمل واجهاتها أيّة بصمة هندسية.    
في الدروب الخلفية للعمارات أبواب غامضة، هنا حانات مظلمة هي بديل عملي للحزب والنقابة والنادي الثقافي. مع الكؤوس تتفتح العواطف ويُستنزَف الغضب، وبعدها تنتشر رائحة البول بكثافة في قلب المدينة، بسبب غياب المرافق، فلا مراحيض عمومية. والرائحة تحيط بمقار إدارية. يروي زبائن المقاهي أن سبب عدم فوز المغرب بتنظيم كأس العالم 2010 هو أن امرأة أميركية عضو في لجنة الفيفا لم تجد مكاناً تبول فيه في المدن المغربية المرشّحة لاستضافة مباريات المونديال!
توجد أفضل المراحيض في المساجد، مثل مسجد الحسن الثاني الضخم الذي بُني في 1986، وتبني الجزائر نداً له منذ سنوات من دون أن ينتهي. لا يواجه بناء المساجد ومراحيضه الرخامية الواسعة أية مشاكل مالية. على بعد مئة متر من كل مسجد هناك جدار كتب عليه "مسجد للصلاة". سيشعر القارئ بالدهشة من هذا التوضيح لوظيفة المسجد. المهم هو المسكوت عنه. هذا المسجد ليس لخطبة الجمعة والوعظ. من أراد الاستماع للخطابة والوعظ ليقصد مسجداً آخر. على عمود كهربائي إعلان عن روض "أبو مصعب للناشئة".. شعرتُ بالخوف.
تتطلّب ملاحظة هذه الظواهر السير على الأقدام لمسافات طويلة في أمكنة غير مبهجة، بينما الممتع في المدينة هو رحلة بالسيارة على كورنيش يمتد عشرة كيلومترات، وهو فضاء جذاب وبسببه فقد قلب المدينة أهميته وبهجته.

 

كلما ابتعد الترامواي عن وسط المدينة باتجاه الشمال، قلّت جودة أحذية الركاب الجدد. الواجهات العمرانية أفضل من الخلفيات، حيث مباني متسخة وبعضها آيل للسقوط

 

الدار البيضاء هي العاصمة الاقتصادية للمغرب، وهي وجهه العصري. والمعلم الرئيسي الظاهر في المدينة هو ذاك المسجد الذي بناه الحسن الثاني لإظهار تديّنه. أما المعلم الحقيقي فهو الميناء، لأنه روح الاقتصاد. من بعيد تظهر أذرع تفريغ السفن، وعلى باب الميناء آلاف الشاحنات تنتظر. من هنا ينبع ثراء تجار المدينة...
وبسبب ثراء المنطقة فهي تعرّضت لهجومات مبكرة. فقد استولى عليها البرتغاليون في 1468، وحصَّنها السلطان في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت أول ما احتله الفرنسيون سنة 1907. وما زال حول المدينة القديمة سور ومدافع. السور أداة حربية متجاوَزة. كان لجدران المدن دور سياسي وعسكري قبل بارود المدافع الذي جعل الحصون بلا معنى، لذا ظهرت المدن التي تفتح قلبها للبحر بدلاً من أن تدير ظهرها له. تمنع الأسوار المدن القديمة من التمدّد، لذلك تمردت المدينة الجديدة على السور. في المدينة القديمة أزقة دوغمائية بلا مخرج، وفي المدينة الحديثة شوارع حوارية يؤدي بعضها إلى بعض.
عرفت الدار البيضاء أهم الإضرابات في تاريخ المغرب، وخاصة إضراب 1965 بسبب التعليم و1984 بسبب سياسة التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي. انعكس درس الإضرابات عمرانياً على الأحياء التي صمّمت بعد 1984، والتي تلّت تفكيك المدينة إدارياً إلى مقاطعات عدة، مع الحرص على تصميم شوارع عريضة وخلق فواصل كبيرة بين الأحياء.. فضاءات قد تصبح حدائق أو مزابل بغرض تصعيب إقامة المتاريس على المتظاهرين، ولتسهيل سيطرة شرطة مكافحة الشغب على الإضرابات.
وبالخروج من قلب المدينة، يسمح التراموي برحلة ترسم بورتريه كازابلانكا، من القلب باتجاه الضاحيتين الشمالية والجنوبية. الرحلة ممتعة، الأمان في التراموي المكيّف والمضاء والذي يمرّ كل ثماني دقائق طيلة عشرين ساعة يومياً. يقطع عشرين كيلومتراً بأقلّ من دولار، من أقصى المدينة إلى أقصاها. يمر قرب نخلات بلاستيكية في الأحياء الفخمة ووسط المدينة، نخلات لشركات الاتصالات تكرّس اللاعدالة بين الأحياء: في الأحياء الفخمة صبيب أنترنيت وسرعة التواصل عالية بخلاف ما في الأحياء الشعبية. الذين يدفعون أقل يحصلون على الأقل. إنه عدل سوقي، فالشركات تعرف المشترين كزبائن لا كمواطنين. وهنا لا تتدخّل الدولة التي تعتبر الأفراد مواطنين متساوين نظرياً.
مظهر آخر: على الرغم من قلة عدد الأغنياء، فالاستثمار في مساكنهم أكثر ربحية. لذلك تجد الحكومة صعوبة في تشجيع المستثمرين على بناء عمارات للفقراء، وهم أكثرية. في ميدان العقار يوجد خلل في موازين القوى بين موظف الدولة الذي يقود سيارة صغيرة والمقاول العقاري الذي يقود سيارة جاغوار عملاقة.
يمضي التراموي بين عمارت الأغنياء. الجدران عالية ضخمة والمساحات حولها واسعة.. ومظهر ثالث للاعدالة هو كثرة الخضرة في حدائق الفيلات.
تشبه الشوارع وجوه ساكنيها، هنا لن ترى الحمير ولن تشم رائحة الحقل في ملابس رواد المقاهي. قريباً من البرجين التوأمين تنعدم مظاهر ترييف المدينة، هنا طبقة وسطى حقيقية ووضع النساء مريح، وهن تجلسن في المطاعم وتتصرّفن بثقة في فضاء يحميهن ويدللهن.
كلما ابتعد التراموي عن وسط المدينة باتجاه الشمال قلت جودة أحذية الركاب الجدد، الواجهات العمرانية أفضل من الخلفيات، حيث مبانٍ متّسخة وبعضها آيل للسقوط. على الخط مؤسسات تعليمية مثل ثانوية عقبة، إعدادية صلاح الدين الأيوبي، ثانوية العقاد.. لجلّ المؤسسات التعليمية القديمة أسماء غير مغربية. عدا بعض الشجر في المؤسسات التعليمية لصارت المدينة هنا قرعاء. فجأة تطالعك مبانٍ إدارية ذات تصميم غريب مقارنة بما حولها، مثل مقر مقاطعة الحي المحمدي التي تبدو كصرح روماني بنوافذ مقوسة، بينما تحيط به بنايات منخفضة قديمة وسخة.

 

يتحدث المعمار بوضوح عن التراتب الاجتماعي. يدل حجم نوافذ العمارة على ساكنيها. على جدران عمارات الفقراء ثقوب تسمى نوافذ وشرفات ضيقة فيها الكثير من الأشياء المهملة

 

يمضي التراموي باتجاه حي سيدي مومن، وقد انقرضت الخضرة تماماً. هناك حجر ولا شجر، يتحدث المعمار بوضوح عن التراتب الاجتماعي. يدل حجم نوافذ العمارة على ساكنيها. على جدران عمارات الفقراء ثقوب تسمّى نوافذ وشرفات ضيقة فيها الكثير من الأشياء المهملة مثل دراجة قديمة وفراش وغسيل. بين عدد من العمارات أراضٍ مهملة لن تصير حدائق رغم وعود المسؤولين بالتشجير. مزابل طارئة ستتم إبادتها لينشئ المواطن مزابل جديدة لكي لا يقطع مئة متر ليصل إلى حاوية الزبالة الرسمية. لا فسحة مبهجة لسكان المدن الذين تحاصرهم الجدران. هنا عمارات متصلة، وحين تظهر أشجار فهي غالباً حدائق المؤسسات التعليمية. وبسبب انتشار المدارس الخصوصية، أغلقت مدارس عمومية عدة وعُرضت للبيع، لكن يخشى سماسرة العقار الاستيلاء على أراضيها لأن الرأي العام سيشهِّر بهم.
في هذه الضاحية الشمالية محتوى ريفي يظهر في البشر واللغة ومصادر الرزق. هنا حي "سيدي مومن" الذي خرج منه الانتحاريون الذين فجّروا مواقع عدة بالدار البيضاء في أيار/ مايو 2003، وقررت الدولة تغيير الحي العشوائي للقضاء على جذور الإرهاب، فصار غابة عمارات قرعاء دون مناطق خضراء وبسمعة مرعبة.
هنا فضاء هجين يفتقد التناسق والاستمرارية، وهو يشبه ذاكرة عشوائية، فضاء يستقبل المهاجرين الجدد الذين جاؤوا للدار البيضاء بحثاً عن الرزق والأمل. يفتقد الواصلون الجدد اليقين الاجتماعي، بعد انقطاع حبل السرة مع منشئهم الريفي. يصير شعارهم وأيضاً النصيحة التي يقدّمونها بدورهم للواصلين الجدد هي"اشترِ تأكل، اكترِ تسكن". أي ليس لديك مَن تعتمد عليه.. يسمع الواصلون الجدد النصيحة باستغراب لأن مَن تعود على مجتمع متكافل في البادية يستغرب من قيم الفردانية المتوحّشة وسيحتاج زمناً ليهضمها.
في نهاية خط التراموي بحي سيدي مومن مسجد كبير يحيط به سوق.. لمن يملكون القليل من المال.

مقالات من الدار البيضاء

الحرّية للصحافيين والسّجن للصحافة

الصّحافيون الثلاثة الأشهر الذين أُفرج عنهم، أُدخلوا السّجن بتهم جنسية، لا بتهم متعلقة بحرّية الصّحافة أو الرأي، كما هو الواقع. وهي استراتيجية مباشِرة إلى درجة تثير السخرية، لكنها أيضاً لئيمة...

للكاتب نفسه