رقصة كريستال ميث: الانتحار العراقي

يبدو العالم مظلماً بالنسبة لمدمن الكريستال بعد انتهاء حالة اليوفوريا، حيث ينقلب الابتهاج والارتياح والتحرر والشعور باليقظة والتركيز والجرأة إلى نكوص نفسي واكتئاب شديد وأرق لا يعالج
2016-12-14

زاهر موسى

شاعر وإعلامي عراقي


شارك
بدر محاسنة - الأردن

حينما اتصلوا به ليبلغوه أن أخاه قد توفي نتيجة إصابته برصاصة طائشة، شعر الموظف الرفيع المستوى بحزن شديد، كانت خسارة بالغة الأثر بالنسبة له، رغم أنه لم يكن يلتقي بأخيه كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب عمله في بغداد. طوال الطريق إلى المحافظة الجنوبية التي ينتمي لها كان الموظف المتبغْدِد يلعن مطلقي الرصاص من مجانين الكرة أو ممن يقومون بواجب العزاء على طريقتهم البشعة عبر إفراغ مخازن الرشاشات في الهواء.
المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أن يكون عزاء أخيه فاتراً، وأن يبدو حداد أهله البسطاء شاحباً وبعيداً عن الوجع العراقي الصاخب. كان هذا مخالفا لما تعوّده من الجنوبيين، وخصوصا حينما يكون الميت قتيل الواجب. لاحقاً تم إبلاغه بحقيقة الأمر، قالوا له إنّ أخاه انتحر أثناء أداء عمله كشرطي في المخفر، والسبب الذي دعاه للانتحار هو الاكتئاب الشديد نتيجة تعاطيه مخدر الـ "كريستال ميث"، حيث وضع بندقيته أسفل ذقنه لتخرج الرصاصة من جمجمته بقسوة. لم تكن الأوراق الرسمية تذكر هذا الشيء وكل ما جاء في شهادة الوفاة هو أن الميت تعرض لإطلاق نار ليس إلا.

المخدر متوفر محلياً

يتم استعمال بلورات كريستال ميث مراراً عبر تعريضها للحرارة وشم الدخان المتصاعد منها، ويأتي تكرار حرقها أكثر من مرة ليزيد من سُمّيتها بالإضافة إلى استثمارها حتى أقصى حد، ويحمل المتعاطي أنبوباً زجاجياً وقداحة كمستلزمات ضرورية لاستنشاق "الشبّو" وهو الاسم المحلي للكريستال أو الـ "ميثامفيتامين".
البصرة، تلك المدينة المتروبولية التي لها سبعة منافذ برية وجوية وبحرية تعتبر مستنقع الكريستال الآسن. بعد سنوات من اكتشاف عصابات تهريب المخدرات فيها، بدأت مصانع هذه المادة تُضبط من قبل الأمن. آخر هذه المصانع تم ضبطه منتصف هذا العام. يعني هذا بالنسبة للمختصين أن المدينة لم تعد ممراً بل مقرا للمافيات التي تحاول إشباع رغبة المستهلك المحلي.
لم تكن الأمور بهذا الوضوح سابقاً وتحديداً قبل عام 2003، إذ كانت المعلومات غير متاحة بالإضافة إلى أنّ عقوبة الإعدام للمتاجرين بالمخدرات أثمرت رعباً في صفوفهم. غير أن بول بريمر، الحاكم المدني من قبل سلطة الاحتلال الأميركية للعراق، أبدلها بالسجن المؤبد. جاء هذا التغيير في ظل فساد كبير عمّ القضاء ووزارتي الداخلية والعدل، ما أفضى لإطلاق سراح حيتان الـ "كريستال ميث" وغيرها من الأصناف.
يبدو العالم مظلماً بالنسبة لمدمن الكريستال بعد انتهاء حالة اليوفوريا، حيث ينقلب الابتهاج والارتياح والتحرر والشعور باليقظة والتركيز والجرأة إلى نكوص نفسي واكتئاب شديد وأرق لا يعالج. إذا كان هناك المزيد من الميث فسيكون تجاوز تلك اللحظات السوداوية أسهل لكن مع قسوة الحياة في العراق يغدو الأمر صعباً. البعض يذهب إلى الانهيار، فمن خصوصيات هذا المخدر الإدمان السريع عليه، وظهور آثاره بوضوح على جسد المدمن. وهناك من يذهب إلى الانتحار بعد شعور خطير باللا جدوى.
من الصعب معرفة التفاصيل الدقيقة لعمليات الانتحار وأسبابها بسبب تكتم العائلات وشعورها بالعار جرّاء انتحار أحد أفرادها، بينما تتهرب وزارة الصحة من ذكر تفاصيل موت المنتحر بحجة عدم انتهاء التحقيق في موته لحظة إصدار وثيقة الوفاة. وفي ما يخص النساء، فليس هناك ما يشير إلى أن المخدرات هي أحد أسباب نسبة الانتحار العالية بينهن، لكن المعلومات شحيحة في هذا الجانب ونادرة جداً تبعاً لعادات المجتمع، ولذا يصعب الحكم.

مركز علاج وحيد في البلاد

مدير قسم الصحة النفسية بمستشفى البصرة العام كان واضحاً وجريئاً في تصريحه الذي أطلقه مطلع هذا العام، حين أشار إلى الفئة التي ينتشر بينها تعاطي الميث تنحصر في الشباب ابتداء بالمراهقين ووصولاً إلى طلاب الجامعات. وطالب بإنشاء مركز تخصصي لمكافحة المخدرات في المحافظة، وخاصة بعد رواج تعاطي الكريستال. مطالبة د. الصباغ بمركز تخصصي في البصرة يوضح حقيقة خطيرة تتعلق بوجود مركز واحد فقط لمكافحة الإدمان في العراق بأكمله. وبينما شرطة البصرة احتجزت ما يقارب الخمسمئة مدمن خلال أشهر قليلة هذا العام، فإن مقر مستشفى ابن رشد ذاك يقع على بعد خمسمئة كيلومتر. وهو يقدم خدمات علاجية عديدة، إحداها (وليس أهمها) جهود محاربة الإدمان.
منذ عام 2013، توقفت مفوضية حقوق الإنسان عن إعلان إحصائيات عدد المنتحرين في العراق سنوياً، وربما يأتي هذا لانشغالها بواقع الإنسان العراقي في ظل القتال ضد داعش. لكن 633 حالة انتحار وقعت في 2013 بزيادة بلغت 20 في المئة عن العام الذي سبقه، وهي يفترض أن تكون مؤشراً لحدوث تغير مريب في مستويات اليأس. وعلى الرغم من أن الباحثين يتحدثون عن البطالة والفقر وتأثيرات الحرب والعنف الأسري.. وهي أسباب منطقية جداً، لكن غالبية المدمنين قالوا في برامج متلفزة إنّ المخدرات كانت الطريقة التي تعاملوا بها مع أزماتهم. تكمن الخطورة في احتمال أن يكون ما يتم تعاطيه لتخفيف ضغوط الحياة من محفزات إنهائها عبر الانتحار.
أحد قضاة التحقيق في بغداد صادفته عشرات قضايا تعاطي الكريستال، ما يؤشر إلى انتقال أنشطة توزيع هذا المخدر السهل الصنع والنقل إلى العاصمة. يشير القاضي كامل إلى أن أغلب الدعاوى تتعلق بتعاطي الكريستال في المناطق الشعبية المكتظة بالسكان، في إشارة إلى الرصافة. هناك جانب آخر لا يتم الالتفات له، وهو سهولة تصنيع الكريستال حتى في المنزل وبمكونات متاحة في الغالب، فهو في النهاية مركب كيماوي وليس مستخلصاً من شجرة الكوكا كالكوكايين.
تزداد الصورة قتامة في العشوائيات والأحياء الفقيرة، حيث ينساب خيط دخان منبعث من يأس المعدمين المخلوط بالكريستال ميث، وتتكثف في الصدور المرارة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى لحظة الانزلاق نحو الهاوية.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه