تحت عنوان "غزة أكبر معسكر اعتقال على وجه الأرض"*، أطلت الكاتبة الصحافية الروسية ناديجدا كيفوركوفا لتخاطب زميلاتها وزملاءها قبل الرأي العام، حول مسألة بالغة التعقيد في الصحافة اليوم تتعلق بقطاع غزة وناسه. ففي الصحافة العالمية لا مكان لغير السردية الإسرائيلية وكل من يتعارض معها "إرهابي". وفي هذه السردية المعمَّمة على أوسع نطاق في الصحافة العالمية، يحتكر الصهيوني دور الضحية. والأمر الأكثر خطورة أنها تحدد "لحظة بدء التاريخ"، ويبدأ هذه المرة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. قد لا يقتنع كثيرون، ممن لم يتبنوا السردية الإسرائيلية، بأن كل ما تقوم به اسرائيل اليوم من تطهير عرقي وجرائم الحرب في التدمير والقصف والتهجير، والتي تصل إلى الإبادة هو مجرد "رد فعل عنيف"، لكنهم بلعوا ألسنتهم في أماكن مختلفة من العالم، أو أنهم لا يبالون بكل ما يجري خارج حدود بلدانهم.
تقول ناديجدا كيفوركوفا: "أنا مراسلة لكنني لست هناك. تصلني صور وسائل الإعلام، وبيانات لا نهاية لها من الجانب الإسرائيلي والمسؤولين الغربيين. يعممونها على الجمهور وتبدو في غاية الوحشية. تزيد إسرائيل كل عام من جنون خطابها، ويكرر كثيرون وراءها كلماتها الرهيبة. لكن إذا ما صدرت تلك الكلمات عن جهة أخرى، على سبيل المثال، عن الغجر أو الياكوت أو الأوكران، فسيُجَرْجرون إلى لاهاي. أما اليوم فنتحدث عن استخدام إسرائيل الهائل للأسلحة الكيميائية في قطاع غزة، وعن وصم الفلسطينيين بأنهم "ليسوا بشراً"، ولتكتمل الصورة.. وراء الكواليس، لدى المسؤولين الأميركيين أدوات كافية لكبح نتنياهو وإسرائيل وجنرالاتها. والمسألة لا تتعلق فقط بالرهائن، الذين لا تستعجل إسرائيل البت بمصيرهم. فيما لا يمكن للولايات المتحدة الدفاع علناً عن التطهير العرقي الجاري في قطاع غزة، ولا عن اقتلاع نحو ميلوني شخص من أماكنهم وإبادتهم. ولكن من الممكن تماماً رسم صورة ميلودرامية للواقع، مفادها انتظار أن يتم كل ذلك". (صحيفة "بزنسغازيتا"، 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023).
لمْ تسكت: لماذا؟
ولدت ناديجدا في موسكو سنة 1958. تخرجت في كلية التاريخ جامعة موسكو الحكومية، ثم انتقلت إلى العمل في الصحافة الأرثوذكسية، قبل أن تعمل مراسلة صحيفة "نيزافسيسمايا" (المستقلة) حتى 2002، في الولايات المتحدة ولبنان وأفغانستان وباكستان وإيران والعراق وتركيا والسودان وسوريا وغزة وشمال القوقاز. ثم راسلت وسائل إعلام مختلفة، وأعدت سلسلة وثائقية بعنوان "جهاد الأدب الروسي" (استخدمت كلمة "جهاد" العربية في العنوان).
قد لا يقتنع كثيرون، ممن لم يتبنوا السردية الإسرائيلية، بأن كل ما تقوم به اسرائيل اليوم من تطهير عرقي وجرائم الحرب في التدمير والقصف والتهجير، والتي تصل إلى الإبادة هو مجرد "رد فعل عنيف"، لكنهم بلعوا ألسنتهم في أماكن مختلفة من العالم، أو أنهم لا يبالون بكل ما يجري خارج حدود بلدانهم.
"غزة أكبر معسكر اعتقال على وجه الأرض"، لكنها خارجه اليوم، ورغبت لو أنها هناك لتمارس مهنتها وتوصل الكلمة والصورة، لكنها في الوقت نفسه اليوم خارج معسكر اعتقال كبير رهيب آخر، هو معسكر غربي عالمي مخصص لقمع الكلمة والصورة، معظم زملائها وزملائنا رهائنه.
في جعبتها كتابان: "فلسطين المقاومة" (2013)، و"لو أنّي أنساكِ يا قدس" (2017)، إلى جانب عدد كبير من المقالات والتحقيقات المكتوبة، بعضها حمل عنواناً جامعاً هو "أن تكون فلسطينياً".
كانت قد وضعت مقدمة لتلك المجموعة من مقالاتها، تعبّر فيها عن رؤيتها. تقول:
"اليوم، لن تستطع مريم ويوسف أن يفرا إلى مصر. لن يتمكنا من العبور من الناصرة إلى بيت لحم. لن يريا القدس، وسيولد الطفل يسوع على واحد من مئات الحواجز العسكرية. فلسطين محتلة، وفيها جدران إسمنتية وحراس، والحال حال حرب وكل سنة تضيق الأمور أكثر، وتفد حشود السيّاح والحجاج ليزوروا الآثار الحجرية، ولا يلاحظون أن فلسطين هي بشر أولاً... العائلة المقدسة ستضاف إلى قوائم اللاجئين اليوم، سيعيش أفرادها مقابل دولار واحد في اليوم، وإذا ما كانوا محظوظين سيحصلون على حصة غذائية. يسوع الصغير سيذهب إلى المدرسة تحت مرأى القناص، وحين يبلغ الخامسة عشرة سيزج به في السجن الإسرائيلي كما هي حال معظم أولاد الفلسطينيين. في فلسطين اليوم، تعتبر قصة الإنجيل عن قتل الأطفال بناء على أمر هيرودس روتيناً يومياً، ومن النادر أن تصل إلى الأخبار العالمية. أكتب عن شعب الأراضي المقدسة من المسلمين والمسيحيين، الذين يعيشون في أكبر معسكر اعتقال في العالم، لكنهم لا يستجدون رحمة السجّانين والجلادين. لا يستسلم منهم المزارع والصياد والمعلم والتلميذ والطالب والأستاذ والتاجر والبناء والطبيب والمعتقل. هنا، تحت الحصار والاحتلال، يمكننا أن نفهم بوضوح ما الذي يواجهه الفلسطينيون، من المسيحيين والمسلمين، وعن هذا أكتب. يبدو أن وعينا معتاد على درجات مختلفة من المعاناة، لكن عندما نتحدث إلى الفلسطينيين وزوجاتهم وأطفالهم وشيوخهم، ندرك أن الحياة الإنسانية لا تمتلئ بالمعنى إلا عندما تكتسب سمات المقاومة. هنا، من بين الفلسطينيين، نفهم بوضوح لماذا تدعم مجموعة متنوعة من الناس في العالم المقاومة الفلسطينية.. هنا، الأعمال اليومية العادية، من الصيد إلى حفلات الزفاف، لا يقوم بها الفلسطينيون كأمور عادية، ولكنهم يحولونها إلى فعل مقاومة. أكتب لكل من يريد أن يفهم ممّ تتكون المقاومة الحقيقية، وليس تلك المتخيلة، ومن أين ينبعث نبضها".
الاعتقال والترحيل
تؤمن ناديجدا بأن "من يدافع عن الحرية لا بد أن ينتصر"، فعكست عبر تحقيقاتها الصحافية الكثيرة نبض الحياة اليومية في قطاع غزة المحاصر، والعاضد على جرحه بعد عدوان "الرصاص المسكوب"، قبل خمسة عشر عاماً. انطلقت من الأسرة والمرأة والتربية، إلى المدارس والتعليم، إلى التجارة والزراعة وتربية الماشية، إلى الإعمار وإعادة الإعمار بعد العدوان. زارت الكنائس والجوامع والأسواق والمقاهي، تحدثت إلى الصيادين والعمال والمزارعين والأطباء والمهندسين والفنانين، وركّزت على الأطفال الذين ولدوا مع بدء الحصار وبعده. أشبعت نصوصها بصور فوتوغرافية رصدت فيها لحظات الأمل والفرح في عيون هؤلاء الأطفال الذين لم يروا من الدنيا سوى الحصار وهمجية العدو. تحمل الصور رسالة مضمَرة عن حق هؤلاء الأطفال في حياة كالحياة. يمكن للقارئ أن يصل إلى هذه الرسالة بالتزامن مع قراءة النصوص، فكل ما في الأمر أن هؤلاء الأطفال هم ضحية عدو لا يرحم، مطلق اليد ولا يخضع لأي محاسبة.
"أنا مراسلة لكنني لست هناك. تصلني صور وسائل الإعلام، وبيانات لا نهاية لها من الجانب الإسرائيلي والمسؤولين الغربيين. يعممونها على الجمهور وتبدو في غاية الوحشية. تزيد إسرائيل كل عام من جنون خطابها، ويكرر كثيرون وراءها كلماتها الرهيبة. لكن إذا ما صَدرتْ تلك الكلمات عن جهة أخرى، على سبيل المثال عن الغجر أو الياكوت أو الأوكران، فسيُجَرْجرون إلى لاهاي.
"اليوم، لن تستطع مريم ويوسف أن يفرا إلى مصر. لن يتمكنا من العبور من الناصرة إلى بيت لحم. لن يريا القدس، وسيولد الطفل يسوع على واحد من مئات الحواجز العسكرية. فلسطين محتلة، وفيها جدران إسمنتية وحراس، والحال حال حرب وكل سنة تضيق الأمور أكثر، وتفد حشود السيّاح والحجاج ليزوروا الآثار الحجرية، ولا يلاحظون أن فلسطين هي بشر أولاً..."
وثّقت ناديجدا حكاية "أسطول الحرية" عبر تحقيقاتها ومقابلاتها، وكانت بين المشاركين في هذه الحركة التضامنية الأممية عامي 2008 و2015. في 30 حزيران/ يونيو 2015، انقطع الاتصال بها، بعدما اعتدت البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية على السفينة "ماريانا" التي حاولت تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، واحتجزتها وقادتها إلى ميناء أسدود. اقتيدت تحت الحراسة إلى مركز أمني قرب تل أبيب، حيث خضعت للتحقيق وطُلب منها توقيع وثيقة تقر فيها بأنها دخلت البلاد بطريقة غير شرعية، إلا أنها رفضت التوقيع لأنها لم تعبر الحدود، بل كانت في المياه الدولية، حيث ألقت وحدة من الجيش الإسرائيلي القبض عليها، واقتيدت عنوة إلى فلسطين المحتلة، وقد صودر هاتفها وحُرمت من الاتصال بأحد للتضييق عليها وإرغامها على الإقرار بذنب لم تقترفه. لم توقِّع، فأحيلت إلى جلسة استماع خاصة، وقررت المحكمة ترحيلها إلى بلادها خلال 72 ساعة، لكنها بقيت أسبوعاً رهن الاعتقال.
تذكر في مقابلتها الأخيرة: "آخر مرة زرت فلسطين كانت في شتاء عام 2015 في القدس. في صيف عام 2015، تم أسري أنا وفريق الجزيرة وصحافية سويدية بارزة وطاقم تلفزيوني من نيوزيلندا وفريق أسطول الحرية من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية. لقد كانت عملية اختطاف وقرصنة غريبة في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط. جاءت البحرية الإسرائيلية بأكملها لاختطافنا، بمؤازرة الغواصات والطائرات. آنذاك، عانى الغزاة من دوار البحر وسقطوا على سطح السفينة. منذ عام 2017، منع وصول الصحافيين الأجانب إلى قطاع غزة عبر معبر رفح. رغبتُ في الذهاب في ربيع عام 2018 وتصوير فيلم عن الحياة تحت الحصار، لكن السفارة المصرية أخبرتنا أنهم لن يسمحوا لنا بالمرور. ومُنِعت من دخول إسرائيل بعد عملية اختطافي. لقد كتبت كتابين، الأول عن غزة، والثاني عن الفلسطينيين في القدس، لكن الأخير أقل تفاؤلاً بكثير".
الصحافة اليوم
ترى ناديجدا أن الرحلة إلى الماضي تصرف الانتباه عن أن الإسرائيليين "اليوم، في نهاية 2023، وبدون أي وجل، يناقشون كيفية إبادة مليوني إنسان. يذهلني أن زملائي في العالم قد تركوا الصحافة ويقاتلون من أجل إسرائيل". تعتقد أنه "من السهل على الأشخاص الذين لم يسبق لهم رؤية الفلسطينيين أو التحدث إليهم أن يتكون لديهم انطباع زائف. ومعظم الإسرائيليين على هذا النحو تماماً، فليس لديهم أي وسيلة لتعلم أي شيء عن جيرانهم. في إسرائيل، يُمنع السفر إلى المناطق المحتلة. من الصعب تصديق ذلك، ولكن هناك منظمة خاصة تعمل على تفكيك الزيجات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. يحكم الإسرائيليون على الفلسطينيين من خلال سيناريو الفوضى السيء الذي صنعوه بأنفسهم، وهم أنفسهم يعتقدون أن كل شيء فعلاً كان وفق هذا السيناريو". وتحتل مسألة الإعلام حيزاً كبيراً من هذا السيناريو، حيث "تخضع لرقابة شديدة، فلا يمكن كتابة أي شيء عن أسلوب الحياة الفلسطيني، أو عما يحدث للفلسطينيين، وكيف يتم حرقهم أحياءً، وتدمير منازلهم، وحرق بساتينهم وقطع أشجار الزيتون. حتى أن كلمة "الفلسطينيون" ذاتها محظورة. رموزهم محظورة. تخضع الكتب المدرسية للرقابة. هناك سرية تامة في المحاكم. والمحامون مطالَبون بالتزام الصمت. إن أغلب الإسرائيليين ليس لديهم ببساطة وسيلة للتعرف على جيرانهم".
"آخر مرة زرت فلسطين كانت في شتاء عام 2015 في القدس. في صيف عام 2015، تم أسري أنا وفريق الجزيرة وصحافية سويدية بارزة وطاقم تلفزيوني من نيوزيلندا وفريق أسطول الحرية من قبل القوات الخاصة الإسرائيلية. لقد كانت عملية اختطاف وقرصنة غريبة في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط. جاءت البحرية الإسرائيلية بأكملها لاختطافنا، بمؤازرة الغواصات والطائرات".
ترى ناديجدا أن الرحلة إلى الماضي تصرف الانتباه عن أن الإسرائيليين "اليوم، في نهاية 2023، وبدون أي وجل، يناقشون كيفية إبادة مليوني إنسان. يذهلني أن زملائي في العالم قد تركوا الصحافة ويقاتلون من أجل إسرائيل". تعتقد أنه "من السهل على الأشخاص الذين لم يسبق لهم رؤية الفلسطينيين أو التحدث إليهم أن يتكون لديهم انطباع زائف.
وهذا النموذج من الرقابة والحظر هو ما نلمسه منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على صعيد عالمي، حيث تمكن الغرب عبر الصحافة المرئية والمكتوبة والمسموعة والإلكترونية من تعميم السردية الإسرائيلية، وتخطّى ذلك إلى ضبط شبه تام لوسائل التواصل الاجتماعي. وكل من يشذ عن هذه القاعدة ويتحدث من الصحافيين عن الفلسطينيين كبشر هو مهدد بالسحق وفقدان مصدر رزقه. هذه هي "الحقيقة" الوحيدة التي على العالم أن يسمعها، وقد صيغت في الدولة العبرية وعمّمها الغرب على العالم.
غزة 1847: رحلة من خان يونس إلى أسدود
22-10-2023
تقول ناديجدا إن "غزة أكبر معسكر اعتقال على وجه الأرض"، لكنها خارجه اليوم، ورغبت لو أنها هناك لتمارس مهنتها وتوصل الكلمة والصورة، لكنها في الوقت نفسه اليوم خارج معسكر اعتقال كبير رهيب آخر، هو معسكر غربي عالمي مخصص لقمع الكلمة والصورة، معظم زملائها وزملائنا رهائنه.
* اخترنا عدداً من صور ناديجدا التي كانت قد أدرجتها مع تحقيقاتها عن الحياة اليومية في غزة بعد عدوان "الرصاص المسكوب"، في مجموعة "أن تكون فلسطينياً" وكتاب "فلسطين المقاومة"، وهي في معظمها لأطفال، يُفترض أنهم باتوا اليوم في ريعان الشباب، إنْ لم يكونوا قد التحقوا بركب المستشهِدين منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى الساعة.