السودان يستهلك أكثر مما ينتج، والحكومة تنتهج سياسات تعويم الجنيه الجزئية لجعل البنوك قادرة على الصمود أمام السوق السوداء للدولار، في محاولة لاستيعاب نتائج انفصال الجنوب وضياع النفط.. مما يفاقِم الأزمة المعيشية ويؤجج التوترات. بينما مشاكل البلد هي، عدا إهمال الإنتاج، الحصار الذي تمارسه الدول الغربية، وغياب الأمن والاستقرار في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان.
مساء الخميس الثالث من الشهر الماضي، دُعي رؤساء تحرير الصحف السودانية إلى لقاء عاجل مع وزير المالية ومحافظ بنك السودان. تأخر المسؤولان عن الحضور في الموعد المحدد، واتضح في ما بعد أن التأخير كان بهدف وضع القرارات التي ستُعلن موضع التنفيذ الفوري. وبالفعل فالذين عرجوا على محطات خدمة السيارات بعد ذلك وجدوا أن سعر ليتر البنزين زاد ستة جنيهات، وهناك زيادة أيضاً لمسها من ذهبوا للحصول على الكهرباء عبر برنامج الدفع المقدم.
عنصر المفاجأة لم يقتصر على الصحافيين والجمهور عموماً، بل شمل حتى التنفيذيين من كبار المسؤولين وسياسيي "حزب المؤتمر الوطني" الحاكم. ففي صبيحة يوم الخميس نفسه تلقى هؤلاء رسائل مستعجلة تطلب منهم حضور جلسة مجلس الوزراء التي أقرت فيها سياسة التعويم الجزئي للجنيه السوداني، ورفع الدعم عن مختلف السلع والخدمات. أهم عنصر في حزمة هذه القرارات ما أطلق عليه تطبيق "سياسة الحافز" الجديدة ورفع سعر الدولار في البنوك التجارية بنسبة 131 في المئة ليتساوى مع سعره في السوق السوداء وهو 15.8 جنيها سودانياً للدولار مقابل السعر الرسمي السابق 6.5 جنيهات. والفكرة أن تستطيع البنوك التجارية منافسة تجار السوق السوداء واستقطاب تحويلات المغتربين إلى داخل السودان عبر القنوات الرسمية، وتُقدَّر بحوالي خمسة مليارات دولار سنوياً. وقبل أيام من تطبيق ذلك القرار، أعلنت الحكومة تحرير سعر الدواء وإلغاء سياسة تخصيص جزء من عائدات الصادرات لدعمه. النتيجة المباشرة لهذه القرارات زيادة بلغت في المتوسط 30 في المئة في أسعار مختلف السلع والخدمات، وحتى الصحف التي انتقدت هذه القرارات وجدت نفسها ضمن تيار الزيادات، فرفعت سعر الصحيفة من ثلاثة جنيهات إلى أربعة وكذلك قيمة الإعلانات، كما ارتفعت قيمة تذاكر السفر بأكثر من 150 في المئة.
وأخيراً يبدو أنّ الحكومة قبلت بتجرّع الدواء المر دفعة واحدة، والتعامل مع الصدمة الاقتصادية الناجمة من انفصال جنوب السودان في 2011 وإقامة دولته المستقلة. انفصال الجنوب، إلى جانب تبعاته السياسية، صحبه ذهاب قرابة ثلثي الاحتياطيات النفطية المعروفة في السودان، وصادرات نفط خام بأكثر من 300 ألف برميل نفط يومياً كانت توفر للبلاد نحو 90 في المئة من مصادر النقد الأجنبي لديها ونصف إيرادات الموازنة العامة.
الذهب.. الذهب
عملت الحكومة بداية على التهوين من تبعات الانفصال الاقتصادية، وذلك لتجنّب تزامن الآثار السياسية والاقتصادية، وركزت على أن اكتشافات الذهب ستعوّض عن فقدان عائدات النفط، خاصة مع السماح للكثيرين بالعمل في التعدين العشوائي الذي انتشر في مناطق عديدة في السودان من الشمال وحتى دارفور التي تعاني عنفا مستمرا، وقدر عدد العاملين في تعدين الذهب بعشرات الآلاف، بل يعتقد أنه في الولاية الشمالية تجاوز عدد المعدّنين في وقت من الأوقات عدد سكان الولاية. ومع أن الحكومة أنشأت وزارة خاصة بالتعدين، لم تتحرك بالسرعة المطلوبة لتقنين أوضاع العاملين وأنشطة التعدين المختلفة. وعلى الرغم من تزايد كميات الذهب المستخلَص لدرجة أنه حاز نسبة 85 في المئة من إجمالي الصادرات، ذلك لم ينعكس بصورة واضحة على احتياطيات البلاد من العملات الصعبة، ذلك أن بنك السودان المركزي دخل مشترياً ومنافساً للتجار ومستخدماً سعر الدولار في السوق السوداء، الأمر الذي أسهم في زيادة نسبة التضخم، والاستمرار في تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار، وكانت 4 ج / د عشيّة انفصال الجنوب.
إلى جانب هذا، طرحت الحكومة برنامجاً للتركيز الاقتصادي لمدة ثلاث سنوات لامتصاص آثار صدمة الانفصال وللإفساح في المجال أمام البرنامج الخماسي الذي يفترض أن يضع قاعدة للاستقرار والانطلاق الاقتصادي. لكن النتائج المتحققة حتى الآن لا تشير إلى أن هذين البرنامجين عادا بالنتائج المأمولة. وعلى رأس قائمة الفشل أن الحكومة لم تستطع تقليص إنفاقها خاصة في ما يتعلق بعدد المسؤولين الدستوريين ومخصصاتهم، كما أن برنامج زيادة الإنتاج النفطي ومضاعفاته إلى نحو 200 ألف برميل يومياً لم تنجح، لعزوف الشركات الأجنبية عن الاستثمار، خاصة وهي ترى الحكومة تأخذ جزءاً من نصيبها لمقابلة احتياجات الاستهلاك المحلي وبدون أن تدفع قيمة النفط الذي تحصل عليه من نصيب الشركات، حتى بلغت مديونية الأخيرة على الحكومة نحو ملياري دولار.
إن مكوّناً رئيسياً من مشكلة السودان الاقتصادية يعود إلى أسباب سياسية، فهناك عدم الاستقرار الأمني في ولايات دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، بكل ما يعنيه ذلك من إنفاق عسكري وأمني، وهناك الحظر الاقتصادي الأميركي على البلاد الذي ألقى بظلاله حتى على التعامل المصرفي
وهذا ما يعيد القضية إلى النقطة المحورية، هي أنّ السودان يستهلك أكثر مما يُنتج، إذ تبلغ فاتورة وارداته بما فيها القمح نحو سبعة مليارات دولار بينما قيمة الصادرات تقل عن نصف هذا المبلغ.
سياسة ملاحقة السوق السوداء للدولار عبر سياسة الحافز التي تتبعها البنوك ليست جديدة، وتمّ تطبيقها من قبل ودون نجاح يُذكر، وذلك لسببين رئيسين: الحكومة نفسها هي أكبر مشتر للدولار عبر أجهزتها المختلفة، وبما أن العائد من الصادرات لا يفي بكل تلك الاحتياجات، فهي تلجأ إلى السوق السوداء لمقابلة احتياجاتها تلك، كما لا توفر البنوك للراغبين احتياجاتهم من العملة الصعبة، فيلجؤون إلى السوق السوداء. ثم إن البنوك والقنوات الرسمية لا تمتاز بالمرونة الكافية التي يوفرها تجار السوق الذين لديهم شبكة تواصل منتشرة، عملية وفعالة، خاصة للمغتربين المستهدَفين الرئيسيين بقرار التعويم الجزئي. ويمكن عبر هذه الشبكة توصيل ما يعادل دولاراتهم إلى أهاليهم داخل السودان في أي مكان وفي أي وقت، وهو ما لا تستطيع الحكومة منافسته. وهكذا تدخل السلطات في مباراة يسميها بعض الاقتصاديين "سباق الظل" وذلك برفع السعر الذي تعرضه البنوك الحكومية من دون أن تستطيع اللحاق بالمعروض في السوق. وبالفعل تجاوز السعر 16 و17 جنيهاً للدولار، حتى علّق بعض الظرفاء أنه مع بلوغ 18 جنيهاً فإنه سيبلغ السن القانونية، من ثم له الحق في التحرك مستقلاً ودون أن يسائله أحد!
رد الفعل
الظاهرة التي لفتت الانتباه بداية هي أن هذه الزيادات لم تقابل برد فعلي شعبي معارِض تلقائي، عدا بعض التظاهرات الصغيرة والمتفرقة هنا وهناك، التي لم تستمر لفترة طويلة. وفي تفسير ذلك هناك الجانب الإجرائي حيث أعلنت هذه الزيادات وبدأ تطبيقها مساء يوم الخميس وأعقبه يوما الجمعة والسبت وهما أيام عطلة. هذا إلى جانب أن الذاكرة الشعبية لا تزال تعاني آثار العنف الذي قمعت به الحكومة تظاهرات أيلول/ سبتمبر 2013 عند الرفع الجزئي لأسعار الوقود وقتها، ما أدى إلى اشتباكات وسقوط قرابة 200 قتيل في تقارير غير رسمية، وهو ما وصفتها الحكومة بأنها "محاولات تخريب" قامت بها بعض المجموعات المتمردة.
هذا بالإضافة إلى الشعور بأن هناك مشكلة اقتصادية عالمية بدرجات متفاوتة. ففي اليوم نفسه الذي صدرت فيه حزمة القرارات الاقتصادية هذه، شهدت مصر المجاورة قرارات مماثلة. على أن مواقع التواصل الاجتماعي ضجت بدعوة مجهولة الهوية إلى عصيان مدني لثلاثة أيام في 27 من الشهر الماضي، وهو ما حدث وبدرجات متفاوتة من النجاح. ومع أن تلك الدعوة لم تنته إلى شل الخدمات والمرافق الأساسية في البلاد، يعتبر التحرك رسالة ناقدة للطبقة السياسية سواء الحاكمة أو المعارضة، ويبقى الانتظار لمعرفة نتائج هذه الرسالة عليها، وأهم من ذلك ما إذا كان سيتم تطويرها بصورة فعالة. والحكومة استبقت دعوة العصيان بمراجعة لأسعار الدواء وخفض بعضها.
السياسة لا الاقتصاد
تبقى النقطة الأساسية: إن مكوّناً رئيسياً من مشكلة السودان الاقتصادية يعود إلى أسباب سياسية. فهناك عدم الاستقرار الأمني في ولايات دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، بكل ما يعنيه ذلك من إنفاق عسكري وأمني، وهناك الحظر الاقتصادي الأميركي على البلاد الذي ألقى بظلاله حتى على التعامل المصرفي، إذ تُحْجِم العديد من المصارف، حتى الإقليمية، من التعامل مع السودان خوفاً من أن تستهدفها العقوبات الأميركية، وكذلك العلاقة السياسية المتردية مع الدول الغربية عموماً والمؤسسات الدولية، ما حجب عن السودان نوافذ تمويلية كان يمكن أن توفر بعض الموارد.
ثم إن هذه القرارات قد صدرت عقب انفضاض تجربة الحوار السياسي الذي استمر قرابة العامين وانتهى منتصف الشهر الماضي بتوصيات كان يؤمل أن تفتح الباب أمام شيء من الانفراج وتوسيع هامش الحريات وإعادة تشكيل حكومة تستوعب فصائل سياسية أكثر، بما يوفر قاعدة أكبر للحكم. لكن صدرت القرارات الاقتصادية وكأن الحكومة ترسل رسالة أنها تريد الحصول على مبتغاها أولاً قبل دفع أي استحقاقات سياسية. ولهذا تصاعدت الدعوات بتجميد تطبيق هذه القرارات الاقتصادية حتى إنفاذ الجانب السياسي من توصيات الحوار. وهو ما لا يبدو في وارد التحقق، الآن على الأقل، الأمر الذي يشير إلى عودة الاحتقان السياسي مرة أخرى. الحكومة قد تتجه إلى تنفيس هذا الاحتقان عبر تشكيلة حكومية جديدة، وربما إضافة أعضاء جدد إلى البرلمان القائم بالتعيين. وخطوة مثل هذه قد تُحدِث بعض الانفراج وقد لا تحدثه، لكن تبقى الأزمة السياسية بعناوينها الاقتصادية والاجتماعية قائمة وشاخصة حتى إشعار آخر.